نهاية أم بداية

انتهى الحفل أخيرا، تنفس الصعداء، سوف تصبح له، لم يكد يخرج أهلهما من ذلك الجناح الذي تم حجزه لهما في الفندق التابع للقاعة، حتى حملها بغتة أثارت خوفها، جعلها تشهق بقلق، نظر إليها و على وجهه ابتسامة لعوب.

دلف بها إلى داخل غرفة النوم، انزلها من بين ذراعيه برفق شديد، أوقفها أرضا، كانت خجلة و هو لم يعرف له الخجل طريقا، نزع عنها طرحتها بعد معاناة مع تلك المشابك التي تثبتها في شعرها، ثم ألقاها أرضا بلا مبالاة شديدة.

تطلع نحوها بنظرات عاشقة، متلهفة، كان يريد أن يحاول احتواء قلقها وخوفها من ليلتهما الأولى سويا لكن رغما لم يستطع ذلك، فهي فاكهته التي لطالما تمنى تذوقها، و فعل، قطف زهرة شفتيها بشفتيه، في قبلة عاصفة.

خائفة هي، قلقة ربما، فتلك هي المرة الأولى التي يكونا وحيدين، و ها هي تقف بين يديه الآن، يقبلها بلهفة وشوق، تخشبت في البداية ثم تذكرت أنه موسى، ذلك الرجل الذي تعشق، رويداً رويداً تقبلت قبلاته، اندمجا معا حتى صارا الاثنان واحدا.

روح واحدة، جسد واحد، فلم تشعر به و هو يفتح سحاب ثوبها، و لا بثوبها يقع من على كتفيها، مشهد مشوش فقط و هو يساعدها على الخروج من الثوب، ثم ركل حذاءها، ارقدها على الفراش، مارس طقوس عشقه عليها، ثوان قليلة مرت تمدد هو بعدها بجوارها، يبدأ معها رحلتهما الأولى إلى جنتهما على الأرض.


لم يصدق أن أسبوع مر عليهما في هذا المكان، لقد كان كالجنة حقا، و ما جعله كذلك زوجته التي يعشق، رجوة، التي كانت رجائه في تلك الحياة، رؤيته لها سعيدة تجعله يكاد يمتلك جناحان ويطير بهما، لقد تركهما للتو بعدما انتهيا من جولة العشق خاصتهما، هي دلفت لأخذ حمام سريع و هو أراد إجراء مكالمة هامة.

لقد كان مشغول عقله بصديقه، لقد كان في حالة غير طبيعية في يوم زفافه، أراد أن يتحدث معه لكنه لم يعطه فرصة ورحل سريعا، ليقرر هو بعدها أنه لابد من إجراء حوار جديد بينهما، عليهما أن يحلا تلك الخلافات، فهما حدث هما مثل الإخوة بل أكثر.

فتح هاتفه المحمول الذي كان قد اغلقه بعد وصوله للمكان و بعد أن اطمئن الجميع عليهما، و ها هو يحاول الإتصال بهاتفه، لكنه وجده مغلقا، التقيا حاجبيه في قلق، قرر الاتصال بمساعده في الشركة لربما يعلم ما الأمر.

جواب مساعده بعد سؤله عن هارون كان أن السيد هارون لم يأت للشركة منذ أسبوع من الزمان، و أنه فوض مساعدته للقيام بمهامه حتى عودتك من السفر، القلق بدأ ينهشه من حديث مساعده ذاك، ليس من عادة هارون أن يرحل تاركا كل شيء خلفه بتلك الطريقة.

أراد أن يحادثه على رقم المنزل الأرضي، حتى فوجئ برسالة قادمة تحمل اسم هارون فوقها، تاريخها مؤجلا باسم لتصل بتاريخ اليوم، قلقه و خوفه جعله يفتحها سريعا، يقرأ تلك الكلمات التي جعلت قلبه ينتفض هلعا!

"موسى، أرسلت إليك رسالتي تلك و أنا أعلم أنك ستشعر بالقلق و الخوف، أنا خائف أيضا صديقي، أكاد أموت رعبا! لكن رغم ذلك لدي أمل بأن يزول الابتلاء، لقد تشخيصي بمرض السرطان في الدم، تلك التحاليل التي قام بها الطبيب في ذلك الحادث أثبتت ذلك، لم اقتنع به في البداية!

قمت بإجراء تحاليل في أماكن أخرى، كانت النتيجة ذاتها في كل مرة، نصحني الطبيب بمتابعة طبيب مختص، والذي بدوره عرض علي الخيارات المتاحة أمامي، أن أتلقى العلاج هنا في مشفى مخصص للحالات التي هي مثلي، أم أن يرشح لي بضع عيادات خارجية مختصة بذلك ولديها علاجات متقدمة، اخترت إحدى العيادات ذات الصيت الذائع في بلد أوروبي، لم أرد أن أظل هنا أتلقى العلاج، لم أكن لاتحمل رؤية زاد لي في هيئة مزرية، فعلى حسب علمي ذلك العلاج الكيماوي يأكل الجسد أكلا!

صديقي، بل أخي موسى، أوصيك بشقيقتي زاد و زوجتي أيضا، فهما ليس لهما أحد غيري، و أنت الوحيد الذي أستطيع أن ائتمنه عليهما، و إن حدث لي شيء في الغربة و لم أعد فأتوسل إليك بأن تراعي مصالحهما، تدير الشركة كما تريد و تحافظ على أموالها.

لن أقول لك وداعا يا موسى، بل سأقول إلى اللقاء قريب، فعسى الله أن يكتب لي عمرا جديدا وأستطيع رؤيتك من جديد يا أخي"

إن قال أنه شعر بزلزلة الأرض تحت قدميه لكان صدق، ما قرأته عيناه، ما فكر فيه عقله! صديق عمره هارون مصاب بذلك المرض اللعين و ربما يفارق الحياة! دموع هبطت من عينيه، لم يستطع منعهما، أنى له أن يفعل، جسده أصبح مجرد هلام ولم يستطع أن يظل واقفا، نخ على ركبتيه، موقعا الهاتف من يده غير مدرك لتلك التي تنظر إليه بهلع شديد، تهتف باسمه صارخة ولا جواب لها منه!!


تسير من خلفه راكضة، تحاول أن تطلب منه التمهل، لكنه كان في عالم آخر، منذ تلك اللحظة التي وجدته فيها يجلس أرضا باكيا، هاتفه المحمول ملقى بجواره وهو على تلك الحالة الصامتة، فقط كلمات مقتضبة قالها حول ضرورة عودتهما للبلاد، ثم اتصاله بأخيه يخبره عن العودة ثم طلب منه أن يحجز لهما البطاقات.

أخبرها أن عليها توضيب حاجياتهما في حقائب السفر من جديد، و حينما سألته عن السبب كان جوابه "سوف أخبرك فيما بعد" لتلتزم هي الصمت بعدها، فلو كان يريد زوجها أن يخبرها بشئ لكان قد قاله، و هي حمدلله قد استطاعت أن تهاتف أهلها، تطمئن عليهم، فعرفت بعد اتصالها أن هناك أمر جلل حدث، لكن ليس مع الأهل لكن ربما مع صديقه المقرب هارون.


مكالمة أخيه له جعلته يشعر بقلق شديد، نفذ أوامره بالذهاب للمنزل الخاص بعائلة زوجته زاد، كي يطمئن عليهم، يسأل عن وجود هارون، على مضض هو فعل، تحمل لقاء زاد الجاف، سألها عن هارون فكان جوابها

"منذ يوم زفاف موسى و هو رحل، أخبرنا قبلها عن وجود مشروع ما عليه متابعته في الخارج، أنه لن يتأخر كثيرا، كذلك لن يستطيع التواصل معهم بسبب سوء الاتصالات الهاتفية في تلك البلاد، و ها هو أسبوع مر من الوقت و لم نسمع عنه شيئا، أشعر بقلق شديد عليه، هل تعلم عنه أنت شيئا؟!"

الحيرة أصابته، حديث أخيه كان مقتضب، لم يوضح له شيئا و كذلك حديث زاد الآن، نظر إليها في قلق، رفع هاتفه المحمول يريد أن يتصل بأخيه يخبره عن ما قد علمه من زاد، ليفاجأ به أنه قد يصل عما قريب و عليه انتظاره في المكان.

أخبر زاد عن طلب موسى ذلك، فنهشها القلق هي الأخرى، خاصة بعد مجيء معاذ للمنزل ثم عودة موسى من شهر عسله، فكرت بخوف شديد عن تعرض أخيها لحادث أو ما شابه، دعت ربها كثيرا أن يكون سالما و يعود لهم عما قريب.


أضطر للجوء لبعض المعارف خاصته لتسهيل إجراءات العودة له و الخروج من المطار سريعا، كان قد أمر مساعده بانتظاره أمام المطار، حتى يقود بهما إلى حيث منزل صديقه، الذي حالما وصل إليه وجد أخيه معاذ في صحبة زاد، يجلسان في غرفة الاستقبال و على وجهيهما تعبير قلق و حائر، كان حديثه بعد أن ألقى التحية عليهما، موجها لزاد حيث سألها:

"ألم يترك من خلفه أي رسائل أو أي شيء يدل على مكان تواجده الآن؟!"

هزت زاد رأسها نافية الأمر، ليزفر هو بضيق و يأس، يطلب منها بعدها أن تأخذه إلى الغرفة المكتب خاصة أخيها كي يبحث فيه لعله يصل إلى أي دليل، لكن هيئة وجهه الذي خرج به بعد نصف ساعة كانت تدل على فشله الكبير.


بعد مرور شهر

لا تصدق أن شهر من الزمن منذ رحيله المفاجئ ذاك، لقد بحث عنه صديقه في كل مكان لكنه لم يجده حتى الآن، شعور مزعج تسرب إليها، قلق ربما عليه، لكنها سرعان ما تردعه و تجعله يعود من حيث آتى، فما فعله معها لا يستحق السماح أبد الدهر!

فوجئت بقرع على باب غرفتها ثم دخول زاد و على وجهها ابتسامة فرحة، سمعتها تقول بنبرة مبتهجة و دافئة:

"لقد وجده سلسبيل، لقد استطاع موسى إيجاد أخي هارون، و هو الآن في طريقه إليه"

رغما عنها تنهيدة راحة خرجت من فمها بعد سماعها لحديث زاد، رغم مساؤه و أفعاله النكراء في حقها لكنها لا تتمنى له السوء حقا، سوف تحرص عند عودته على طلب الطلاق منه كما اتفقا في السابق"

راعت زاد تغادر الغرفة سريعا كما آتت سريعا، تجيب على مكالمة هاتفية، تخبر أحد ما عن سعادتها بعودة شقيقها عما قريب.


الأخبار التي وصلته عن مكانه لهارون جعلته يحجز بطاقة طيران لذلك المكان على الفور، و ها هو في طريقه للدخول لتلك العيادة في دولة اسكتلندا، كانت على الطراز الفيكتوري كمنزل انجليزي نموذجي في منطقة وسط الريف، تعطي لمن يراها بعض الراحة و السكينة.

سأل عن صديقه المصري، كان هناك تشدد في البداية لكن بعد مساعدة الصديق الذي آتى معه و الذي كان السبب في البداية لمعرفة مكان هارون على التحدث مع المسؤولين و السماح لهما برؤية هارون لفترة قصيرة حتى، على مضض تمت الموافقة، ثم اقتادتهما مساعدة طبيب لمكان هارون في تلك العيادة.

غرفة طليت بأبيض كئيب، رائحة مطهرات، أدوية زكمت أنفه، شعر ببعض النفور لثوان قليلة ثم هاله ما رأى، صديقه هارون، أو بقايا من صديقه الذي فقد ثلاثة أرباع وزنه، وجهه مجوف، عينين واسعتين، جل ما بقى منه، كاد يصرخ يبكي، لكنه تماسك، عليه أن يفعل، لن يترك نفسه لهواها و يصرح بهلعه و خوف.

خطوات بطيئة سارها نحوه، همس باسمه بصوت خافت "هارون" ليفتح الصديق عينيه، يتطلع نحوه في صدمة كبيرة ثم في هلع أكبر، كانت أولى كلماته له عتاب شديد:

"موسى، ما الذي آتى بك إلى هنا يا موسى؟!"

و جواب موسى أن اقترب منه، مال عليه، عانقه بعاطفة قوية رغما عنه، دمعات ثلاث سمح لها بالنزول ثم مسح الرابعة بظهر يده و هو يتراجع بعيدا عنه ثم يقول بنبرة حازمة:

"تتسأل ما الذي آتى بي يا هارون؟! أنى لك أن تفعلها يا رجل؟! تهرب، تقاتل وحيدا ذلك المرض اللعين!! أليس هناك أخ لك كان عليه أن يعلم بما تمر به من شدائد، عليه أن يكون في ظهرك سندا لك! و شقيقة و زوجة أنت كل ما لديهما في الحياة؟! كيف استطعت فعلها هارون؟! أليس نحن أولى برعايتك، بدلا من كونك وحيدا في جحيم مثل هذا!!"

لم يستطع هارون الرد، فماذا سوف يقول له، يبرر اختياره الوحدة عن الصحبة! هل كانت أنانية منه من عدم رغبته في رؤية أحدهم له في تلك الحالة المزرية؟! ربما، أو ربما هو يستحق تلك الوحدة! حياته ليست مشرفة على الإطلاق، معاصي و ذنوب كثيرة تقبله، يريد التوبة، التطهر منها، و من الجائز تلك المعاناة التي يلاقيها وحيدا هنا تكفر عنه ما يحمله من آثام!

صمت صديقه أثار غيظه، جعله يهتف فيه مجددا:

"ألا يوجد لديك جواب لأسئلتي تلك هارون؟!"

و هارون قد تعب حقا، أصاب قلبه الوجع، يكفي إلى هذا الحد تعذيبا لنفسه، نطق بصوت واهن:

"أو لا تعلم يا موسى لقد أصاب هارون الوهن، هو يريد أن يعود إلى موطنه، لعل النهاية قريبة فيموت فيه في راحة وهدوء!"

حديث صديقه هزه حتى النخاع، لكنه لم يظهره، وجه جامد كل ما نظر به إليه و هو يخبره بنبرة موبخة و حازمة:

"ما تلك الدراما يا رجل؟! أنت سوف تعود إلى الوطن أجل! و لكن من أجل أن تستكمل علاجك و نحن حولك، نراعيك و نقر أعيننا برؤيتك!"

دمعات عينيه تسربت، هز رأسه بوهن بينما يقول:

"ماذا تنتظر إذا يا موسى، اعدني للوطن"

و لم ينتظر موسى ثانية واحدة، طلب من صديقه بحجز طائرة طبية خاصة للعودة بها، ريثما هو يرتب أمور خروج هارون من تلك العيادة، بدأ الصديق ينفذ أوامره، فلا يوجد وقت يضيعه، عليه التحرك على الفور.


بعد عدة ساعات كان قد أودع هارون في المشفى المتخصص في تلك الحالات، منعت الزيارات عنه ريثما يستيعد جزءا من قوته، بعد إعطائه بعض الأدوية المسكنة و التي تسبب النعاس، كان موسى قد طلب من أخيه زيارة زاد وزوجة هارون لكي يخبرهما بحقيقة ما حدث مع هارون.


لا يعلم معاذ كيف يستطيع تهدئتها لزاد، منذ اللحظة التي أخبرها بها عن حالة شقيقها و هي في تلك الحالة من البكاء و النحيب، نصف ساعة أو ربما ساعة كاملة مرت عليهما، هو يجلس بجوارها يربت على ظهرها يطلب منها الكف عن البكاء، أن عليها التحلي بالقوة لأجل هارون الذي لن يتحمل رؤيتها في ذلك الضعف.

أضطر لأخذها في حضنه في النهاية، هي مازالت زوجته و يحق له فعل ذلك، رحيل هارون و البحث عنه جعله يتلهى عن وعده لها بالطلاق، فوجئ بها بينما هو يحاول مواستها تفقد الوعي بين ذراعيه، حاول إفاقتها لكن دون فائدة، ليضطر لحملها إلى الأعلى حيث الغرفة الخاصة بها بعد إرشاد الخادمة له.

ارقدها على فراشها بهدوء، ناولته الخادمة قنينة عطر تساعده في جعل سيدتها تعود إلى وعيها، ليرش هو بضع رشات على يده ثم يقربها من أنفها، صوت سعال عال أعلن عن عودة الوعي لها، ليتنفس هو الصعداء ثم يأمر الخادمة بجلب كوب من الماء من أجل زاد.

راعها بقلق بينما تهز رأسها يمنة و يسرة كأنها تنفي ما هي فيه من حزن و بأس، لا ينكر أن الأمر احزنه هو الآخر، فهارون بمثابة شقيق أكبر له و هو لا يستحق ذلك العذاب بكل تأكيد، فوجئ بها تمد يدها تمسك بيده، تخبره بنبرة متوسلة:

"ارجوك لا تتركني"

كان يعلم أنها تقصد هارون لكنه امتثل لها، اقترب منها جالسا على الفراش، مال عليها لأخذها بين أحضانه، هو لن يستطيع تركها في تلك الحالة وحيدة حتى لو كان الثمن شجارها معه بعد تفيق من تلك الحالة.

الخادمة أتت بعد عدة دقائق، أمرها أن تترك الكوب على الكومود و ترحل، ثم تذهب لغرفة السيدة سلسبيل كي تطمئن عليها، فهي بعد أن علمت الخبر اختفت على الفور و لا أحد يعلم عنها شيئا حتى الآن.

ثوان قليلة مرت بعد رحيل الفتاة، لينصت لصوت صراخ عال آت من الخارج، ترك زاد بعد ارقدها على الفراش جيدا ثم انطلق مسرعا نحو الخارج، ليفاجأ بالخادمة أنها وجدت السيدة سلسبيل ملقاة على الأرض فاقدة للوعي و لا تجيب عليها على الاطلاق.

انطلق سريعا لتلك الغرفة، راعى تلك الملقاة أرضا اقترب منها، حملها بين ذراعيه، جعلها ترقد على الفراش بينما يصرخ في الخادمة:

"هاتفي الطبيب على الفور و أخبريه أنت يأت سريعا من أجل رؤية السيدة سلسبيل"

هرعت الخادمة لتنفيذ أوامره بينما يتنفس هو بقوة، شاعرا باليأس، فما يحدث أمامه ثقيل جدا عليه، يشعر بالعجز و الخوف.

نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي