الفصل الثاني عشر

ابحث عن القاتل بمكان آخر؛ فهذا القصر لا يسكنه
المجرمون.
أنهى حديثه، ثم غادر مقعده ليقف أمام النافذة موليا ظهره إلى آسر الذي كان يتابعه بغضب من رد فعله،
التفت نحو مكتبه ليضغط على زر حضر على إثره أنور:
-  أمرك فايز بك.
-  إذا انتهى السيد آسر من أسئلته عليك بمرافقته
إلى باب القصر.
خرج آسر عائدًا إلى قسم الشرطة، وقد استشاط غيظا، أدار سيارته متجها إلى القسم وهو يضرب مقود
السيارة عدة مرات لينفث عن غضبه من تصرف فايز.
بالرغم من جمود فايز ومقابلته الجافة لآسر إلا أنه لم يستطع التحكم بأعصابه بعد مغادرته، ألقى بكل ما
يسكن المكتب أمامه، وهو يصرخ:
-  غبية، لولا تهورها ما نالت هذا المصير.
أرخى رابطة عنقه بعدما ألقى بجسده على المقعد
الموجود خلفه من شدة التعب، اقترب منه أنور ليخبره بحضور هنادي، شكرت أنور ثم اقتربت من فايز
لتخفف من توتره، وضعت يدها بحنان على كتفه وهي تدلكه، استكان لملمسها، وهدأت ملامحه تدريجياً،
ظنت أنها ألقت عليه تعويذة سحرها، وأنها سوف
تحصل على مرادها، اقتربت من أذنه تهمس بصوت
يشبه فحيح الأفاعي:
-  عليك أن تنساها، وتفكر في المستقبل، سوزي
من البداية لم تكن تستحقك، انظر حولك ستجد مَن
يهتم لأمرك، ويحبك منذ زمن، لكن غشاوة حبها
كانت تعميك.
جذبها من يدها لتصبح أمامه، ارتسمت على شفتيها
بسمة بلهاء، وهي تجلس على حافة المكتب قبالته، حرَّك أنامله على بشرتها، أزاح بعض خصلات شعرها
النازحة على وجهها فاستسلمت لتلك اللمسات
التي ألهبتها، وأغمضت عينيها وهي تُمني نفسها
بأكثر من ذلك، اقتربت منه أكثر، لكنه فاجأها
بضغطه على فكها الصغير لتتأوه من الألم، ليهمس بصوت يملأه الغضب والخشونة:
-  فايز الألفي يأمر فقط، وعلى الجميع الطاعة، لم يُخلق بعد من يُملي عليَّ ما أفعله أو يظن أنني
أصبحت عبدا لأي مخلوقة على وجه الأرض، كلكن
حشرات، مَن تحاول مخالفتي أسحقها بحذائي.
أنهى حديثه، ثم دفعها بعيدا عنه بخشونة سقطت
على إثرها أرضاً، جحظت عيناها من ردة فعله؛ فهي
لم تتوقع منه ذلك، لملمت شتات نفسها وبداخلها
بركان على وشك الفوران، لكنها أسرته بداخلها،
وهي تتوعد أنها ستنتقم منه ولن تنساها..
مدَّ يده ليساعدها على الوقوف، نظرت نحوه بتوجس فزادت نظرته الآمرة بأن تمد يدها، مدتها بأنامل
مرتجفة، فقام بجذبها مرة واحدة لتصطدم بصدره،
تمعَّن بعينيها اللتين ترتجفان منه، دقات قلبها التي
تعلو كصوت المدافع، اقترب يهمس من جانب أذنها:
-  أحبَّ ذلك الشعور كثيراً؛ تبدين رائعة الليلة، عليكِ بتحسين مظهركِ وتبديل ذلك الفستان؛ لأن لدينا
عشاء عمل، اصعدي إلى غرفة سوزي سوف تجدين
بها ما يناسبكِ.
ثم غادر غرفة المكتب، وهو ينادي على أنور؛ ليساعده في اختيار وتبديل ملابسه.
*******
داخل قسم الشرطة بدأ تامر يقصُّ عليهم ما حدث له
بعدما شعر أن قلبه ينبض لسوزي بالحب:
-  بعد انتهاء الفيلم الثاني لنا شعرت باهتمام من جهتها نحوي، وهذا ما جعل السيد فايز يغضب،
وأرسل لي مَن قام بتهديدي ويأمرني بالابتعاد عنها، حاولت لكنني فشلت، عشقها كان قد تملَّك مني
، ابتعدت وتركت القاهرة بحجة سفري للتصوير
بالخارج، لكن بكاءها تلك الليلة جعلني أفقد صوابي وأعود لها مسرعا تاركا خلفي كل شيء، ما إن رأتني
حتى ألقت جسدها داخل صدري، وظلت تبكي
وتبكي.. كانت تنتفض من البكاء، ربتُ على كتفها
بحنان، وأنا أسألها عن سبب بكائها، خرجت حروفها متقطعة، وهي تخبرني أن هناك مَن يتصل بها و
يهددها بالقتل.
سأله فؤاد:
-  وما الدليل على كل ما تقول؟ ثم أنها لم تقدم
أي بلاغ يثبت صحة ادعاءك.
-  وقتها ظننت أنها دعابة سخيفة من إحدى
زميلاتها، أو من أحد المعجبين؛ لأنني عندما عاودت
الاتصال بالرقم ردت عليَّ طفلة صغيرة.
أعتدل آسر في جلسته ليسأله بترقب:
-  هل لازلتَ تحتفظ بهذا الرقم؟
-  نعم.
-  أين هو؟
-  قمت بتسجيله داخل مفكرة بمنزلي.
اتجه آسر إلى الحمَّام الملحق بمكتبه؛ ليغسل وجهه، ويستعيد نشاطه، فتبعه محمد ليسأله:
-  هل تظن أنه صادق في هذا الحديث؟
-  أشعر أنه يقول الحق، لكن علينا التأكد.
-  كيف ستتأكد من ذلك؟
-  سوف أذهب بنفسي لأحصل على الرقم.
خرج آسر مصطحبا تامر معه إلى منزله؛ لإحضار تلك
المفكرة.
**********
داخل منزل عثمان ظلت أمل تجوب الغرفة ذهابا
وإيابا في توترٍ ملحوظ، وهي تفرك يديها ببعضها
البعض، بينما القلق يتراقص على معالمها، قطعت شقيقتها ابتسام حيرتها، وهي تقول:
-  كفى توترا؛ من المؤكد أنه بخير، وسوف يعود
قريباً.
نظرت لها أمل ببعض الشك، وقالت بتوتر متزايد:
-  أتمنى أن يخطئ حدسي ويعود سالماً.
دلفت فاطمة إلى الغرفة لتجدهما تتهامسان بتوتر، ما إن رأتها أمل حتى جفَّ حلقها، زاغت عيناها،
حاولت أن تخفي ما كانت تحمله بين يديها بسرعة
قبل أن تلاحظه فاطمة، سألتها فاطمة:
-  ماذا تخفين؟ هل ظهرت نتيجة امتحاناتكِ؟
زاد ارتباكها، شعرت أن الهواء يتقلص من حولها
، عيناها زاغتا بالمكان، ثم سقطت مغشياً عليها،
صرخت ابتسام وفاطمة، اجتمع كل مَن بالبيت فور
صراخهما، أول مَن دلف للغرفة كان عمارة، حملها
ليضعها فوق فراشها، زاد الارتباك والفوضى داخل
الغرفة، أمهم لا زالت تبكي وتنعي ما أصاب عائلتها، فلذة كبدها لا تستجيب لصوتها، خشيت أن تفقدها
كما فقدت ابنتها الثانية، قبَّلت يد عمارة وهي تترجاه أن ينقذ ابنتها، خرج مسرعا ليحضر الطبيب، بينما
تسللت ابتسام ببطء وسطت تلك الأجواء المشحونة وأخفت شيئا كان بين يدي أمل تحت الوسادة دون أن يلاحظها أحد، سألهم والدهم بقلق:
-  ماذا حدث؟
رفعت فاطمة عينيها عن أختها الراقدة لتجيب
والدها:
-  لا أعلم، حينما دلفت إلى الغرفة كانت تجوبها
في قلق وتوتر واضحين، سألتها ماذا تخفين؟ زاغت
عيناها، ثم فقدت الوعي.
مررت ابتسام بعض الروائح النفَّاذة أمام أنفها؛ علها
تستجيب، لكن بلا فائدة، فرفضها وخوفها من معرفة أهلها بالحقيقة جعلها ترفض العودة، حبست داخل
زنزانة عقلها كانت تسمع أصواتهم، لكن لسانها كُبّل بقيد من حديد، وصل عمارة ومعه الطبيب..
طلب من الجميع ماعدا واحدة الخروج من الغرفة
حتى يستطيع الكشف عليها، ظل الجميع قلقين،
حتى خرج الطبيب خالي الوفاض ليخبرهم:
-  لقد تعرضت لأزمة نفسية جعلتها تفقد وعيها،
يجب أن تعرضوها على طبيب نفسي.
خبطت والدتها على صدرها بكفيها، وهي تصرخ:
-  هل أصبحت ابنتي مجنونة؟
اقتربت ابتسام منها تحاول تهدئتها، وشرح الموقف لها:
-  لا يا أمي، هي تحتاج للراحة فقط.
غادرهم الطبيب بعدما نبههم بعدم تعرضها لأي
ضغط؛ حتى لا تصاب بانتكاسة أو تحاول الانتحار.
*********
وصل عصام إلى ذلك المكان الذي أرسله له صاحب
المكالمة الهاتفية، بحث بعينيه حوله ليجد خلفه
مخزنا قديما أغلق منذ فترة؛ بسبب نشوب حريق كبير فيه على بابه قفل كبير وسلسلة من الحديد، آثار
الحريق موشومة على جدرانه كتوثيق لما حدث، تلفت حوله يمينا ويسارا متأملا ذلك الفراغ الذي يحاوطه،
يبحث بعينيه عن مرامه، نظر إلى ساعة يده وجدها
شارفت على الثانية صباحا، تملكه الخوف؛ فإن قُتل
في هذا المكان فلن يشعر به أحد، لكنه جازف بحياته لإظهار الحقيقة، جاء من خلفه رجل يضع قبعة تشبه قبعات السبعينيات، كان ملثما بشال فلسطيني
يُخفي ملامحه، خرج صوته الخشن ليفاجئ عصام
الذي يوليه ظهره:
-  هل أحضرتَ المال؟
انتفض جسد عصام تلقائيا إثر المفاجأة، ليجيب بعد
أن ازدرد ريقه:
-  أجل، أحضرته.
-  أين هو؟
-  أرى المستندات أولا، وأتأكد منها بعدها تحصل على المال.
وضع يده في جيب المعطف الذي يرتديه ليخرج منه مجموعة من الأوراق، وسلمها لعصام في يده،
تفحَّصها بعيون مندهشة؛ فهذه الأسماء وتلك
المعلومات كفيلة بقلب الموازين، سحب منه ذلك
الغامض الأوراق، وهو يسأله:
-  هل تأكدتَ الآن؟ أين المال؟
أخرج عصام من جيبه مظروفا أبيضَ طويلا منتفخا
بالعملات الورقية سلمه إياه، ثم استلم المستندات
، غادره بعدها الملثم دون أن ينبس ببنت شفه، شعر
عصام أنه أمام قضية كبيرة عليه العمل عليها
ليظهر الفاسدين، فكَّر أنه لابد أن يطلب المساعدة
من أفراد الأمن، لكنه عدل عن تلك الفكرة في
اللحظة الأخيرة؛ فحصوله على مثل هذه المستندات سوف يجعله عرضةً للسؤال من أين أحضرت تلك
المستندات؟ لذا فضَّل التكتم حتى ينشر الخبر، عاد
إلى منزله وبداخله سعادة عارمة؛ فمثل هذا التحقيق الصحفي كفيل لجعله أشهر صحفي؛ مما سوف يزيد من صيته ويعلي من أسهم نجاحه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي