لقد هَرِم القلب

زفر بضيق شديد بينما يشاهد صديقه يستقل سيارته و يرحل بسرعة هوجاء، عاد يسب أخيه من جديد على أفعاله الرعناء التي تسبب المزيد من الكوارث والأزمات لجميع من حوله غير عابئ بأي أحد أو أي شيء!

هرع نحو غرفته الخاصة حيث كان قد ترك الهاتف المحمول هنالك، التقطه على الفور حالما وصل إليه، قام بمهاتفة أخيه، يريد أن يفهم منه كل شيء، يوبخه على تركه لزوجته تعود وحيدة بتلك الطريقة، ثم يعلم منه سبب تعجيله بالطلاق بتلك السرعة بعدما اتفقا أنها سوف تكون بعد مضي ثلاثة أشهر من الزواج.

وصل إليه صوت رنين انتظار فتح المكالمة، عدة ثوان مرت انتظر فيها فتح المكالمة لكن أخيه لم يفعل، كرر الاتصال عدة مرات أخرى حتى آتاه صوت أخيه في النهاية واهن و حزين بينما يقول بنبرة هادئة:

"مرحبا أخي، كيف حالك؟!"

إن قال أنه لم يتأثر من نبرة الحزن تلك التي شابت صوت أخيه يكون يكذب على نفسه، لكن لابد و أن يكون حازما معه حتى يفهم ما قد حدث بينه و بين زاد، لذا بنبرة حازمة هو قال:

"تتسأل كيف حالي يا أرعن و قد خرج هارون العاصي للتو من منزلنا و هو يقسم على قتلك حينما تقع بين يديه! ماذا فعلت تلك المرة و أي مصيبة قد جعلتها تقع فوق رؤوسنا جميعا؟!"

تنهيدة حزينة خرجت من جوفه بينما ينصت لكلمات أخيه، ليقول بعدها بنبرة من فقد بأسه:

"إذا لقد أخبرته زاد عن رغبتها في الطلاق؟! أتريد أن تعلم ما حدث أخي؟! هل لو أخبرتك أنه لم يحدث أي شيء من البداية بيني و بين زاد سوف تصدقني!"

أنصت موسى لصوت أخيه الواهن بقلق، معاذ يبدو أنه يوشك على الدخول في نوبة اكتئاب حاد، و ليس هناك أحد بجانبه! ثم عن أي شيء يتحدث هو و ما هو الذي لم يحدث من الأساس؟! همس لنفسه بنبرة متحسرة:

"لقد صعبتها علي معاذ، جعلتني أقع حائرا بين أخذك بين ذراعي و بثك الطمأنينة كما كنت أفعل دائما، أم أنزل عليك سخطي و غضبي من تهورك و غبائك!"

رغما عنه خرجت نبرته حازمة و ناقمة بينما يقول:

"أي جنون تتحدث به معاذ؟!"

ليبدأ بعدها معاذ في سرد الجنون بعينه على مسامعه، لم يستطع موسى منع تلك الدمعات التي تسربت رغما عنه من عينيه تأثرا بما سمع، فأخيه برئ من ذنب قتل براءة زاد، و السبب كان هو، نجده و نجدها في الوقت المناسب، قبل أن تقع الكارثة! أنقذه كما اعتاد إنقاذه في صغره من عواقب غضبه الجامح!

همس لنفسه

"حمدلله، حمدلله"

هذا لا يعني أنه لا يحمل أخيه بعض من المسؤولية، فحتى لو كان ذلك صحيحا لم يكن يصح أن يترك زاد تعود وحيدة بدونه للبلاد، عاتبه بذلك، لم يجد جواب من أخيه سوى:

"هي من اختارت الفراق أخي! رغم كل العشق الذي كنتته لها هي لم ترني يوما حتى! لقد هرم قلبي في عشقها، بينما هي لم ترد سواك أنت"

استمع لصوت أخيه المرير، و من بعده صوت بكاء لطالما اعتاد مدواوته جرح صاحبه، لكن هنا لم يكن يستطيع فعل شيء، فربما ما حدث هو الأفضل للجميع، و أما عن هارون فربما الزمن قادر على منحه الهدوء، أن يتفهم عدم وجود فرصة لعيش هذان الاثنان في قصة تجمعهما معا!



سرعته الجنونية تلك سوف تجعل يرتكب حادث، علم ذلك جيدا، لكن غضبه مستعر كالجحيم و لا يريد أن يهدأ أبدا، تناول هاتفه من جيب سترته، يريد محادثة أحد ما.

لكنه لم يكن يعلم عن تلك السيارة التي تسير من خلفه بسرعة أكبر منه، تصدمه من الخلف بقوة، ليصطدم هو بدوره بعمود الإنارة ذاك الذي كان بعيدا عنه خمسة أمتار في الجهة اليسرى لكن قوة دفع السيارة الأخرى من الخلف جعلته يفقد تحكمه بالمقود و من بعدها اختفى كل شيء من حوله، سقط في ثقب أسود لا نهاية له.



أصوات مزعجة بدأت تتسرب إلى سمعه، محادثة بين رجلين على ما يبدو كانت، فتح عينيه ببطء شديد، حاول أن يستعب المكان الذي فيه الآن، آخر ما كان يذكره هو ذلك الحادث الذي مر به، حاول أن ينهض من جلسته لكنه فوجئ بمن ينهره بقوة بينما يقول:

"سيد هارون، من فضلك لا تتحرك من موضعك، فذلك الحادث الذي مررت لا يستهان به!"

رغم الألم الذي يشعر به في ساقه و كلتا ذراعيه لكنه لم ينصت لأوامر الطبيب تلك، نظر إليه بعينين مغبشتين بالضباب بينما يقول بنبرة زاعقة:

"انزع عن يدي ذلك الشيء اللعين، أنه يحرق بقوة، انزعها على الفور!"

لم يعلم الطبيب كيف يتفاهم مع ذلك المريض و الذي حدث و أن يكون رجل اعمال شهير من عائلة العاصي ذائعة الصيت، حاول أن يُفهم مريضه عن فائدة تلك الكانيولا التي يضخ بواسطتها بعض السوائل المغذية لتجعله يستعيد عافيته! لكنه فوجئ به ينزعها هو بعنف ثم يستقيم واقفا!

حاول منعه، فوجئ بصراخه في وجهه بينما يقول:

"من فضلك أيها الطبيب ابتعد عن طريقي، أنا لن أبقى ثانية واحدة أخرى في هذا المشفى"

"ولكن سيد هارون حالتك لا تسمح بالمغادرة! فأنت لم تستعد وعيك بالكامل بعد! عليك أن تعود إلى الفراش مرة أخرى، ما تعاني منه الآن هو اضطراب ما بعد الصدمة!"

لاحقه الطبيب يحاول إعادته إلى الفراش، لكنه لم يستجب له، بل صرخ في وجهه مجددا:

"اللعنة، لقد أخبرتك أن تبتعد عن وجهي، سوف أذهب ولن يمنعني أحد!"

"عليك أن تمضي إذا على إخلاء مسؤولية إذن كي ندعك ترحل من هنا"

عاجله الطبيب بتلك الكلمات، ليهز رأسه موافقا على طلب الطبيب الذي ظن أنه سوف يرجع عن قراره بتلك الكلمات لكنه لم يفعل، هز الطبيب رأسه بيأس ثم أشار لمساعده بجلب تلك الورقة كي يوقع عليها المريض.

بنبرة متعجبة تسأل هارون:

"أين هو هاتفي و كذلك حافظتي الجلدية؟!"

أوما إليه الطبيب بتفهم بينما يقول:

"لا تخف، لقد تم وضعهم في الأمانات كي يُحتفظ بهما ريثما تستعيد وعيك!"

زفر بضيق شديد، عاد يجلس من جديد على الفراش، ينتظر عودة مساعد الطبيب بتلك الورقة، فوجئ باقتراب الطبيب منه، ثم تناوله لشئ ما من على الخزانة الصغيرة بجوار الفراش، كانت لاصقة طبيبة مع قطعة قطن معقمة، مسح بها على موضع الإبرة الطبيبة التي سبق أن نزعها هو في وقت غضبه، أعقبه وضع اللاصقة الطبيبة الصغيرة، ليقول الطبيب بعدها بنبرة هادئة:

"لقد قمنا بأخذ عينة دم من أجل إجراء بضع تحاليل لك سيد هارون، لكنت أود أن تظل كي نقوم بعمل أشعة الرنين المغناطيسي على رأسك كي نعلم هل حدث ارتجاج في المخ من عدمه، فالصدمة كانت قوية، لكنك لم تمنحنا تلك الفرصة!

على أية حال سوف تظهر نتائج التحاليل الطبية تلك غدا، تستطيع أن تأت من أجل استلامها، و لربما تغير رأيك حول الأشعة، نصيحة مني عليك التزام الراحة التامة في فراشك اليوم، و لو شعرت بأي أعراض جديدة لا تتردد في العودة مرة أخرى"

أنصت هارون لكلمات الطبيب بعدم صبر، فهو بالتأكيد لن يأت لذلك المشفى مرة أخرى، سوف يجعل أحد مساعدينه يجلب له نتائج الفحوصات، فلو علم أحدهم عن الرهاب الذي يعانيه هو من تلك المشافي بعد وفاة والديه في داخلها بعد حادث أليم، لكانوا اتخذوه سخرية بكل تأكيد.



رنين هاتفه المحمول تصاعد، نظر إلى شاشة الهاتف فإذا به يرى اسمها يسطع على شاشة الهاتف، تلك النسمة الرقيقة التي تهون عليه مرارة الأيام، ابتسامة حانية رسمت على وجهه بينما يجيب على الهاتف، قائلا بنبرة يفضحها العشق:

"مرحبا، لقد اشتقت إليك حقا و كنت أنوي الاتصال بك، إلا إنك قد سبقتني في ذلك!"

ابتسامة بلهاء رسمت على وجهها بينما تنصت لكلماته تلك، منذ اليوم الذي صارحته فيه بعشقها له و هو لا يتوانى عن التصريح بمدى حبه و شوقه لها، رغم أن ذلك الأمر يسعدها كثيرا إلا أنها تخجل منه حقا، حتى الآن لا تعلم كيف تجرأت في ذلك اليوم و صرحت له بأنه داء العشق الذي أصابها و هو الترياق الذي سوف تشفى به!!

تتذكر صدمة أبيها و أمها حين رؤيتهما لهما و هما يمسكان بأيدي بعضهما البعض دون حرج، بينما يصرح موسى بنبرة عشق:

"خالي، أريد منك أن تعجل بتحديد موعد زفافنا أنا و رجوة، يا ليت لو جعلته غدا!"

لن تنسى أبدا صدمة أبيها بينما ينقل نظراته بينهما بعدم فهم، يتسأل بصوت ملئته الدهشة:

"زفاف من، و زواج من؟! هل فاتني شيء في المنتصف؟!"

رغما عنها حينها ضحكت في داخلها على ردة فعل والدها، دعت ربها أن يكون في عونه من تلك الصدمة! حكمة والدتها تدخلت في ذلك الوقت لصالحهما، حينما أطلقت زغرودة عالية ثم أبعدت يدها عن يد موسى، أخذتها في عناق حنون، همست لها في أذنها بنبرة زيف ساخر:

"لقد أخبرتك أن تحاولي كسب قلب الرجل و إعادته إليك و ليس لأن تحوليه لرجل فاقد عقله!! يا الله منك، لقد خطبت من أسبوعين فقط و ها هو يريد الزفاف غدا! ماذا فعلتِ بالرجل يا بنية؟! إن لم تكني ابنتي لكنت قد قلت أنك تمارسين السحر و الدجل و قد سقيت الرجل بماء ذائب فيه عمل سفلي بالعشق و الهوى!"

والدتها معها الحق بالتأكيد على سخريتها تلك، فهي لم تكن تعلم أن موسى سوف يصاب بالتهور بتلك الطريقة، يجرها خلفه، يقف أمام والديها و يصرح برغبته في تعجيل الزفاف!

بصوت عال عادت والدتها تقول لموسى مؤنبة إياه:

"ما هذا الكلام يا موسى؟! أي زفاف الذي تريده بتلك السرعة؟! نحن لم ننهي تجهيز رجوة بعد! و أنا لن أقبل مطلقا أن تتزوج ابنتي و هي ينقصها أي شيء، لذا أمامك شهران على الأقل لكي نقيم الزفاف خاصتكما!"

إن كانت ردة فعل والدها سابقا أصابتها بالضحك، فردة فعل موسى التالية جعلتها تكاد تفلت منها ضحكة صاخبة، كتمتها بصعوبة بعد قرص والدتها لها في ذراعها:

"ماذا؟! شهران من الزمن!! لا هذا كثير جدا زوجة خالي! أنا لا أستطيع الانتظار كل تلك المدة!"

كان دور والدها ليزعق في وجه موسى بضيق بينما يقول:

"ما بك موسى؟! احترم أني والد العروس يا رجل! اخف لهفتك تلك عني يا ولد، فتلك ابنتي التي تتحدث عنها!"

لم يكن موسى الذي أجاب حينها على والدها بل كانت والدتها التي تدخلت بحكمتها مرة أخرى و هي تقول بنبرة مرحة:

"لا تزجر الولد، عليك أن تفرح لرؤية محبته الكبيرة لابنتك، وأنت يا موسى، سوف أحاول بكل جهدي أن أنهي كل التحضيرات في شهر واحد بدلا من شهرين، و كان الله في عوني على ذلك لأنه سيكون حمل ثقيل و مهمة شاقة حقا!"

لم يقتنع موسى بكلمات والدتها، اعترض حينها قائلا بنبرة متوسلة:

"يكفي أسبوعين زوجة خالي! رجاءا!"

لكن كانت والدتها حازمة حينما قالت بنبرة موبخة زاجرة إياه:

"بل شهر كامل! و كف عن التوسل موسى لا يليق بك هذا الدور صدقني!"

ليصمت بعدها موسى رامقا كلا والديها بنظرات مغتاظة بينما يرمقها هي بنظرات متوعدة و هو يراها تكتم ضحكها الذي يكاد يفلت منها!

لقد ظل موسى يتوعد لها بعدها ليال طوال بالانتقام منها على عدم وقوفها في صفه، كانت تخبره أنها خجلت من تصريحها أمام والديها بتعجيل الزفاف، بعدة فترة كان قد هدأ و اقتنع برأيها، حيث أن تلك المدة ستكون كافية حتى عودة أخيه و زوجته من الخارج.


"رجوة، لمّ الصمت، أين ذهبت بعقلك و تفكيرك؟!"

ضحكت بصوت عال ثم أخبرته بنبرة مرحة:

"لقد كنت أتذكر ذلك اليوم الذي ذهبت فيه لوالدي تطلب منهما جعل الزفاف في اليوم الذي يليه، لا استطيع أن أنسى ردة فعل والدي على طلبك هذا حتى الآن!"

لم يكن من موسى سوى أن شاركها الضحك هو الآخر، فما حدث ذلك اليوم كان لا يشبهه، لقد جعلته رجوة يجن بحبها حقا! فوجئ بعدها بها تخبره بنبرة مغتاظة قليلا:

"و على ذكر سيرة الزواج، لمّ لم تخبرني عن عقد قران صديقك هارون! ألم يكن من المفترض أن نذهب سويا الحفل ذاك؟!"

عن أي قران تتحدث رجوة، ثم أن اسم هارون و الزواج لن يجتمعا في جملة واحدة بكل تأكيد، و ليس من المعقول أيضا أن يعقد هارون قرانه ولا يكون هو أحد الشهود على ذلك العقد! بنبرة موبخة هو قال:

"عن أي قران تتحدثين رجوة، لابد أنك كنت تحلمين! فلا يعقل أن تعلمي عن عقد قران صديقي المقرب بينما أنا لا أعلم عنه شيئا!!"

شعرت بالضيق منه على توبيخه هذا، نهرته بنبرة مغتاظة قائلة:

"كف عن توبيخي يا راعي، فصور عقد قران صديقك و خبر عقد قرانه تملأ الجرائد و الأخبار، زوجته تبدو جميلة حقا، لقد رأيتها، هي شقراء، و يبدو عليها التحفظ و الهدوء! أما عن عدم معرفتك بالأمر فعليك أن تسأل صديقك عن السبب و ليس أنا!"

حاجبيه ارتفعا في حيرة و دهشة، الأمر جاد إذا و قد حدث! السؤال الأهم سيكون لماذا لم يخبره هارون عن الأمر؟! هل كان في عجلة لدرجة أن ينسى إخبار صديق عمره عن عقد قرانه! عليه أن يهاتف ذلك الأحمق! يوبخه على فعلته، لكنه تذكر فعلة معاذ، علم حينها أن الاتصال لن ينفع و عليه أن يقوم بزيارة له، يعلم منه سبب ما حدث.

بنبرة هادئة أخبر رجوة:

"رجوة هل استطيع أن أتحدث معك لاحقا، هناك أمر ما علي القيام به الآن! لا تغضبي مني، سوف اعوض عليك الأمر بكل تأكيد!"

شعرت رجوة بوجود شيء خاطئ فلا يمكن حقا أن يعقد هارون قرانه بدون دعوة موسى، فهما صديقين مقربين يكادا يكونا إخوة، تمنت في نفسها ألا يكون هارون قد علم أمر معاذ و زاد لأنها ستكون كارثة على الجميع حقا، تقبلت عذر موسى بينما يخبرها عن تعويض الاتصال ذاك، لذا أخبرته بنبرة حانية:

"لا عليك موسى، انتبه لعملك و حين تجد وقت تستطيع الاتصال بي حينها، أنا لست غاضبة لا تخف، في رعاية الله"

ابتسم موسى بدفء على ردة فعل رجوة، لقد تفهمت حاجته للتحدث مع صديقه و لم تصر على معرفة الأمر حتى، أكثر ما يعجبه في رجوة هو عقلها و تفكيرها، أجاب على تحيتها بحب بينما يقول لها:

"في أمان الله حبيبتي"

ليغلق المكالمة بعدها معها، ثم يبدأ في فتح بيانات الهاتف، يبحث عن أخبار صديقه، و التي جاءته سريعا "عقد قران السيد هارون الراعي على الآنسة سلسبيل،،،،"

الأمر حقيقة إذا، سوف يذهب لذلك الأبله الآخر و يوبخه بشدة على تنحيته له من دور الصديق المقرب حتى لو عنى ذلك شجار آخر بينهما!

نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي