الفصل الخامس عشر

اتصل محمد على آسر عدة مرات، لكن بلا فائدة، نظر
إلى الساعة وجدها الحادية عشر صباحا، ولا زال
مختفيا، سأل فؤاد عنه فأخبره أنه لم يره منذ الأمس.. انتابه القلق على صديقه، فقرر أن يذهب إلى منزله
للاطمئنان عليه، لكنه لم يجده، سأل عنه بواب
عمارته:
-  هل رأيت آسر بك؟
-  خرج منذ الأمس ولم يعد.
توجه نحو المشفى العسكري حيث توجد ريم زوجته علَّه يجده هناك، وحينها صدق حدثه:
-  لماذا لا ترد على هاتفك؟
-  سامحني بالأمس هاجم المخاض ريم هرولت إلى هنا، ونسيت الهاتف بالمنزل.
قبل أن يرد محمد حمل آسر ابنه، ووضعه بين يد
محمد، ارتعد جسده تلقائيا حينما لامس بشرة ذلك
الكائن الصغير، نسى سبب قدومه والقضية، ظل
يتأمله وهو يدعو له بالسعادة وطول العمر أمَّن كل مَن بالغرفة على دعائه، بينما حملته والدة آسر من
بين يديه لتدعهم يكملون عملهم، وتعيده لوالدته
حتى تطعمه، قبَّله آسر، ثم غادر مع محمد ليسأله عما حدث:
-  ماذا حدث؟ هل هناك مستجدات جديدة بخصوص القضية، فما حدث بالأمس جعلني أفقد كافة
الخيوط.
-  أولا علينا استجواب بنات عثمان؛ فأنا أشعر أنهن يخفين شيئاً، والا ما كان ذهب صابر إلى الفيلا.
ثانيا: علينا زيارة هنادي واستجوابها.
-  هيا بنا إذا لمنزل عثمان، لكن يجب أن أمر على
المنزل لأبدل ملابسي، وأحضر الهاتف.
-  حسنا، هيا بنا.
خرجا معا من المشفى لمنزل آسر، ومن بعده إلى
منزل عثمان بحي السيدة زينب ليسألا شقيقتي
سوزي.
وصلت فاطمة مع زوجها وأبناءها للاطمئنان على
حالة شقيقتها:
-  كيف حال أمل اليوم؟ هل استعادت وعيها؟
-  للأسف لا، لازالت على حالها.
-  أين ابتسام؟ هل ذهبت إلى المدرسة؟
-  لا، نائمة بالداخل؛ فهي طوال الليل مستيقظة
بجانب أمل.
-  حسنا، سوف أدخل لأطمئن عليهما.
تركت والدتها، وبداخلها شك ينتابها لا تعرف سببه؛ فما حدث من أمل يثير الشبهات نحوها، لكن ترى
ماذا تُخفي؟
دخلت إلى الغرفة، لكنها لا تعلم من أين تبدأ البحث، وهل ما تخفيه أمل مرتبط أيضا بابتسام؟ أم يخصها هي وحدها؟ هل له علاقة بسنية؟ ظلت تفكر لكنها قررت أن تسأل ابتسامـ وإن لم تخبرها الحقيقة
فسوف تخبر والديها بأن هناك أمرا مخفيا، وتترك
لهما التصرف:
-  ابتسام.. استيقظي.
تململت من نومها على صوت شقيقتها لتسألها:
-  ماذا تريدين يا فاطمة؟ أنا لم أنعم بالنوم إلا منذ ساعة واحدة، اتركيني؛ لن أذهب اليوم للمدرسة.
-  لن أدعك تنامين حتى تخبريني بالحقيقة.
-  عن أي حقيقة تسألين؟
-  ماذا تخفي أمل عنا؟
رفعت كتفيها عاليا نحو رأسها :
-  لا أعلم، عندما تستعيد وعيها اسأليها عما
تُخفي.
-  بل تعلمين وإن لم تخبريني فسوف أخبر والدينا.
اعتدلت في جلستها تتوسل لها:
-  لا تقحميني في أمر لا يخصني، أنا لا أعرف شيئا.
-  بل تعرفين، ماذا كانت تخفي أمل بالأمس؟ هل
رسبت في امتحاناتها؟
-  لا أعرف.
-  حسنا.. سوف أخبر أمي.
-  بالله عليكِ يا فاطمة، لا تخبريها، لن تقوى على
استيعاب الأمر.
-  هذا يعني أنكِ تعرفين شيئاً.
دمعت عيناها، ثم أومأت برأسها إيجابا، فقالت لها
فاطمة:
-  إذا أخبريني، ماذا تخفي أمل؟
قبل أن تخبرها سمعت دقات على باب الشقة:
-  سوف أعود حالاً.
خرجت فاطمة لتعرف من الطارق، بينما ابتسام ظلت تنظر نحو شقيقتها، وهي تحدثها:
-  سامحيني يا أمل، لكن لابد من حل لتلك
المعضلة، فبعد وفاة سوزي لن أستطيع أن أثق بأحد غير فاطمة.
فتحت فاطمة الباب لتجد أمامها كل من آسر ومحمد يسألان عن شقيقتيها، خرج والدها يسأل عن الطارق، فأخبرته أنه الضابط المسؤول عن حادث قتل سنية،
ما إن سمعت والدتها باسمه حتى خرجت مسرعة
تتعثر على وجهها لتسأله:
-  هل ألقيت القبض على الجاني؟ هل عرفت مَن
حرمني من نور عيني وفرحتي؟
ربَّت على كتفها ليخبرها أن التحقيق مازال مستمرا، وأنه لن يهدأ حتى يعثر على الجاني ويقتص لقتلها،
سأله عثمان:
-  طالما لم تلقِ القبض على الجاني، لماذا أتيتَ إلى هنا؟
-  أريد مقابلة ابتسام وأمل لسؤالهما عن حادث
سوزي.
ردت فاطمة:
-  أمل مريضة منذ الأمس، كما أن الطبيب أمر
براحتها وعدم تعرضها لأي ضغط.
-  سامحيني، لكن هذا عملي، ويجب علىَّ أن أنهيه.
-  أخبرتك أنها فاقدة الوعي ومريضة منذ الأمس.
-  حسناً، سوف أنتظرها.
تأففت فاطمة من إصراره، حاولت أن تثنيه على قراره، لكن بلا فائدة، تدخل محمد قائلاً:
-  أعلم أن مصلحة شقيقتيكِ تهمكِ لذا عليكِ
مساعدتنا للقبض على الجاني، ثم إن شقيقتيك كانتا تعتادان زيارة سوزي داخل فيلتها، وهذا كفيل
بجعلهما طرف في الجريمة، فمن الأفضل سؤالها
الآن بدل من سؤالهما أمام وكيل النيابة وتعرضهما للصحافة ومضايقات المخبرين والمذيعين.
-  صدقني أمل فاقدة وعيها منذ الأمس.
-  حسنا وأنا أصدقكِ، سوف أسأل ابتسام، وعندما
تستعيد أمل وعيها سوف أقوم بسؤالها.
اقترب منه عثمان طالباً منه الانتظار حتى يحضر ابنته من الداخل..
-  إياك والتلاعب بنا
قالها آسر محذراً، أومأ برأسه في رضوخ، ثم ولج
للغرفة حيث ابنتيه، ارتدت ابتسام إسدال الصلاة،
وخرجت لمقابلة آسر بأقدام مرتجفة، دقات قلبها
المضطربة كفيل بسماعها من يبعد عنها بعشرات
الأمتار؛ سألها آسر:
-  أين كنتِ ليلة الحادث؟
-  بالمنزل.
-  متى آخر مرة قمتِ فيها بزيارة شقيقتكِ؟
-  قبل الحادث بأسبوع.
-  هل نشب أي خلاف بينكِ وبينها؟
-  لا.
خرج عمارة من غرفة صابر؛ لأن لديه أمر طارئ داخل
الورشة، حملت فاطمة المعطف الخاص به ليرتديه؛
فالجو بالخارج يمطر، ما إن ارتدى المعطف حتى
لفت انتباه آسر الذي ترك سؤال ابتسام، وتحول
بجسده نحو عمارة الذي يهمُّ بالخروج من المنزل:
-  انتظر، مَن أنت؟
اجابته فاطمة:
-  إنه زوجي، المعلم عمارة النجار.
-  أين كنت ليلة الحادث؟
تلعثم عمارة قليلا، ثم أجاب:
-  كان لديَّ بعض الأعمال بحي التجمع.
-  ارفع رجل سروالك الأيسر.
سأله عثمان بحيرة:
-  هل يوجد شيء يخص عمارة؟
-  سوف نعرف الآن.
رفع عمارة سرواله كما طلب منه آسر لتتأكد شكوكه، فقدم عمارة بها جرح كبير حديث نسبياً، سألته فاطمة بضيق:
-  لماذا كل هذه الأسئلة، ماذا فعل زوجي؟
أجابها آسر:
-  لِمَ لا تسأليه لماذا ذهب لسوزي ليلة الحادث؟
بهتت ملامح الجميع عندما قالها آسر ليردف قائلاً:
-  كاميرات المراقبة المقابلة لفيلا سوزي رصدت
شخصا في نفس طول زوجك، وللحظ كان يرتدي
نفس المعطف، ويملك إصابة بقدمه اليسرى كانت
تعيق مشيته، كما هو الآن دلف إلى الفيلا قبل
وفاتها.
صرخ عمارة:
-  لم أقتلها، صدقيني يا فاطمة.
بتر آسر كلماته قائلا:
-  النيابة والبصمات هي التي ستفصل هذا الأمر،
لكن الآن أنت مقبوض عليك بتهمة قتل سوزي
سالم.
وضع محمد الأساور الحديدية بين يديه؛ ليخرجا معا
إلى القسم وسط عويل فاطمة ووالدتها، وصراخ
أطفاله، خرجت فاطمة تهرول خلف سيارة الشرطة
لتلحق بزوجها، بينما رجال الحارة اجتمعوا من حولها لمنعها من اللحاق بهم والسقوط أرضا، ولمعرفة
سبب القبض على عمارة، بدأت كل جارة من الجارات
تلقي تخميناً، إحداهن قالت أنه سرق أحد زبائنه لذا
تم القبضُ عليه، بينما الأخرى رجحت أنه يتبع تنظيم
الإخوان لذا تم القبض عليه، بينما ثالثة أخبرتهم أنه
اعتدى على أحد أفراد الأمن لذا تم القبض عليه، علت الهمسات والتساؤلات، اقترب صاحب المقهى
المعلم حسني يسألها:
-  ماذا حدث يا ابنتي؟ لِمَ ألقت الشرطة القبض
على زوجكِ؟
ردت بعيون باكية، وصوت ضائع من الصراخ:
-  لا أعلم يا معلم حسني، هو لم يفعل أي شيء
صدقني.
ربَّت على كتفها قائلاً:
-  لا تخافي يا فاطمة سوف أرسل له محامي
ليعرف السبب ويطمئن قلوبنا.
أرادت أن تقبل يده على معروفه، لكنه سحبها قائلاً:
-  لا تفعلي هذا، فأنتِ وعمارة مثل أبنائي، كما أن
والدكِ عثمان بمثابة شقيق لي، ولم أرَ منه أو منكم
أي سوء خلال إقامتكم معنا.
نادى على مصطفى فتى المقهى فلبى النداء مسرعاً:
-  أؤمر يا معلم.
-  اذهب إلى مكتب الأستاذ عدلي حسان المحامي، وأخبره أنني أريده في أمر هام.
-  حمامة.
قالها الفتى، وهو يهرول نحو مكتب المحامي
لإخباره بطلب المعلم حسني، بينما عادت فاطمة إلى الداخل تستشيط غضباً، فتحت باب غرفة ابتسام
لتجدها متكورة على نفسها تغطي رأسها بكفيها
بينما تضم قدميها إلى صدرها كما الجنين تبكي قتل سوزي وغياب أمل عن الوعي ووضعها الذي بين
الحياة والموت، والآن فقدان فاطمة لزوجها بينما
شقيقها صابر مختفٍ منذ يومين، ولا تعلم عنه شيئا، ظلت الأفكار تعصف بها، قلبها يئن مما يحدث
وينبئها بأن القادم أسوأ، ولن يمر مرور الكرام،
أغمضت عينيها في محاولة لتهدئ من حالها؛
دخلت فاطمة الغرفة والشرر يتطاير من عينيها،
رفعت شقيقتها المتكورة أرضاً من ذراعيها، وهي
تصرخ في وجهها:
-  أخبريني الآن ماذا تخفين أنتِ وشقيقتكِ وإلا
سوف أخبر أمي.
خرجت حروفها من بين دموعها المنهمرة متقطعة:
-  بالله عليكِ لا تخبريها بأي شيء؛ لن تتحمل وقع ما حدث.
-  أخبريني ماذا حدث؟
-  أمل حامل...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي