قدر و قسمة

زيارته تلك كان لابد منها، لن يترك صديقه حتى يعلم السبب وراء أمر زواجه ذاك، حتى أنه لم يكن ليعلم لولا أن رجوة قد عاتبته بعدم اصطحابها لحفل عقد قران صديقه المقرب!

الخادمة فتحت له الباب بابتسامة رائقة، اصطحبته إلى حيث الاستقبال، سألته عما يود أن يحتسيه فطلب كوب من القهوة، أومات إليه باحترام بينما تغادر.

لم تكد تمر خمس دقائق، حتى فوجئ برؤيتها، قادمة نحوه، راسمة على وجهها تعبير ثلجي و بارد، كانت زوجة أخيه زاد، تفاجئ من رؤيتها حقا، لقد كان آتيا من أجل رؤية هارون، هو ليس مستعد بعد للمواجهة معها، لكن على ما يبدو هي تفعل ذلك.

ألقت عليه التحية بنبرة رسمية جدا، بينما تمد إليه من أجل المصافحة:

"مرحبا بك سيد موسى، كيف حالك؟!"

تلقى مصافحتها بهدوء، متفهم سبب تلك الرسمية التي تتعامل بها معه، فهو لن ينسى أبدا كيف قام بصدها حينما صرحت له بعشقها له! أجابها بنبرة هادئة:

"حمد لله بخير، كيف حالك أنت أيضا؟!"

"بخير"

جوابها كان مقتضبا، تنهد بقلة ثم حاول الحديث قائلا:

"انظري زاد، أنا آسف حقا، لم يكن،،"

قاطعته، أشارت إليه بعلامة الصمت، أخبرته بنبرة جامدة خالية من الود:

"لا داعي للإعتذار سيد موسى! فما بيني وبين أخيك قد انتهى للأبد! ثم أنت لم تخطئ في حقي بشئ كي تعتذر مني! لقد كان الخطأ خطأي من البداية! و في الحقيقة أنا من عليها أن تعتذر لك على ما بدى مني! لقد حاولت أن أتسول حبك بينما أنت غارق حتى النخاع في حب غيري!"

"زاد أنا"

كان دوره هو في المقاطعة، لكنه لم يكملها أيضا، فهي بدأت تهز رأسها يمنة و يسرة في عدم رضا، تمنعه من أن يستطرد في الحديث، و بنبرة قوية هي قالت:

"لا داع للمبررات سيد موسى، لن تقل من مكانتك بسبب خطأ ليس بيدك، أنا هبطت لرؤيتك من أجل شيء آخر، لقد جئت كي أقدم لك امتناني و جزيل شكري على إنقاذك لي، لابد أن معاذ قد أخبرك بالأمر؟!"

ارتباك وقلق، شعرا بهما بينما ينصت لحديثها، و حين وصلت للجزء الأخير منه هو أومأ برأسه مؤكدا كلماته، لترسم هي ابتسامة واهنة في النهاية بينما تخبره بنبرة مبهمة:

"أتمنى لك السعادة حقا موسى مع من اختارها قلبك، أراك قريبا، الأذن منك، فعلي الرحيل"

أخبرته بذلك، شاهدها و هي تحاول التماسك، ترغم تلك الدمعة التي تكاد تنفر من عينيها، ثم ترحل بهدوء متجهة نحو الحديقة الداخلية للمنزل الخاص بهم.

تطلع إليها في شفقة، تمنى أن يكون حظ زاد أفضل من ذلك، و حظ أخيه أيضا الذي يذوب عشقا فيها، لكن هذا هو القدر، لكلا منا قدر و نصيب.

دقائق قليلة مرت بعد رحيل زاد حتى رآى هارون يخطو نحوه، فقد كان خارج المنزل، رؤيته أصابت الفزع في نفسه حيث ملامحه وجهه وهيئته توحي أنه خاض شجار ما أو ربما ما هو أسوء من ذلك.

ركض نحوه بينما تنكمش ملامح وجهه في ضيق و قلق، يسألها بنبرة قلقة:

"ما بك هارون؟! تبدو في حالة مزرية! هل خضت شجار ما مع أحدهم، أو وقع لك حادث؟!"

زفر هارون بضيق شديد بينما ينصت لأسئلة موسى تلك، فآخر ما ينقصه هو رؤية موسى له بتلك الحالة فيصدر عليه أحكام مسبقة، أشار له أن يكف عن أسئلته ثم قال بنبرة هادئة:

"لا تفزع موسى، لقد كان حادثا بسيطا، لذا لا داعي للقلق، الطبيب أخبرني في المشفى أن التزم الراحة فقط و كل شيء سيكون على ما يرام، فقط لا تبالغ بالقلق!"

نظر إليه موسى في ريبة بينما يستمع إليه، أخبره بنبرة مشككة بعدها:

"هل انت واثق أنه أمر بسيط؟! فما أراه أنا شئ آخر تماما! على أية حال عليك أن تلتزم الراحة كما طلب منك الطبيب!"

أومأ هارون بتفهم لقلق صديقه عليه ثم قال:

"سوف أفعل ذلك بإذن الله"

قال ذلك ثم رمقه بحيرة بينما يقول:

"لا تحسب الأمر إساءة مني إليك، لكن ما سبب زيارتك لنا في ذلك الوقت صديقي؟! هل كنت تريد رد الزيارة لي أم ماذا يا ترى؟!"

ابتسم موسى في زيف و سخرية، كان يستمع لحديث هارون الهازئ، أخبره بنبرة متهكمة:

"أنا صديقك إذن يا هارون؟! فلماذا إذن صديقك آخر من يعلم عن خبر زواجك؟!"

بهت هارون من هجوم موسى الساخر في الحديث، لا يعلم ماذا يخبره، كيف له أن يدخل موسى الواعظ في تلك المهزلة التي حدثت له، أنى له أن يخبره عن زواجه العرفي ثم هروب الزوجة و حينما عثر عليها اغتصبها!

ستكون صدمة بكل تأكيد للواعظ، عليه أن يؤلف له قصة مقنعة تناسب قناعات الراعي و مبادئه، تبادر إلى ذهنه فكرة يشرحها له بكلمات، و كذلك لزاد فيما بعد، تنهيدة خرجت منه أعقبها كلماته و هو يقول بنبرة هادئة:

"سلسبيل فتاة يتيمة، قابلتها في سفري، تعرضت لحادث سرقة أمامي عيني، فقدت كل ما تملك من نقود، مع حادث بسيط لزم رعاية طبية، كذلك لا أحد معها يقرب لها، شعرت بالشفقة عليها فعرضت عليها الزواج و هي وافقت، هكذا كان الأمر فقط كل ما حدث!"

رغم أن كلمات صديقه غير مقنعة إلا أنه أراد أن يكون متفهما، فحين يريد هارون التحدث سوف يأت إليه و يخبره بكل شيء، سأله بنبرة ساخرة:

"شفقة فقط، حسنا، لقد اقتنعت بكلماتك يا عاصي، لماذا إذن خبأت الأمر عني؟!"

نظر إليه بعتب بينما يخبره بتلك الكلمات ليقاطعه هارون و هو يقول بنبرة جامدة:

"لم أخفي شيء عنك، فقط الأمر حدث بسرعة كبيرة و لم تكن هناك فرصة كي أخبرك بما حدث"

هز رأسه بعدم تصديق لعذر صديق الساذج ذاك، أخبره بعدها بعتاب و لوم قائلا:

"لا يهم هارون حقا، أنت لم تجد الوقت للاتصال بصديقك المقرب ليكون شاهدا على عقد قرانك! ليس علي أن أشعر بالضيق أو أي شيء، على أية حال لقد فهمت الأمر، علي أن أرحل الآن، وداعا!"

ألقى بكلماته في وجه صديقه ثم خطى للرحيل بخطوات سريعة غير عابئ بنداءات هارون عليه بالتوقف و عدم الراحة، لكن دون فائدة، فقط رحل كقطار مسرع تاركا خلفه صديقه يندب حظه على ما يحدث معه، في البداية زوجته، ثم شقيقته و في النهاية صديق عمره.



بعد عدة أيام

الزفاف الذي تم الإعداد له منذ شهر كامل كان يستحق حقا، قاعة فسيحة، زينت بالورود والزينة فباتت تخطف الأنفاس، بتلك الكوشة التي تتوسط المنصة، عليها عاشقان يريدان أن ينتهي الوقت سريعا كي ينفردا ببعضهما البعض.

اللهفة و الشوق يدفعهما لذلك و أكثر، رقصة العروسين المنفردة حظت بمدح الجميع حيث علقوا على مناسبة كل واحد منهما للآخر، ثوب العروس الذي كان على طراز أميرات ديزني خطف عقول جميع الفتيات في الحفل، شعروا بالغيرة و تمنوا لو يحظوا بمثله يوما ما.

العريس كان أنيقا ببذلة توكسيدو سوداء، فرحته بعروسه وسعادته بها زادته وسامة فوق وسامته، ضمة الشوق بينه و بين أخيه الذي عاد من سفره جعلت الحضور يشعر بالتآثر حتى أن بعضهم قد هبطت من عينيه بعض الدمعات.

رغم الخلافات التي كانت بينه و بين صديقه لكنه لم يستطع أن يفوت عرسه، حتى لو كان عليه رؤية معاذ في المكان، وعد نفسه بالتحلي بالصبر، خاصة بعد الذي حدث! عليه يتأكد من الأمر أولا ثم يحسم كل شيء بعدها.

بعد وصوله، إلقائه التحية على العروسين، أخذ بعض اللقطات الفوتوغرافية معهما، ارتكن إلى مقعد طاولة في زاوية الغرفة، منتظرا ذلك الاتصال الهام الذي سيحدد مصير كل شيء.

رنين هاتفه المحمول تصاعد مما جعله يخرجه سريعا، يفتح المكالمة، فقلقه كبير رغما عنه، سأل المتصل عدة أسئلة، الجواب كان قاتلا، الجواب كان أجل.

دمعات حزن تسربت رغما عنه من عينيه، لم يكن يتوقع في يوم من الأيام أن يحدث معه هو هذا، انتفض بسرعة واقفا، غادر المكان بأكمله وسط نظرات الجميع القلقة عليه، استقل سيارته، لم يكن يعلم إلى أي مكان قد يذهب!

عودته للمنزل مستحيلة، كيف يعود بتلك الحالة فتراه زاد و تسأله ما به، لن يستطيع أن يجيبها، أنى له أن يفعل ذلك، سأل نفسه عدة مرات، إلى من يستطيع اللجوء؟! من الذي يستطيع أن يسمع شكواه، يزيح عن نفسه الهلع و الخوف!

كان هو فقط من يستطيع فعل ذلك، لذا لجأ إليه في بيته، استقبل القبلة عقب دخوله لبيت من بيوت الله، شرع يصلي لربه تضرعا، دموعه، شهقاته سبقت تلاوته لآيات الله، السكينة نزلت عليه رويداً رويداً.

أنهى صلاته، اختار ركن في بيت الله، أسند ظهره للحائط، أغمض عينيه، طفق يفكر في شقيقته زاد و ما الذي من الممكن أن يحدث معها لو تركها و رحل؟! زوجته سلسبيل التي ليس لها أحد من بعده؟! من الذي سوف يستطيع أن يأتمنه على عرضه و ماله إن حدث ما هو أسوأ، رحل عن الحياة.

موسى، لم يكن هناك غيره، مهما حدث بينهما من خلاف، يظل موسى أخاه و ليس صديق فقط، سوف يترك له رسالة مؤجلة الوصول بعد أسبوع من الآن، لقد نصحه الطبيب بالسفر لإحدى العيادات المتخصصة في الخارج، هناك بعض العلاجات المتقدمة هناك، ربما يجد ضالته!! أو ربما تكون تلك نهايته، نهاية هارون العاصي!

نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي