الجزء الرابع 4

وقف ريان يتخصر بيديه أمام والدته يطلب مسماحتها قبل أن يغادر في مهمته الجديدة والتي تتطلب حضوره بشكل عاجل، ظلت رقية تدعي غضبها منه و باطنها يمتلئ بالخوف و قلبها ينتفض فزعًا ورعبًا على فلذت كبدها الوحيد لذهابه مجددًا في تلك المهمات التي تستوجب وجوده والتي تكرهها بشدة وتنعتها بالانتحارية لكونها تحاف بالمخاطر من كل الجهات، فهو وزملائه يذهبون لمحاربة الفاسدين من الأرهابيين وتجار الأسلحة والمخدرات والذين يتسببون بضمائرهم الفاسدة بدمار الكثير من المجتمعات والدول الإ الذين رفضوا الأستسلام وتصدوا لهم بكل قوتهم ووقفوا في وجههم يحاربونهم ويدحرون مخططاتهم الهدامة ويلقونهم دروسًا يجعلونهم متيقنين أنهم ليسوا كغيرهم من الضعفاء اللذين رضخوا أمامهم وتركوا بلادهم وكرًا لعملياتهم ومخططاتهم القذرة، جلس ريان بجانبها يحاوط كتفها بيد و يمسك بيده الأخرى يدها يرفعها لفمه ويقبلها بكل تهذيب وإحترام، نظرت له رقية من زاوية عينها ثم أرجعت نظرها مرة أخرى تنظر أمامها، ابتسم ريان من فعلتها فهو يشعر بها وبمعناتها الداخلية فشطرًا منها يود معناقته وشطرًا أخر يدعي اللامبالاة.

- هتفضلي كدا كتير يا ست روكا؟.

لكنها ظلت صامتة لا تجيبه فأقتربه منها أكثر يلتصق بها ويميل برأسه على كتفها.

- ما هو انا مش همشي قبل ما تقوليلي أنك مش زعلانة وتدعي ليا زي عوايدك معايا قبل كل مهمة.

انفطر قلب رقية وشعرت بوغزات مؤلمة تنغزه فأنهار قناع البرود الذي ترتديه ومالت برأسها تسندها على رأسه وقد أنسابت حبات عينيها تتلألأ على وجنتيها تلهبهما.

- أنت عارف أن قلبي بيدعي ليك مهما كنت زعلانة منك يا نور عيني وكل دنيتي.

زفر ريان براحة وكأنه قد حاز نصيبه من الجنة فعلًا.

- بس لازم أسمعها من لسانك يا جنتي عشان قلبي يرتاح واحسن أنك مسمحاني وراضية عني.

أمسكت رقيه يديه تلحفهما بيديها وكأنها تخبأه عن كل المخاطر بذلك.

- قلبي وربي راضيين عليك وعمر قلبي وما زعل منك ولما بزعل مش بزعل منك بالعكس بزعل عليك، هو انا يعني ليا مين غيرك يا عمري كله.

أمأ ريان برأسه مؤكدًا أقتناعه بصدق أحساسها.

- عارف يا حبيبتي وعارف أنك أكتر حد في الدنيا دي ممكن يحبني ويخاف عليا، وعارف كمان أنك مش هتتأخري أنك تفديني بروحك، بس انا عمري ما تقصدت أعمل حاجة تزعلك بالعكس انا نفسي أفضل طول الوقت معملش غير اللي يرضيكِ وبس.

ربتت رقية على يده بحنو.

- اللي انا عايزاه منك بجد يا ريان هو أنك تتحكم في أنفعلاتك وغضبك ويبقى عندك ثبات داخلي، عشان متخسرش كتير بسبب عصبيتك دي يا حبيبي.

رفع ريان يد والدته مرة أخرى يقبلها بحب.

- حاضر يا قلبي اللي تأمريني بيه هنفذه ومن غير جدال وهدرب نفسي كتير على أني أتحكم في غضبي وأنفعالاتي بس أهم حاجة عندي رضاكِ عليا.

أبتعدت رقية عنه تنظر له ماليًا تتأمله بحب وشوق فهو نسخة مصغرة من والده الحبيب الذي غادر مبكرًا وتركهما وحيدين يواسيان بعضهما ويشدان أزر بعضهما البعض.

- قولت ليك قبل كدا عمري ما غضبت عليك ولا عمري هغضب يا نور العين، دا انا الود ودي أخبيك جوه في قلبي ومخليش نسمة الهوا تشوفك حتى، وكمان لو بأيدي مخلكش تروح لأي مكان تكون فيه بعيد عن عيني أو يكون فيه خطر عليك لكن هعمل أيه ما باليد حيلة.

ضحك ريان وهو ينهض من جوارها ثم مازحها.

- أه يا أمي مهما أكبر لسه في عيونك شيفاني الطفل الصغير اللي بيخاف ينام في سريره لوحده، خلاص يا حبيبتي انا خلاص كبرت وبروح انا وزملاتي في الشغل نحمي حدود بلادنا من العدو اللي عايز يدمرها ويدمر ولادها.

وقفت رقية أمامه ترميه بسهام عينها الخائفة وقلبها يدعي الله أن يحفظه لها دائمًا، ثم أمسكت ذراعيه بيديها تنظر له بقوة وهى توصله رسالتها.

- مهما كبرت ومهما قويت هتفضل في عيني أبني الصغير اللي بخاف عليه من نسمة الهوا لتلمس بشرته، يمكن متكونش حاسس بمشاعري دي بس اما تتجوز وتخلف هتحس ساعتها بكل أحساس خوف خوفته عليك وأنت مش معايا وحواليا، مهما الأنسان حب مش هيحب قد ضناه عنده الدنيا في كفة وهو في كفة تانية خالص.

زفر ريان بقوة ثم أقترب منها يضمها لصدره.

- لأ يا حبيبتي عارف وحاسس بيكِ ومقدر خوفك عليا، انا أسف أني زعلتك مني باللي حصل بيني وبين أبو ملك بس صدقيني غصب عني اعصابي فلتت مني ولقيت نفسي بدل ما أكسب أبوها في صفي وأطمنه من ناحيتي على بنته، لقتني ببعده وأخوفه عليها أكتر، معرفش انا ليه عملت كدا بس صدقيني يا ماما اللي انا متأكد منه أن لو الزمن أنعاد تاني هكرر اللي حصل تاني يمكن جنون أو طيش او يمكن مراهقة متأخرة سميها اي مسمى يعحبك، المهم أن أي حد هيفكر يبعدني عنها هقتل بدون تردد أو حتى ندم، معرفش انا أمتى أو أزاي اتعلقت بيها كدا وكل معرفتي ليها متتعداش الأسبوعين بس.

هزت رقية رأسها بيأس وهى تربت على يديه.

- مفيش فايدة فيك هتفضل طول عمرك عصبي المهم خليني في اللي عايزة أقوله ليك في الأول، أنت متعلقتش بملك وبس بالعكس أنت وقعت لشوشتك في حبها ولازم عشان تكسبها لصفك وتخليها تحبك هى كمان تروح تصالح والدها وتعتذر منه على عصبيتك معاه وتشرح له أنه ده من حبك الكبير لبنته.

هز ريان رأسه بعناد ورفض ما تقترحه والدته مصرًا على ما حدث منه.

- لأ مش قادر أصلًا أبص في وشه دلوقتي خليها لبعدين اكون رقت من ناحيته شوية، وبعدين صدقيني يا ماما انا مغلطتش عشان أعتذر منه بالعكس دا هو اللي استنفذ صبري وخلاني أتفجرت فيه وكان في اللي انا عملته لما أقترحت عليه حلول كتير وفي الأخر رفض بردو كل حاجة وأصر على أنه ميجوزهاش ليا.

كادت رقية أن تصرخ به عندما وجدته عقله مازال متيبسًا ومصرًا على عناده.

- أيه اللي بتقوله دا بس يا أبني هو أنت هتاخد بنته غصب عنه ما كل واحد حر في اللي يخصه يوافق أو يرفض فدا من حقه لأن دي بنته ومحدش هيخاف عليها قده ثم أنه قالك زي ما قالي قبل كدا أنه بيرفض من مبدأ أن بنته لسه صغيرة ومتتحملش مسؤولية جواز دلوقتي، يبقى نعذره في خوفه على بنته ولا نهب فيه وندور نتحداه ونتوعد له أننا هناخدها حتى لو غصب عنه، أصلها بقت قوة بقى.

أغمض ريان عينيه مكورًا يديه بغضب بعدما تذكر ما حدث قبل عدة أيام قليلة بمنزل جارهما.

- ودا اللي هيحصل أن شاء الله لو ربنا كتب ليا رجوع من مهمتي دي على رجليا هتجوزها حتى لو غصب عنه، لأن فعلا زي ما قلتي يا ماما مش مجرد أعجاب وتعلق بيها لأ انا حبيتها جدًا ومش شايف حد غيرها ينفع يكون زوجة ليا وعندي استعداد أقف في وش الدنيا كلها عشان تكون من نصيبي.

وجدت رقية أن لا فائدة من جداله حاليًا لذا قررت مجارته في رأيه مؤقتًا حتى لا تجعله يغادر وذلك الأمر يشغل باله أكثر من ذلك مما يؤثر على أدائه في مهمة عمله ويعرض حياته للخطر، لذا سألته سؤال واحد فقط قبل أن تنهي النقاش في أمر زواجه من جارتهما.

- يعني لو طلبت منك طلب واحد بس هترفض ولا هتقبل تعمله قبل ما تسافر لمهمتك.

نظر لها ريان متمعنًا في تقاسيم وجهها الحائر.

- أكيد لو في أستطاعتي مش هتأخر عن تنفيذه عشان خاطرك يا حبيبتي، انتِ تؤمريني أمر.

نظرت رقية أرضًا وفركت كفيها ببعضهما البعض وهى تتنبأ برد فعله أن سمع سؤالها.

- عايزاك تروح معايا وتراضي الراجل اللي أنت زعلته قبل ما تمشي حتى من باب أنه قد والدك في السن وميصحش اللي أنت عملته معاه وكمان عشان خاطر ملك متكونش زعلانة منك.

زفر ريان بضيق ثم هز رأسه يرفض بحيرة بعض الشيء.

- معلش يا ماما انا أسف مش هقدر دلوقتي خليها لما أرجع وأن شاء الله هروح له وأراضيه وهوصل معاه لحل وسط يخلينا منخسرش بعض مهما حصل.

أمأت له والدته بتفهم.

- خلاص براحتك يا حبيبي اللي تشوفه صح أعمله وانا مش هضغط عليك أكتر من كدا بالعكس هصبر وهدعي ربنا أنه يكتب ليك في كل خطوة سلامة وأن شاء الله ربنا يعدي الأزمة دي على خير وتوصل للي في نفسك وتحققه بكل سهولة ويسر.

ربت ريان على يديها برفق ثم أبتعد عنها متوجهًا لغرفته من أجل تبديل ملابسه كي يغادر لمهمته بعدما نظر في ساعة يده ووجد ان الوقت قد حان لرحيله.

- أن شاء الله يا أمي، معلش يا حبيبتي بعد أذنك انا هروح عشان أغير هدومي وأجهز لأن يدوب العربية بتاعت الشغل هتعدي عليا بعد أقل من نص ساعة.

خطت رقية خلفه وهى تطالبه بقول الدعاء الذي تلقيه على مسامعه عند مغادرته لأي مهمهة.

- ماش يا حبيبي انا جاية عشان اساعدك  في تجهيز شنطتك بس بالله عليك يا قلبي ما تنسا تقول دعاء حفظ النفس اللي خليتك تحفظه عشان ربنا يردك ليا سالم غانم أن شاء الله.

أغمض ريان عينيه وهو يومئ لها ويردد الدعاء حتى يتركها وبالها مطمئن عليه، وعندما أنتهى من ترديد الدعاء أتجه لخزينة ملابسه يخرج منها بعض القطع القليلة التي يريدها ويعطيها لوالدته تدثها له في حقيبة يده متوسطة الحجم وما أن أنتهى من أخراج الملابس حتى أخذ أخرى في يده ودخل للمرحاض غرفته يرتديهم على عجالة وهيئ نفسه من أجل الذهاب، لكنه لم يستطيع المغادرة قبل معناقة والدته وضمها لصدره يشتم رائحة الحب والأمان المنبعث من عبقها الذي يطمئن قلبه أن القادم أفضل بإذن ربه، أبتعد عنها وقبل يديها بتقدير وأحترام ثم حمل حقيبته وغادر الغرفة وهى خلفه حتى باب المنزل ثم استدار يشير لها برفق حتى تبقى بالداخل.

- عشان خاطري يا ماما خليكِ هنا ومتخرجيش ورايا أصل انا عرفك يا روكا هتعيطي وانا قلبي هيوجعني لو شوفت دموعك الغالية عليا ومش هعرف أعملك حاجة وانا ماشي خلاص، تمام يا حبيبتي.

تجرعت رقية ريقها عدة مرات حتى تسيطر على نوبة البكاء التي تجتاحها عند ذهابه لكل مهمة تخص عمله، ثم أمأت له وعيناها تلمعان.

- حاضر يا حبيبي مش هخرج ومش هعيط كمان لأن انا واثقة أن ربنا عيردك ليا سليم معافى بأذنه ومشيئته.

ثم أشارت له وهى تقف في مكانها.

- استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، اللهم أحفظه لي وبارك في عمره وفرحني بيه يارب.

ابتسم لها ريان وأشار لها مودعًا ثم فتح الباب وخرج واغلقه خلفه واتجه للمصعد ينقر زر استدعائه، لحظات وانفتح بابه أمامه فدخل ريان وضغط زر الهبوط ووقف ينتظر يتطلع لنفسه بالمرأة المعلقة على جانبه وحديث نفسه يدوي بداخله، فكم ودا لو رأها قبل ذهابه حتى يشبع شوق عينيه لها و لنظراتها الساحرة تلك الفتاة الوديعة كهرة مسالمة و التي نجحت في خطف قلبه وأنفاسه برقتها البالغة وملامحها الهادئة وخلوقها الرفيع، فهى مثال للأنثى الكاملة من وجهة نظره فهى ذات جمال فاتن و خلق دمث، فزفر بضيق لعدم تمكنه من رؤيتها رغم محاولاته المتعددة لكن على ما يبدو له أن والدها يبالغ في حمايتها واخفائها عن عينيه حتى يشدد من عقابه على تطاوله عليه، زفر ريان بقوة وهو يهنئ ذلك المسن على نجاحه في عقابه له فبعد ملك عنه هو العقاب بعينه، وما أن وصل المصعد للطابق الأرضي حتى فتح بابه عن أجمل شيء رأته عيناه فقد كانت حوريته وجوهرته الثمينة تقف أمامه تنتظر نزوله حتى تصعد به لمنزلها، اختلج وجه ملك بالخجل وتلون بدمائها الحمراء ففور رؤيته فزع قلبها فرحًا من مرقده يرقص على أنغام شوقه له وكم ود لو عانقه حتى يروي ظمائه لرؤيته.

- ملك
خرج إسمها من بين شفتيه وكأنه بيت شعر يقص أجمل معاني الحب فنجح بأسرها في هواه كما أسرته هى الأخرى وتعادلا طرفي المعادلة لتصبح تجربتها ناجحة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي