الفصل السابع عشر

أرخى قبضته قليلا فتنفس عمارة قليلا، ثم عاد ليجلس على الكرسي بطريقة صحيحة بعدما انكمش جسده، وكاد يسقط أرضا هروبا من فؤاد، وضع آسر أمامه
كوبا من الماء مشيرا إليه أن يشربه، حمل الكوب
بأنامل مرتعشة بينما كتفه يقطر دماً، ليرتشف منه
قليلا..
-  أنا أريد مصلحتك يا عمارة؛ فالسكوت لن يفيد
موقفك، بل سيزيد من إدانتك خاصةً أننا وجدنا داخل
الفيلا وبجوار الجثة محبسا يحمل اسمك واسم
زوجتك.
التزم الصمت ولم ينطق، استدعى آسر العسكري
ليعيده إلى غرفة الحجز؛ حتى يستعيد ذاكرته ويخبره بالحقيقة.. خرجا من غرفة المكتب معاً.
التفت آسر نحو فؤاد قائلا بنبرة حادة يملأها الغضب:
-  هذا آخر تحذير لك، لقد أخبرتك سابقا أن هذا
الاسلوب لا يصح استخدامه؛ نحن هنا لنحقق العدالة، ولنثبت الحقيقة وليس الزيف.
-  أنا أعرف هذه الشخصيات لا تقول الحقيقة إلا
بالعنف.
طلب العسكري الدخول فأوقف حديثهم..
-  هناك شخص بالخارج يريد مقابلتك سيدي؟
ثم قدم له كارت التعريف الخاص به، تأمل آسر الاسم، ثم طلب من العسكري السماح له بالدخول، سأله
محمد:
-  مَن صاحب الكارت آسر؟
-  عصام أمين الصحفي.
-  وماذا يريد؟
-  سوف نعرف الآن..
دلف عصام إلى المكتب؛ ليُعرّف نفسه للجميع:
-  ادعى عصام أمين، أعمل صحفيا لدى جريدة
الأمل.
صافحه آسر، ثم طلب منه الجلوس
-  اهلا وسهلا، كيف أساعدك؟
-  قبل عدة أسابيع وردني اتصال من رقم مجهول
يخبرني بوجود مستندات هامة تخص قضية شائكة
كنت قد نوهت عنها في عدة مقالات سابقة بطريقة مبطنة؛ لأنني لم أكن أملك أي دليل حتى حصلت على تلك المستندات التي تثبت شكوكي، بالأمس نشرت مقالا جديدا يخص هذا الموضوع إلا أنني تلقيت
مكالمات تهددني بأن أوقف تلك الحملة، وألا سأخسر حياتي وحياة من أحب.
-  هل يوجد لك أعداء؟
-  لا.
-  أين تلك الأرقام؟
-  إنها أرقام خاصة.
-  لا داعي للقلق؛ سوف نعمل على معرفة مَن
يهددك.
-  أشكرك.
خرج عصام واتجه إلى مقر الجريدة، ليجد مفاجأة في
انتظاره.
*****
ما إن وصل عصام إلى الجريدة حتي وجد الكثير من
الهمس والفوضى على غير العادة، اقترب من زميل
له يسأله:
-  ماذا يحدث هنا؟ ما كل هذه الفوضى؟
-  لقد حدث الكثير، بالأمس تم تعيبن رئيس تحرير
جديد للجريدة، والآن يطلب الجميع لاجتماع طارئ.
-  ما هذا التخريف؟ أين ذهب السيد مرزوق؟
-  لا أعرف، نصيحة مني عليك تحضير ملف كامل
عن مقالاتك، وما تنوي نشره خلال الفترة القادمة.
-  ولمَ هذا؟
-  إنها أوامر رئيس التحرير الجديد.
-  لابد من مقابلة السيد مرزوق أولا.
تركه عصام، واتجه مباشرة إلى منزل السيد مرزوق.. لم يختلف الوضع كثيرا داخل منزل السيد مرزوق؛ فزوجته وأولاده يستمعون لصراخه ويتقبلون غضبه على أمل
أن تمر هذه الأزمة ويهدأ، دلفت زوجته إلى غرفة
المكتب لتعيد ترتيب الكتب التي تحولت من غضبه
إلى ضحايا سكنت أرضيتها الرخامية، رنَّ جرس الباب
مرتين، أتى صوت مرزوق صارخا بغضب:
-  الباب..
أجابته ابنته:

-  إنه الأستاذ عصام أمين يطلب مقابلتك
-  دعيه يدخل.
تقدم عصام باتجاه الصوت بعدما أشارت اليه ابنة
مرزوق أنه داخل الحديقة ثم اختفت، جلس مرزوق
بجوار نباتاته الخضراء يجتث الحشائش الضارة التي
تضرها:
-  صباح الخير أستاذ مرزوق.
رمقه بنظرة حارقة مجيبا:
-  أين الخير؟ أين العدل في هذا الصباح؟
-  ماذا حدث أستاذي؟
-  تم الاستغناء عني بسببك.
صُعق عصام عندما سمع ما قاله مرزوق:
-  بسببي أنا!
-  بالتأكيد، بالأمس وردني اتصال برفع مقالتك، وإلا سوف أندم، عليك الحرص من القادم، فأنت القادم لا
محالة.
ضحك عصام ليجيبه:
-  لقد تم تهديدي فعليا، أنا لا أهتم لحياتي؛ فكل ما يشغل بالي هو والدي.
-  عليك حمايته؛ فمن يهددك ليس بالشخص
السهل.
-  أعلم هذا لذا تقدمت اليوم بطلب للحماية من
الشرطة.
-  عليك توخي الحذر، ولا تأمن لأي شخص، فصديق الأمس من السهل جدا أن يصبح عدو الغد.
-  بالتأكيد، أتمنى أن تسامحني.
ضمه مرزوق إلى صدره:
-  أنت بمثابة ابن لي، مهما غضب الأب يظل دائما
يهتم لأمر أولاده.
-  أشكرك سيدي على كل ما قدمته لي، وما
علمتني إياه.
تركه عصام عائدا إلى مقر الجريدة لمقابلة رئيس
التحرير الجديد.
لم يختلف الوضع كثيرا فمازال رئيس التحرير الجديد
يتابع اجتماعه مع الصحفيين:
-  أستاذ عصام، رئيس التحرير يريدك.
-  حاضر.
جمع عصام ملف مقالاته ليقدمها لرئيس التحرير،
داخل مكتب رئيس التحرير وجد عصام رجلا في أواخر
الخمسينات، زحف شعره للخلف عدة سنتيميترات،
رمادي اللون، يرتدي نظارات طبية.
قدم له عصام الملف الذي يحتوي على مقالاته
الجديدة إلا أن السيد هشام محمود رفض مقالاته،
واتهمه بقلة الموضوعية وعدم الشفافية:
-  ما هذه الاتهامات سيدي؟ كل هذه المقالات
معتمدة على مستندات حقيقة والسيد مرزوق قرأها
بنفسه وتأكيد ذلك.
هبَّ هشام بغضب:
-  السيد مرزوق فُصل، وتلك المستندات لا تمت
للحقيقة بصلة، وهذا قراري النهائي.
أنهى كلماته ملقيا الملف الخاص بعصام أرضا لتتناثر الأوراق من داخله، جمع عصام أوراقه، وغادر مكتب
رئيس التحرير وبداخله بركان ثائر، دلف لمكتبه وكل
ما بداخله قرار واحد وهو البعد عن هذه البيئة
الملوثة، خط استقالته وقام بتقديمها لرئيس التحرير الجديد، ثم غادر وهو ينوي البحث عن جريدة جديدة
للعمل بها، عاد إلى منزله على أمل الحصول على
قسط من الراحة إلا أنه وجد مفاجأة في انتظاره.
وجد المنزل منقلباً رأسا على عقب، ووالده مشجوج
الرأس يحاول أحد الجيران مداواته هرول عصام نحوه، وهو يسأل كل مَن يقابله:
-  ماذا حدث؟
-  هجم على منزلك بعض اللصوص وقاموا
بمهاجمة والدك.
جلس تحت قدم والده يسأله:
-  هل أنت بخير؟ سامحني أبي، أنا السبب فيما
حدث لك.
مس والده على رأسه ليطمئنه:
-  قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
-  ونعم بالله.
-  ما حدث لي مكتوب عند الله فلا تحمل نفسك
ذنبا ليس لك يد فيه، عليك متابعة عملك.
-  عن أي عمل تتحدث؟ لقد تركت الجريدة اليوم،
رئيس التحرير الجديد رفض نشر مقالاتي، من الواضح
أنها لاقت رفض الكبار وسببت لهم العديد من
المشاكل.
-  عش الدبابير خطر يا بني؛ عليك الحرص أثناء
التعامل معهم وإلا ستدفع حياتك مقابل كشف
أسرارهم.
*****
عادت فاطمة من المشفى بعدما أخبرها الطبيب أن ما حدث لوالدها بسبب ارتفاع نسبة السكر في الدم، وأنه الآن تحت الملاحظة، وسوف يخرج في الغد..
تركت والدتها معه، ثم عادت للاطمئنان على
أطفالها وشقيقتيها، سألتها ابتسام:
-  كيف حال والدي الآن؟ وأين هو؟ وأين والدتي؟
-  هو بخير الآن، الطبيب أخبرني أن ما حدث سببه
ارتفاع نسبة السكر.
-  لكن والدى لم يشتكِ يوما من السكر.
-  هذا ما حدث، مؤكد أن الأحداث التي مرَّ بها هي
السبب في ذلك، أخبريني هل وجدتِ أي دليل عن
ذلك الشاب الذي أخبرتني عنه؟
قبل أن تجيبها ابتسام سمعت صوت أنَّات آتية من
غرفة شقيقتها، فدلفتا إلى الغرفة لتجدا أمل
استعادت وعيها من جديد، احتضنتها ابتسام، وهي
تبكي:
-  حمدا لله على سلامتك، لقد خفت عليكِ كثيراً.
ضمَّتها بوهن، وهي تسألها:
-  ماذا حدث لي؟
-  أنتِ فاقدة للوعي منذ يومين.
اقتربت فاطمة منها بعيون تطلق نارا:
-  أخبريني الآن باسمه قبل أن أقتلك.
-  مَن تقصدين؟
لكزتها ابتسام بخفة لتخبرها بصوت خافت:
-  فاطمة تعلم بأمر الطفل.
ازدردت ريقها بصعوبة، لتجيب بصوت يكاد يُسمع:
-  خالد تزوجني، وكنا سوف نخبر الجميع.
انهالت عليها فاطمة بالضرب، وهي تصرخ:
-  عن أي زواج تتحدثين، الزواج إشهار، وليس سرقة في الخفاء.
خرجت حروفها من بين دموعها:
-  أعرف أنني مخطئة، لكنني أحبه.
-  أريد عنوانه، رقم هاتفه، لابد أن يصحح خطأه قبل أن ينكشف حملك.
أخبرتها أمل بحقيقة خالد، ومَن هو والده:
-  سوف أتصل به لنضع حلا لهذا الأمر.
حاولت فاطمة الاتصال بالرقم عدة مرات، إلا أنه كان خارج نطاق الخدمة.
في نفس اللحظة، وعلى مقهي الحي، كان الأستاذ
عدلي المحامي يخبر المعلم حسني صاحب المقهى بما حدث بين عمارة وتامر في الحجز، وأنه – عمارة - سيظل داخل القسم عدة أيام، فما كان من المعلم
حسني إلا أن أمر فتى المقهى بالذهاب لفاطمة؛
ليخبرها بما حدث.
*******
أمام منزل آسر، وقف شاب في منتصف العمر يرتدي سروالا زيتيا، وقميصا لونه بيج، وقبعة بنفس لون
السروال.. تقدم الشاب يسأل البواب عن رقم شقة
السيدة ريم:
-  السيدة ريم غير موجودة، ماذا تريد؟
-  يوجد طرد باسم السيدة ريم، ولابد أن تستلمه يدا بيد، عندما تصل إلى المنزل سلم لها هذا الايصال؛
لكي تحضر لمقر الشركة، وتستلم الطرد الخاص بها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي