الفصل الرابع عشر

ذاع صيته خلال الأعوام الست الماضية، انتشرت
شركاته بسرعة البرق، أصبحت الأعلى تداولا في
البورصات العالمية.
عدلت مظهرها، وفستانها لتبرز مفاتنها، أزاحت شعرها الثائر خلف أذنها والذي يصل إلى منتصف
خصرها، تقدمت نحوه بخطى متراقصة كالغزال
كفيلة بأن تأسر أعتى القلوب وأشدها، مدت يدها
لتسلم عليه، دنا منها يقبلها محيياً:
-  كيف حالكِ هنادي؟
فغر فاهها حينما نطق اسمها؛ فقد ظنت أنه لا
يعرفها، رسمت العديد من السيناريوهات لتعرفه
بنفسها لكنه فاجأها، تداركت الموقف عندما
سمعت ضحكته على منظرها، ليردف:
-  هل ظننتِ أن عزام عزام لا يعرفك؟ واضح أنني
أخطأت حينما اعتقدت أنكِ تستطيعين أن تحلي محل سوزي، وأنكِ تملكين فراسة مثل فراستها.
قاطعت كلماته قائلة:
-  لا يوجد خطأ؛ فأنا أفضل منها، تعجبي فقط أنك تعرفني، ونحن لم نتقابل.
ضحك عزام، ليردف:
-  الشيطان فقط الذي يشكر في نفسه، ثم إن عزام يعرف كل شيء يخص المحيطين به، وبالأخص مَن
يعملون معه.
ابتهجت ملامحها عندما ذكر العمل معه، لتردف
قائلة:
-  شرف كبير اختيارك لي، ولن تندم عليه قط.
-  سوف نرى.
كان يتابع فايز ما يحدث، تقدم نحوهما ليحييه:
-  كيف حالك عزام بك؟ وكيف حال الباشا الكبير
عزام؟
-  بأفضل حال، كيف حالك أنت؟ الباشا الكبير يرسل لك تعازيه.
شكره فايز، انسحب ماهر لمتابعة أمر ما، ثم تبعه
فايز، ومن بعده هنادي وعزام، داخل مكتب ماهر
اجتمعوا بعيدا عن أعين المتطفلين ليخبرهم عزام
بالمخططات الجديدة.
**********
عاد آسر إلى منزله غاضباً؛ فاليوم ضاع من بين يديه
خيط كان كفيلا بأن يفك لغز هذه الجريمة التي كلما ظنَّ أنه اقترب من حلها وجد نفسه عاد إلى نقطة
البداية مرة أخرى، تمنَّى أن يجد ريم إلى جواره؛
ليخبرها بكل ما يعتلي صدره ويرهقه ويسألها ماذا
يفعل ويرتب أفكاره بين يديها كما كان يفعل؟
لكنها بالمشفى.
تذكر أنه لم يتصل بها، ولم يمر عليها كما أخبرها،
لعن نفسه وسوزي والقضية، أخذ هاتفه ليتصل بها فوجده مغلقا؛ فرغ شحنه دون أن ينتبه، وضعه على
الشاحن، ثم اتجه إلى الحمام؛ ليحصل على دش دافئ؛ يساعده على التخفيف من توتره علَّه يهتدي لخيط
جديد أو يرتب أفكاره بطريقة صحيحة.
تحت المياه الدافئة عصفت به الأفكار كالأمواج
المتلاطمة، مرت أمامه خيوط القضية وملابساتها،
وضع بعض الافتراضات للمواقف، وكيفية التعامل
معها حتى تذكر كلمة تامر عندما ذكر اسم هنادي، وأخبره أنها كانت تعرف بأمر التهديد وبعلاقتهما،
ظل يسأل نفسه:
-  ترى هل لها يد بقتل صديقتها؟
-  هل وشت بها عند فايز، وهو مَن قام بإنهاء
حياتها؟
-  هل سفره كان غطاء يخفي وراءه تورطه في هذه الجريمة؟ أم أن هناك شخصا آخر لازال مختفيا؟
ظلَّ يفكر ويفكر، تارة تتراقص أمامه صورة فايز، وتارة
أخرى صورة صابر؛ فلكل منهما دافع لقتلها، وهو
الدفاع عن الشرف، لكن هل هذه هي الحقيقة؟ أم أن هنادي هي القاتلة لغرض ما بداخلها؟ أم..
قطع رنين هاتفه أفكاره، أغلق صنبور الماء، وخرج
مسرعا تتساقط حبات المياه عن جسده الذي يلفه
بمئزر من القطن؛ لتجفيفه فور رؤيته لاسم المتصل
ارتسمت بسمة على شفاهه؛ فقد كانت حبيبته..
ردَّ عليها معتذرا:
-  كيف حالكِ حبيبتي؟ أعلم أنني مخطئ بحقك
وبحق طفلنا، لكن عملي..
لم يكمل كلماته حتى سمع صوت صرختها، ثم تلتها عدة صرخات جعلت قلبه يسقط أرضا، ألقى هاتفه
وهو يسحب ملابسه ليرتديها مسرعا متجها نحو
المشفى، أدار مقود سيارته بأقصى سرعة ليصل
إليها، لم يعر اهتماما لسُباب بعض المارة، ما إن
وصل إلى المشفى حتى سمع صدى صرخاتها، صرخ
بوجه كل مَن قابله متوعدا لهم بالعقاب إن أصابها
أي مكروه، اقتربت منه الطبيبة التي تتابع حالتها
مهدئة من روعه:
-  لا داعي للقلق؛ فهذا طبيعي في حالات المخاض، استعد فطفلك شارف على الوصول.
أنهت كلماتها، وتركته إلا أنه أسرع خلفها ليطمئن
على حبيبته، لحظات كانت تكتم صرخاتها وألمها
فتتجمع حبات العرق على جبينها كاللؤلؤ المنثور،
ولحظات تفقد قدرتها على التحمل فتصرخ وتتأوه
كمَن مسَّه الجن، أو أصيب بماس كهربائي يجعل
جسدها ينتفض من شدته، هرول نحوها يمسك يدها لتشد عليها قائلاً:
-  لا تقلقي، أنا هنا – أنتِ طبيبة- وتعرفين أن كل
ما يحدث طبيعي، أعلم أنكِ شجاعة، وسوف تلدين
ابننا بسلام.
رسمت بسمة على شفتيها من بين دموعها لتطلق
بعدها صرخة أقوى، طلبت منه الطبيبة الابتعاد حتى تُنهي عملها، أفلت يدها بصعوبة، وقلبه يتمزق بين
شعورين متضاربين، أولهما تألم زوجته، والثاني
سعادته بقدوم ابنهما المنتظر، أشارت الطبيبة
لمساعديها بنقلها إلى غرفة العمليات، ظلَّ أمام
الغرفة يتطلع حيناً إلى الضوء الأحمر القابع فوق
بابها، وحيناً آخر يسترق السمع؛ علَّه يطمئن وهو يردد كل ما حفظه من آيات القرآن داعياً الله أن يخرجا إليه سالمين، تحسس سرواله ليخرج هاتفه منه حتى يخبر والدته بهذا الخبر السعيد فلم يجده، طرق رأسه بكفه حينما تذكر كيف ألقاه من يده بعدما سمع صراخها، وأسرع إلى المشفى.
شقَّ صمت الردهة صرخة مولوده، سجد على إثرها
شكرا لله أمام باب الغرفة، لحظات خرجت بعدها
الممرضة لتحضر ملابس الطفل الصغير سألها:
-  كيف حالهما؟
-  كلاهما بخير، وفي أحسن حال.
أخرج من جيب سرواله مئة جنية، وقدمها لها بشارة
المولود الجديد، شكرته وهي تدعو له بدوام العمر
والصحة.

بعد نصف ساعة خرجا من غرفة العمليات إلى غرفة
مزينة بالبالونات والشرائط الزرقاء، سألته الممرضة
عن اسم المولود حتى تدونه على سوار معصمه:
-  أمير آسر جمال الدين.
خرجت الممرضة لتسجل الاسم، وتحضر سوار الأمير،
اقترب من ريم يُقبل جبينها قائلا:
-  حمداً لله على سلامتك يا ريمي، سامحيني تركتكِ وحيدةً طوال اليوم، ولم اسأل عن حالكِ.
مسدت وجنته بحنان قائلة:
-  لا داعي للاعتذار؛ فهذا عملك، أخبرني هل أبلغت والدتك بولادتي؛ سوف تغضب إن لم تكن تعرف؟
-  بحثت عن هاتفي فلم أجده.
أشارت له عن مكان هاتفها:
-  أرجوك أخبرها؛ فهي كانت تتمنى وصوله أكثر
منا، منذ وفاة أخيك الصغير وهي تشعر بالوحدة.
-  أعرف ذلك؛ لذا اطلقت عليه اسمه؛ ليخمد نيران
اشتياقها له.
لمعت عيناه بالدمع حينما تذكر شقيقه الذي فارقهم دون سابق إنذار بعيار ناري غادر من أحد المجرمين..
هتف بها:
-  سوف أذهب وأحضرها بنفسي لتقابل حفيدها،
لكن أين والدتك لم أرها منذ قدومي؟
-  عادت إلى المنزل قبل أن يهاجمني ألم المخاض؛ لتنهي بعض الأمور الخاصة بوالدي وبالمنزل، لم
تكن تعلم أن الأمير الصغير سوف يباغتها ويحضر عندما تغادر.
ضحك على كلماتها، ثم غادر ليخبر والدته وحماته
بقدوم حفيدهما.
********
مع أول خيوط النهار غادر عصام منزله بعد ليلة
طويلة ظلَّ خلالها يعمل على مقاله، ويرتب قرائنه ومستنداته، حتى غزت خيوط الشمس السماء، ما إن
وصل إلى مقر الجريدة حتى توجه مباشرة لمكتب
رئيس التحرير مقدما له المقال الذي عمل على
كتابته، فغر فاهه عندما رأى اسم ماهر صفوان وفايز الألفي وعزام عزام بين المستندات:
-  هذه المعلومات غاية في الخطورة، كفيلة
بإقامة ثورة تطيح بالحكم وبرجال الأعمال.
-  أعلم سيدي، لكنها حقيقية وهذه القرائن
والمستندات أكبر دليل على صدق مقالي، في بادئ
الأمر كان لديَّ شك تجاههم، بسبب تكرار اسم فايز ودفاع ماهر في أغلب القضايا التي اختفت فيها
العديد من الفتيات، لكن الآن أملك الدليل الذي
يجعلني أحاربهم دون خوف حتى أقضي على
أمثالهم، وأطهر البلد منهم.
اتصل رئيس التحرير بالمطبعة لحجز الصفحة الأولى
لهذا الخبر
(مافيا البشر بقلم عصام أمين)
شكره عصام، وهمَّ بالخروج لمتابعة أمر النشر، لكن
رئيس التحرير طلب منه الانتظار، قائلا:
-  عليك الحذر بني؛ فحياتك سوف تكون على
المحك، وفي خطر مستمر بعد نشر هذا الخبر.
ضحك عصام وهو يجيبه:
-  أعلم ذلك جيدا، لكن العمر واحد والرب واحد،
كما أن والدي ربَّاني على أن الساكت عن الحق
شيطان أخرس، وأن الحق لابد من إظهاره واتباعه
حتى لو طريقه مليء بالأشواك.
-  حفظك الرحمن يا بني وأنار طريقك.
-  شكرا أستاذي، سوف أذهب الآن لمتابعة النشر.
-  حسنا، بالتوفيق.
خرج عصام وبداخله طاقة أمل كبيرة يرى اسمه ينير
الصفحة الأولى، عينا والده الذي يفخر به وبنجاحه،
ابتسم السيد مرزوق بعد خروج عصام؛ فهو يذكره
بنفسه عندما كان في مثل عمره حيث يمتلك نفس طموحه وشغف، لا يهاب المصاعب، لكنه يخشى
عليه طوفان مَن سيحاربهم؛ فالدماء عندهم سهلة
للغاية، دعا الله أن يحفظه، ويسدد خطاه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي