قسما بالثآر

بعد أن أغلق معها المحادثة و أخبرها أنه سوف يصل إليها عن قريب، أسرع بتبديل ملابسه في غرفته الخاصة، التقط بعدها المفتاح الالكتروني لسيارته الفارهة، ثم رحل سريعا عن المنزل بأكمله.

استغرق في الوصول إليها ثلاثة أرباع الساعة، و هذا يعد رقما قياسيا بالنسبة للزحمة الخانقة في العاصمة، قام بمهاتفتها حالما وصل إلى مقصده، دلته على مكانها ببعض الإرشادات.

دقائق قليلة و كانت في حضنه، تتلقي عناق أخوي تحتاجه بقوة، عينيها بدأت تدمعا رغما عنها، و كادت تنفر منه دمعة يتيمة هو الآخر، لكنه وأدها في مهدها!

لم يسألها، اكتفى بالاحتواء فقط، صاحبها إلى السيارة في صمت، أرادته فمنحها إياه، طوال رحلة عودتهما كذلك، اكتفى كل واحد منهما بالنظر من النافذة التي بجواره، هو كاتما غضب يكاد يحرق كل ما حوله، و هي تحمد الله أنها نجت من الهاوية.


وصلا إلى المنزل، طلب منها أن تدلف هي إليه ريثما هو يجلب حقيبة السفر خاصتها، امتثلت لطلبه، زفر بضيق من أفكار عقله المتصارعة، فزاد لم تعلم بعد عن أمر زواجه من سلسبيل، و لم يكن يحسب أنها سوف تعود إلى منزل العائلة مرة أخرى بدلا من منزل زوجها!

التقط الحقيبة من داخل السيارة، في دلف هو الآخر من خلفها، يتمنى في داخله أن تظل سلسبيل في غرفتها ريثما تأخذ زاد قسط من الراحة و من بعدها سوف يشرح لها كل شيء.

اختارت زاد أن تذهب إلى غرفتها مباشرة، لم تنتظر حتى لحاق أخيها بها، الأمر الذي جعل هارون يتنفس الصعداء فهي قد أعطته الفرصة كي يستطيع التحدث مع سلسبيل و شرح الأمر له، فهو لا يود أن يحدث أي صدام أو سوء تفاهم بينهما هما الاثنتان.


أسند حقيبة السفر خاصة شقيقته زاد حيث الجدار الخاص بغرفتها، لم يشأ أن يطرق الباب و يدخلها لها، فما تحتاجه زاد الآن هو وقت لنفسها، لا ضغط أحدهم عليها، فعل ذلك ثم سار إلى الغرفة التي تقطن فيه زوجته سلسبيل الآن، دق على باب الغرفة عدة دقات ثم انتظر الرد الذي يسمح له بالدخول إليها.

آتاه صوتها ضعيف و واهي، تطلب له الدلوف ففعل، راعها تجلس على الفراش تضم ركبتيها إلى صدرها، واضعة رأسها عليهما، ملامح وجهها و بقايا دموع على كلتا وجنتيها توحي له أنها كانت تبكي منذ قليل.

تنهد بقلة حيلة بينما يقترب من الفراش، اكتفى بكونه على بضعة خطوات منه كي لا يخفيها، بصوت هادئ يبدو عليه الضيق أخبرها:

"لقد عادت شقيقتي زاد من شهر العسل خاصتها، لم يعد زوجها معها فهو لديه بعض الأمور لتسويتها بالخارج، لذا زاد سوف تقطن معها في نفس المنزل، كل ما أرجوه منك فقط هو أن تحاولي تجنبها كلما أمكن، فهي في حالة نفسية سيئة و ليس هناك من داع لتعرف كل شيء عنا!"

رص كلماته بجوار بعضها البعض، بينما يتابع تغير ملامحها إلى الضيق الشديد، الأمر الذي جعله يتسأل عن سبب ذلك الضيق، ثم فطن بعدها لأمر ما، مما جعله يستطرد قائلا:

"هذا لا يعني أنني لن أخبرها عن أمر زواجنا، سوف أخبرها بالطبع، ما كنت اقصده أنه لا داع لأن تعرف أننا لن نظل متزوجين سوى لفترة قصيرة ثم ننفصل بهدوء بعدها"

شاهد تسرب بعض الراحة لملامح وجهها، فعلم أنه على حق حينما فكر أن سلسبيل ظنت أنه سوف يخفي أمر زواجه عن شقيقته، وجدها بعدها تتحرك من جلستها تلك، تدير ظهرها له، تضجع على الفراش، بينما يتسرب منها همس ناعم و هي تقول:

"افعل ما شئت، و هيا اتركني و ارحل من هنا"

و فعل ذلك، تنهد بضيق بينما ينظر إليها، التف بجسده مبتعدا عنها، فتح باب الغرفة، عبر من خلاله، اغلقه من خلفه بهدوء شديد.

زفرة راحة خرجت من فمه بعدما أنهى لقائه مع سلسبيل، هو يعلم بالطبع أنها لن تشكل أي عائق له، لكن وجب توضيح كل شيء و وضع الأمور في نصابها قبل أي تحرك متهور قد يتخذه، سوف ينتظر زاد حتى تفيض له بما حدث معها ثم يبدأ في التحرك بعدها وإعادة كرامتها التي هُدرت.



لا يعلم هل مرت ساعة أو اثنتان على وجوده في غرفة المكتب خاصته بداخل المنزل، لربما مرت أيضا، لقد كان يدخن بعض التبغ، يحرق رئتيه ببطء، يتابع سير العمل على الحاسوب النقال خاصته، ثم غفى بعدها على تلك الأريكة المزعجة في زاوية الغرفة.

شعور مزعج تسرب إليه، حيث تلك الأريكة لا تناسب رجلا بحجمه بكل تأكيد، زفر بضيق بينما يستقيم واقفا ثم يقرر الذهاب إلى غرفته و الحصول على حماما منعش ينفض به عن كاهله شعور الضيق ذاك، و من بعدها هناك حديث لابد أن يجريه مع شقيقته الغالية.


بعد نصف الساعة

أخذ حمامه المنعش، بدل ملابسه لما يناسب خارج المنزل، فبعد الحديث ذاك سوف يذهب لمقابلة الراعي بكل تأكيد! ذهب لغرفة شقيقته، قرع باب الغرفة فسمحت له بالدخول بعد أن علمت هويته، كانت هي الأخرى قد بدلت ملابسها لمنامة منزلية مريحة، تطلع إليها بعينين دافئتين بينما يسير نحوها، يجلس على الفراش، يسألها بنبرة هادئة و حنونة:

"زاد، ألم يحن الوقت كي تخبرينني بما حدث معك هناك، ما فعله معاذ، و كيف طلقك هكذا بكل سهولة ممكنة؟!"

وجدها ترسم على وجهها ابتسامة مترددة، تسرد له بصوت يغلبه الندم:

"زواجي من معاذ كانت خطأ حياتي أخي و كان لابد لي من تصليحه، فراقنا كان أمر واقع لا محالة، فقط قربت المسافات لا أكثر!"

كلامها غامض، لا يمنح لغضبه الراحة، مما جعل نبرة صوته تتبدل بينما يقول بصوت شبه زاعق:

"ما الذي تقولينه زاد، عن أي خطأ تتحدثين؟! لم يضغط عليك أحد للقبول به، منحت فرصة كاملة للتفكير في الأمر! فكيف يكون ذلك مجرد خطأ؟!"

تنهدت بقلة حيلة، علمت أن أخيه سوف يقلب الدنيا رأسا على عقب من أجلها، لكن الأمر لم يعد يستحق حتى الحديث عنه، فقصتها مع معاذ انتهت قبل أن تبدأ حتى و يجب أن تغلق تلك الصفحة في حياتها للأبد، أخبرته بنبرة واثقة:

"خطأ أم لا، تلك الصفحة أصبحت من الماضي و لابد من أن تغلق نهائيا أخي، لا حديث عن معاذ بعد الآن، الطلاق سوف يتم بهدوء بعد زواج أخيه موسى كما سبق و أن اتفقنا أنا و هو"

كلمات شقيقته زاد تثير جنونه، كيف تقول لفظ الطلاق هكذا بكل بساطة ممكنة؟! ألا تعلم تلك البلهاء ما الذي يقال عن من مثلها، اللاتي يحصلن على الطلاق بعد وقت قصير من زواجهن!!

انتفض واقفا، غضب شديد تملك منها، أخذ ينظر إليها بضيق و غضب، نهرها بصوت زاعق:

"اصمتِ زاد، فقط اصمتِ، عن أي طلاق تتحدثين بتلك السهولة؟! و كأن الأمر كان مجرد لعبة لعينة و قد مللت منها! لقد سئمت من دلالك الزائد هذا! إن كنت لا تريدين أن تخبريني بما حدث بينكما أنت و معاذ سوف أعلم أنا بطريقتي! و تأكدي أن المخطئ سوف يحصل على عقابه مضاعفا!!"

بصق تلك الكلمات في وجهها، تطلع إليها بغضب حتى كادت تظن أنه سوف يصفعها، نضح الفزع على ملامح وجهها، ابتعدت عنه بخوف شديد، ليبتعد هو الآخر ناويا الرحيل إلى الخارج.

نظرت في آثره بينما يغلق الباب من خلفه بقوة كبيرة، لقد تحول أخيها إلى مارد ينفذ شررا من جميع خلاياه، هي لأول مرة تخاف حقا منه، بصوت مرتعش هي قالت:

"آه يا أخي! لو علمت فقط سبب كل ما حدث!! و لكنني خشيت عليك من نفسك و من غضبك هذا، فأنت لمجرد ذكر الطلاق شعرت بكل ذلك الغضب، فماذا لو كنت علمت ما فعله معاذ و دفعني للزاوج به؟!"

بكت، أخرجت المزيد من الدموع، و التي على ما يبدو أنها لا تنضب أبدا، لقد ظنت بعدما علمت الحقيقة أنها لن تبكي أبدا، و لكن ها هي الآن تبكي على كل شيء و على لا شيء أيضا.


لا تعلم كم مر على جلستها تلك و هي تمارس طقس البكاء، لكنها شعرت أنه يكفي، لا فائدة من البكاء، كل شيء سوف يمر، عليها استعادة حياتها من جديد، أجل تلك التجربة قد جعلتها تنضج، ذلك الرجل، موسى الراعي التي ظنت نفسها تعشقه يوما لم يعد يمثل لها شيئا في حياتها الآن.

زواجها من معاذ انتهى هو الآخر، عليها أن تجد نفسها من جديد، أن تصلح ما فسد، تضمد جروحها بنفسها، لا مكان للعشق في ما هو آت من أيامها، لقد اكتفت منه و من الخراب الذي جلبه إلى حياتها، و هي سوف تبدأ الآن.

نهضت من على الفراش، مسحت بقايا دموعها من على وجنتيها بقوة، ثم خطت نحو باب الغرفة، فتحته، تريد الهبوط إلى الأسفل، حيث حديقة المنزل، و هواءها الذي يشعر المرء بالحياة.

و بينما هي تفعل، تسير في الرواق المؤدي إلى الدرج، فوجئت بإحدى الخادمات تحمل بين يديها صنية طعام، تخطو بها إلى تلك الغرفة التي تقبع في الزاوية، الأمر جذب انتباها، دفعها للحاق بها، سألتها بنبرة حائرة:

"لمن هذا الطعام يا هند؟! هل هناك ضيف ما بالمنزل؟!

رسمت الخادمة ابتسامة دافئة على وجهها بينما تخبرها بنبرة هادئة:

"لا يوجد أي ضيوف سيدتي، الطعام من أجل السيدة سلسبيل زوجة سيدي هارون"

"زوجة من؟!"

نطقت بتلك الكلمات المتعجبة بعدما صدمت بكلمات الفتاة إليها، فعن أي زوجة تتحدث تلك الفتاة؟! و لمّ لا تعلم هي شيئا عن تلك الزوجة؟!

الفتاة أجابتها ببعض الفزع، فقد خافت من ملامح زاد و طريقتها الحادة تلك، حيث قالت:

"زوجة سيدي هارون، لقد تزوجا يوم أمس، و قد طلب مني قبل ذهابه أن أحضر الطعام لغرفتها فهي لم تأكل شيئا منذ البارحة!"

حاولت أن تهدئ من نفسها، فما ذنب الفتاة في عدم علمها بما حدث أثناء سفرها، زفرت عدة مرات مخرجة غضبها، ثم أخبرت الفتاة التي تناظرها بصدمة كبيرة من فعلتها تلك:

"حسنا هند، سوف أذهب معك أنا أيضا كي ألق التحية على زوجة أخي! فلا يصح ألا أرحب بها في المنزل كما يليق بها"

أومات إليها الخادمة بطاعة، عادت تسير من جديد نحو الغرفة و من خلفها زاد التي تشعر بفضول شديد نحو تلك الفتاة التي أوقعت أخيها العازب الأشهر في البلاد في حبالها.


دقات على باب غرفتها استمرت لثوان، ثم تلاها صوت فتح باب الغرفة، دون أن تستدير حتى كي ترى الزائر، نطقت بنبرة نافذة للصبر:

"لقد قلت سابقا لا أريد أن أرى أي أحد، أي من كنت تكون و مهما كان السبب الذي جئت من أجله فعد من حيث أتيت و اغلق الباب من خلفك"

فوجئت زاد و من خلفها الخادمة بما نطقت به سلسبيل التي ظلت على حالها على الفراش، كادت الخادمة تنطق ببعض الكلمات لتشير لها زاد بالصمت، ثم تهمس لها بترك صنية الطعام على الطاولة الصغيرة في وسط الغرفة، و من بعدها تغادر على الفور.

نفذت الخادمة تعليمات زاد لها، مغلقة الباب من خلفها بهدوء، ليصل صوت انغلاق الباب إلى مسامع سلسبيل التي تنهدت براحة، لكنها راحتها تلك لم تكتمل حينما وصل إليها صوت زاد و هي تقول بنبرة هادئة:

"لقد أردت أن أتعرف عليك زوجة أخي، ألن ترحبي بي في غرفتك؟!"

كلمات زاد جعلتها تنتفض من رقدتها، تنظر إليها بنظرات حائرة لتقابلها زاد بنظرات متعجبة، فتلك الفتاة على ما يبدو كانت تمارس طقس البكاء مثلما كانت تفعل هي منذ قليل الأمر الذي دفعها للتساؤل عن سبب زواج أخيها بتلك الفتاة التي يبدو على ملامحها الجميلة البؤس الشديد.


لقد وصل إلى منزل صديقه في وقت قياسي، حتى أنه يوقن أنه قد حصل على أكثر من مخالفة سرعة، لكن ذلك لا يهم الآن، ما يهم هو إيجاد ذلك التافه معاذ و تلقينه درسا لا ينسى، فما فعله مع زاد لا يغفر، تركها وحيدة في المطار، رغبته في الانفصال عنها بعد شهر فقط من زواجهما مما قد يسبب فضيحة مدوية لعائلة العاصي و هذا أمر كافي برغبته في قتله!!

طرقات عنيفة وجهها لباب تلك الشقة التي يقطنان بها أبناء الراعي، ليجد بعدها وجه موسى يطل عليه و على وجهه علامات الاستنكار ثم الدهشة، لم يكن يملك من ضبط النفس الذي يجعله يشرح لموسى أي هو فقط صرخ في وجهه بنبرة زاعقة يغذيها الغضب:

"أين هو يا موسى؟! أين هو أخيك الحقير ذاك؟! أقسم سوف اقتله ما أن أضع يداي هاتين عليه!"

صرخ بذلك في وجهه موسى الذي لم يفهم شيئا من كلمات هارون سوى أنه قد علم بما حدث من معاذ في حق زاد، الأمر الذي جعل الرعب يتصاعد إلى داخل قلبه، يقترب من هارون يحاول تهدئته بينما يخبره بنبرة متوسلة:

"من فضلك اهدئ يا هارون، كل شيء قابل لأن يصلح، هما متزوجان الآن و كل شيء بخير، أرجوك لا تجعل الأمور تسوء من جديد بعد أن هدأت!"

تطلع هارون شزرا لصديقه موسى الذي لا يعلم بأي كلمات يهذي أو عن أي شيء قد يصلح من جديد؟! نهره بنبرة زاعقة بينما يقول؟!

"ما تلك الترهات التي تتحدث بها موسى، كيف سوف تصلح الأمور و قد اتفقا الاثنان على الطلاق بعد شهر واحد من زواجهما! شهر واحد فقط موسى! و الذي يعني أن توسم شقيقتي طوال عمرها بلفظ لا استطيع نطقه!"

ارتياح شديد تسرب إلى قلب موسى بعدما أنصت لكلمات هارون الغاضبة تلك، و على الرغم من أنه تفاجأ بخبر الطلاق ذاك لكنه حمد ربه في داخله أن هارون لم يعلم بعد بفعلة معاذ، عاد يقترب من هارون الذي نفر منه مبتعدا، يتوسل إليه من جديد بينما يقول:

"هلا هدأت قليلا هارون، معاذ ليس هنا، فهو مازال مسافر كما تعلم هو و شقي،،"

لم يكد موسى يكمل حديثه حتى فوجئ بمقاطعة هارون له و هو يوجه لمعاذ الكثير من السبات و اللعنات أيضا:

"ذلك السافل الحقير، جعلها تعود إلى البلاد وحيدة بينما ظل هو هناك يتمتع براحته! سوف اقتله، أخيك ذاك سوف اقتله لك يا موسى!"

فوجئ موسى بحديث هارون عن عودة زاد وحيدة للبلاد، الأمر الذي دفعه لسب أخيه في سره هو الآخر، أعطى العذر لهارون لغضبه ذاك فهو لو كان مكانه لفعل ذلك و أكثر! أراد أن يهدأ صديق عمره ببعض الكلمات، لكنه فوجئ به يسير بخطوات سريعة نحو الخارج و كأنه مارد قد خرج من مكمنه!

نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي