43

أماندا
صراخٌ ذو نبرة أنثوية ينشطر له القلوب إلى أشلاء تردد صداه ليعم بعده السكون المنذر بوقوع مكروهٍ ، وصاحبة الحاجة بدأت تلتمس بتضرع ، ولكنني لم أفسر ما هو مطلبها على وجه التحديد .

نهضتُ عن فراشي وأخذتُ أتتبع مصدر الصوت ، وذلك بعدما قضيتُ ليليلتين كاملتين حبيسة غرفتي ألوم حالي ؛ لأنني لم أُطلع أخي ألكساندر عما انكشف أمامي من مكائد وأسرار .

كيف لي أن أفعل ؟! فإذا  كان سلطان ألكساندر لم يردع ريتشي وهيلا عن تدبير جريمتهما بحق صوفيا رفيقة ألفا أقوى قطيع بل والمُهين على أغلب القطعان التي تقطن الجوار ، فماذا عمن لا حامي لها ؟! أختي لوسيا !!

بنظرة ثاقبة يمكنني أن أعلم بأنه إذا استغرق منهما التخطيط لمقتل صوفيا وقتاً وجهداً ، فالخلاص من لوسيا سيكون بطرفة عين ولن يشعر أحداً بغيابها ، ولن يحترق بنار فراقها سواي ، لذا التزمتُ الصمت .

على أي حالٍ لقد طلبتُ من ألكساندر بعد خروجنا من جناح أمي أن يأمر بجعل لوسيا الوصيفة الخاصة بي ؛ حتى أضعها تحت رعايتي الكاملة ، وأنبهها بألا تثق بأيّ مَن كان داخل القصر .

في البداية شك ألكساندر بأن هذا هو سبب مطلبي للانفراد به ، ولكن تحت إنكاري لوجود أسبابٍ أخرى ، امتثل إلى رغبتي .

بات التعامل بتحفظٍ مع أختي لوسيا أمراً مرهقاً ، فكثيراً ما أردتُ أن أنعم بدفء أحضانها ولكنني لن أنبش جراح الماضي الآن ، على الأقل حتى أعلم مجريات الأمور لإنقاذ صوفيا بالأول ، فهي بأمس الحاجة لأوليها كامل انتباهي علَّني أتمكن من مساعدتها .

نفضتُ مخاوفي التي تتسارع برأسي ككلابٍ مسعورة ، وخرجتُ من غرفتي وقد انتابني الفضول لأعرف سبب ما يحدث بباحة القصر .

أخذتُ أحدق بأمي التي ثارت دون سببٍ وجيه ، تصرخ عالياً بوجه وصيفتها الراكعة على ركبتيها أرضاً أمامها تمسك بكف يد ملِكتها ، تقبله بإذلال ،
ولكن قُبِلت تلك المسكينة بالإزدراء ، إذ أردفت أمي تقول ،

- " كفاكِ إلحاحاً أيتها المعتوه ، أنا لن أتراجع عن قراري من أجل حثالةٍ مثلكِ ، كما أن هناك عملٌ بانتظاركِ " .

الخادمة بتوسلٍ ،
- " مولاتي ... أنا أطمع في أن ترأفي بي وبحال ابنتي المريضة ، إنها تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة ، بحق الآلهة دعيني أذهب إلى الحكيم لأجلب لها الوصفة التي يعطيها إياها عندما تداهمها نوبة المرض ، أرجوكِ سيدتي " .

وبدمٍ بارد أثنت أمي ركبتها تركل الخادمة بحذاءها الفاخر في استعلاءٍ ، تقول باستحقارٍ وكِبر ،
- " ابعدي يدكِ عني ، ولا تزعجيني بتفاهاتكِ ، دعيها تموت حتى ننتهِ من تلك القصة " .

شهقت الخادمة تهز رأسها بقلة حيلةع، والدموع تنهمر على وجنتيها كالشلال ، وجسدها المتكوم أرضاً أخذ ينتفض مستعطفاً ذات القلب القاسي التي رمقتها بلا مبالاة واستدارت ؛ لتغادر .

ظلت عيون الخادمة تحملق بالحضور علَّها تجد من بينهم مَن يستطيع أن يُرقق قلب تلك المتجبرة وذلك بعد أن تجمع عدد من الخدم إثر صراخها المكبوت وتوسلاتها التي لم تجنِ من وراءهما سوى الصد والمهانة .

بينما تجلس هيلا على إحدى الأرائك واضعة ساقٍ فوق الأخرى بغطرسة ، تتابع ما يحدث وكأنها تشاهد عرضاً ساخراً والابتسامة ترتسم على وجهها القميء ، حقاً إنها بغيضة .

أردتُ التدخل ولكنني أعلم أمي جيداً ما إن تضع شيئاً برأسها اليابس هذا ، فما من قوة على وجه الأرض يمكنها أن تثنها عنه ، وأي تصرف من قِبلي في الوقت الراهن سيزيد الوضع سوءاً ، ووصيفتها أيضاً تعلم ذلك جيداً ، كان بإمكانها اللجوء إلى أحد الحراس سراً كي يذهب عوضاً عنها إلى الحكيم .. أي غباءٍ هذا !!

لم تيأس الأم بل زاد نحيبها وأخذت تنادي بأعلى صوت لها ،
- " مولاتي .. مولاتي ... رجاءً لا تفعلي هذا بي ، وتذكري أنكِ أُمٌّ أيضاً ، إنني أناشد غريزتكِ كأنثى بأن تضعي نفسكِ بموقفي " .

التفت إليها أمي بعصبية ، وهي تزمجر بغضب ، مردفةً ،
- " سحقاً لكِ يا عديمة العقل ، هل تقارنين نفسكِ بي .. أنا ... الملكة ريتشي " .

علمتُ الآن لم البسمة الماكرة تعلو ثغر هيلا ، وذلك ما إن علا صوت صوفيا التي هرعت لتساند الخادمة وهي تحثها على الوقوف على قدميها ، محاوطة إياها بكلا ذراعيها بحماية ، تربت على ظهرها بحنو ، متمتمةً ،
- " اهدئي عزيزتي ، واخبريني ماذا هناك ؟ " .

تشبثت الخادمة بيد صوفيا تستكمل واصلة تمثيلها ، أجل لقد اتضح الآن أنه عرضاً من إعداد وإخراج ثنائي الشر ، وتلك الخادمة تردد بهيستيريا ،
- " اغيثيني سيدتي ، ابنتي تحتضر " .

لولا متابعتي لردود أفعال أمي وهيلا لخال علي أداء الخادمة ، ولكن بما أن لا علم لصوفيا بما يدور ؛ كوبت وجه الخادمة براحتيها تزيل عنها دموعها الزائفة بإبهاميها ، مردفةً بشفقة صادقة ،
- " لا تقولي هذا ، سننقذها لا تقلقي ، خُذيني إليها ويمكنني إسعافها " .

ارتبكت الخادمة ، تقول بتلبكٍ ،
- " لا سبيل لإنقاذها سوى بأن يحضر لها أحدهم العلاج من بيت الحكيم ومولاتي الملكة أمرت بعدم خروجي من القصر " .

صوفيا بطيبة ،
- " يمكنني أن أدويها هنا ، فقط اطلعيني على حالتها " .

تمادت الخادمة في ارتجالها تقول ،
- " أنا لا أفهم بتلك الأمور ... الحكيم هو من يتابع حالتها ، كما أن الوقت يداهمنا وحالة ابنتي تسوء " .

هرولت صوفيا ، تصيح في الحرس المرابطين أمام بوابة القصر ،
- " أنتم!! ألا يوجد فيكم من بقلبه شيء من الرحمة لإغاثة تلك المسكينة ، فليذهب أحدكم إلى بيت الحكيم ليجلب الدواء من أجل ابنتها المريضة " .

قالتها وهي تشير بيدها إلى الخادمة ، ويسارها توكز ذراع الحارس الذي اعترض طريقها ، ومن ثم أجابها بصرامة ،
- " لقد أمرت جلالة الملكة بألا يبرح أي منا مكانه حتى عودة مولاي ، من فضلك سيدتي لا تتسببي لنا في عقاب ، نحن ننفذ الأوامر " .

التفتت صوفيا تتنقل بنظراتها ما بين أمي وهيلا ، ترمقهما بخيبة ، بينما أردفت أمي تقول بتحدٍ ،
- " لا سلطة لكِ على أحد هنا ، فإذا أردتِ مساعدتها فلتذهبي أنت إلى الجحيم علَّني استريح من رؤية وجه الشؤم خاصتك " .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي