الفصل الثالث عشر

وصل آسر وتامر أمام عمارة الإيموبيليا في وسط البلد؛ لإحضار المفكرة التي ذكرها تامر لإنهاء هذه القضية الشائكة؛ فرئيسه يريد الجاني بأي ثمن؛ لأنه يرى أن مثل هذه القضايا لا يصح أن يتأخر العثور على الجاني فيها، وإلا أصبحت الشرطة علكة للصحافة، و
اتهموهم بالموالسة والتخاذل.
صعدا معا إلى الدور الخامس حيث يسكن تامر، فتح
لهما مدير المنزل الباب ليُصعق تامر مما رآه؛ فأثاث
منزله ملقى أرضاً، بعض أوراقه الخاصة التي كان
يحتفظ بها داخل أحد أدراج مكتبه ملقاه أمامه،
بعضها على الطاولة التي تتوسط الصالة، والبعض
الآخر على الأرض، جحظت عيناه من هذا المشهد،
سأل مدير منزله قائلا بذهول:
-  ماذا حدث؟ هل أصاب الشقة زلزال أم إعصار؟
تلعثم في الرد قليلاً؛ فهو لا يعرف ما السبب في كل هذا، ليردف قائلاً:
-  قبل قليل حضر إلى هنا ثلاثة رجال من المباحث
قاموا بتفتيش الشقة...
فغر فاهه مما سمع ليحول نظره إلى آسر بلوم، وهو
يسأله:
-  لقد أخبرتك بكل شيء، وأتيت معك بنفسي
لتسليمك ما يثبت كلماتي، لماذا أرسلتَ أشخاصا
يدمرون شقتي؟
-  ما هذا الجنان الذي تنطق به؟! أنا لم أرسل أيَّ شخص، وإلا لمَ حضرت معك شخصيا؟
اقترب من مدير المنزل يسأله:
-  ما هي مواصفاتهم؟
-  رجال ضِخام البنية، يحملون مسدسات بجانبهم وخلف ظهورهم، يرتدون ملابس مدنية، تقدم قائدهم ملوحا أمام عينيّ ببطاقة تعريف تحمل رتبة عسكرية بعدها قاموا بتفتيش الشقة، ثم جمعوا بعض الأوراق والصور وغادروا.
انتفخت أوداج آسر من الغضب، خرجت قذائف السُباب من فمه كالطلقات تصيبهم وتصيب ذويهم، هرول تامر نحو غرفة المكتب ليخرج بعد قليل مطأطئ
الرأس، باهت الملامح:

-  لقد أخذوا المفكرة، وصور سوزي التي تجمعني
بها.
رفع آسر عينيه ليقابل كلماته بعيون تُطلق شذرا قادرا على حرق مَن يقابله، ضمَّ رأسه بكفيه، وهو يضغط
عليها؛ علَّه يهدأ ويفكر جيدا، نظر نحو تامر ليسأله:
-  مَن يعرف علاقتك بسوزي وأمر التهديد هذا؟
جلس جواره وهو يفكر مغمض العينين ليتذكر، فتح
عينيه لينطق:
-  لا يوجد غيرها، هي الوحيدة التي تعرف.
التفت آسر بجسده نحوه ليسأله بلهفه:
-  مَن تقصد؟
أجابه:
-  هنادي.

أمام أحد المنازل القديمة الموجودة بحي باب
الشعرية الشهير وقف ذلك الملثم يتطلع حوله قبل
أن يدلف إلى مدخل المنزل المُعتم متجهاً إلى
الطابق الأخير، تعثرت قدماه أكثر من مرة بدرجات
السلم المتهالك، يتطلع بحذر إلى أبواب الشقق
الموجودة في كل طابق داعياً الله ألا يفتح أحدهم
بابه ويراه، حينها لن يسلم من أسئلتهم، ومن
الممكن أن ينتهي به المطاف داخل قسم الشرطة،
تنفس الصعداء عندما وصل للطابق الأخير، دق الباب
الموجود على يسار الدرج ثلاثاً انفرج الباب قليلا، ثم
قامت يد بسحبه من الداخل كاد أن يقع على إثرها
أرضاً، ما إن رأى وجهها حتى عنفها:
-  كدت أصاب بذبحة صدرية جراء فعلتك هذه، لِمَ
لم تأتي إلى شقتنا كسابق عهدنا؟
التفتت نحوه لتجلس على فخذه بغنج، وهي تلف
يدها خلف رقبته لتكشف وجهه:
-  هذه الشقة لا يعرفها أي شخص سوى سوزي، وهي الآن تحت التراب، ولا حتى الشرطة، ونحن الآن لا نريد لفت النظر نحونا.
ضمَّها، وهو يقبل عنقها:
-  لمَن هذه الشقة يا نرجس؟
ضمَّت رأسه إلى صدرها المكشوف قائلة:
-  شقة والداي، هنا تربيت وترعرعت، أخبرني
والدي حين كنت صغيرة أن هذا الحي عاش به
الملحن الكبير عبد الوهاب قبل أن ينتقل للعيش
بحي الزمالك على النيل، كم تمنيت أن أصبح مثله
، وأنتقل للعيش بحي من الأحياء الراقية، لطالما
تمنيت أن أحظى بفرصة كما حظيت سوزي حينها
كانت تبدلت حياتي.
ربَّت على يدها، وهو يخبرها:
-  سوف ننتقل لا تخافي، ولكن هذا المبلغ صغير.
ضحكت وهي تخبره:
-  وهل تظن أن هذا ما أخطط له، سوف أطلب
مقابل هذه المستندات مليون جنيه.
صُعق عندما سمع المبلغ، وهتف بدهشة:
-  ومَن سيدفع هذا المبلغ لكِ؟
-  سوف تعرف فيما بعد، الآن علينا أن نشتري
بعض الملابس الجديدة، وأيضاً شريحة هاتف باسم
مستعار لإتمام الخطوة التالية.
فتحت لفة كانت تضعها على الطاولة المجاورة
لتخرج منها روائح شهية، حملت قطعة لحم ساخنة طلبتها من الحاتي قبل قدومه لتغمسها في طبق
الطحينة، وتطعمه إياها في فمه قائلة:
-  كُل الآن، وسوف أخبرك بكل شيء داخل غرفتنا.
قالتها، وهي تغمز له بطرف عينها ضاحكة بصوتٍ
خليع، أكلا معا بنهم حتى شبعا، بعدها مسكت يده
متجهة إلى الغرفة المقابلة لباب الشقة، وهو
يتبعها كالمجذوب؛ ليقطف شهدها.
*******
داخل إحدى الفيلات الضخمة الموجودة بحي الشيخ
زايد وقف المحامي الشهير ماهر صفوان بقامته
القصيرة، وشعره البني، وعيناه الضيقتان يستقبل كبار الشخصيات الذين قام بدعوتهم لحضور حفل عيد
ميلاد ابنه خالد، زينت الفيلا بالكامل من الداخل
والخارج بالأنوار التي ما إن أضيئت حتى حولت عتمة
الليل إلى نهار ساطع، وضعت على الطاولات هدايا
للمدعوين – علبة من القطيفة تحمل بداخلها
ميدالية ذهبية- كتذكار من صاحب عيد الميلاد، على طاولة كبيرة بمنتصف الحديقة وضعت أنواع عدة من
زجاجات الخمور بينما كل طاولة وضعت عليها
زجاجة من مشروب البراندي، وقف خالد بجوار والده كالطاووس يتباهى بريشه الملون يصافح الجميع
بأطراف أصابعه كما علمه والده، لا يشبهه في
الملامح، ولا يشبه والدته الإنجليزية ذات العينين
الخضراوين، والشعر الكستنائي، والوجه الأبيض، بل
يحمل تقاسيم وجه مختلف عنهما؛ فهو حنطي
البشرة، عيناه سوداوان، شعره مجعد، يشبه الفتى
الأسمر أحمد ذكي، تقدم نحوهما فايز وهنادي
ليهنئاه بيوم مولده:
-  عيد سعيد خالد.
قدَّم له فايز علبة صغيرة من القطيفة فتحها ليجد
بداخلها مفتاح سيارة رياضية من أحدث الموديلات،
أسرع للخارج يتأمل لونها الأحمر الصارخ، وصوت
محركها، وهو يزأر كأسد حبيس يتمنى الحرية، اجتمع أصدقاؤه حول هذه السيارة الرائعة بعيون منبهرة
يطلقون صافرات الإعجاب، تقدم ماهر من فايز
ليشكره على هذه الهدية الجميلة:
-  شكرا على هديتك.
-  خالد مثل ابني، ويستحق السعادة.
قدمت له هنادي هديتها متمنية له ميلادا سعيدا،
قبَّل يدها شاكرا، بينما عيناه تتأمل حسنها وتفاصيل جسدها الصاروخي:
-  أنرتِ الحفلة هنادي هانم.
-  شكرا ماهر بك على مجاملتك الرقيقة.
همس فايز بجانب أذنه ليسأله عن شيء ما، ربَّت على يده مطمئنا إياه:
-  لا داعي للقلق؛ سوف يحضر بعد قليل، لقد
أخبرني بذلك حارسه الشخصي.
استغل خالد انشغال الجميع بالحفل، اتجه إلى جانب قصي من الحديقة ليبتعد عن الأنظار، وحمل هاتفه
متصلا برقم سجله باسم حبيبتي عدة مرات، لكن في
كل مرة كان يخبره الرد الآلي أن الهاتف مغلق، زفر
بضيق؛ فمنذ سفره بأمر والده وهو لا يعرف عنها
شيئا، سأل الجميع عنها فأخبروه أن أخبارها انقطعت منذ سفره، ناداه والده ليخرجه من شروده:
-  أين اختفيت خالد؟ الجميع يبحث عنك.
-  أنا هنا.
-  هيا إذا لنطفئ الشمع.
اتجها معا نحو كعكة عيد الميلاد، اصطف الجميع
في دائرة حولها، انطفأت الأضواء وتعالت أغاني عيد
الميلاد، بخطى ثابتة تهز الأرض تقدم نحو ذلك الجمع يحاوطه رجاله لتأمين دخوله المهيب؛ أطفأ خالد
شمعاته التاسعة عشر وسط تهنئة وتصفيق الجميع:
-  عيد ميلاد سعيد خالد..
قالها وسط دهشة الجميع؛ فقبل إطفاء الشموع لم
يكن موجودا، لكنه الآن بينهم، من أين أتى أو ظهر، وكأنه يحمل خاتم سليمان بفرقعة إصبع يظهر، وبأخرى يختفي، (شاب أربعيني، ممشوق القوام، كثيف
الشعر، وجهه مستدير مائل للحنطة، عيناه سوداء
كحيلة، له لحية صغيرة متصلة بشاربه، تضيف له سحرا وجاذبية)
اقترب منه ماهر يصافحه، ويشكره على قدومه:
-  أنرت الحفل عزام بك، حضورك اليوم شرف كبير
لي.
أومأ برأسه ليشكره، وقفت هنادي تتأمله بدقة من
بعيد؛ فهذه المرة الأولى التي تقابله فيها وجها
لوجه، سمعت عنه وعن أمواله وشركاته متعددة
الأفرع، فهو يعمل في كافة المجالات، البعض يطلق عليه لقب العقرب؛ لأن مَن يقف أمامه يموت أو
يختفي، والبعض الآخر يطلق عليه لقب الزئبق، ذاع
صيته خلال الأعوام الست الماضية، انتشرت شركاته
بسرعة البرق، أصبحت الأعلى تداولا في البورصات
العالمية.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي