11111111111111111111

- أين أنتِ يا حبيبتي؟، لمَّ تأخرت بذلك الشكل؟
أجابته في حزن قائلة:
- لقد حدث معي اليوم شيئًا لن تُصدقه.
السيد عاصي في خوف:
- ماذا هناك يا كريمة؟، أخبرني ماذا حدث أرجوكِ؟
أطرقت الحكيمة رأسها إلى الأسفل، تُفكر فيما ستقوله؟، هل من الصواب أن تُخبره أم تنتظر حتى يأتي الوقت المناسب؟
ادعت الإعياء أمامه، فهرول نحوها في خوف، لا يعلم ما الذي أصابها؟، وقد أوشكت أن تُخبره بأمر هام، ليسألها في قلق قائلًا:
- ماذا هناك يا كريمة؟، ما الذي حدث معك؟، هل الأمر خطير إلى هذه الدرجة؟
ارتبكت كريمة، وشحب وجهها، علقت الكلمات في جوفها، فهذا الأمر الذي جاءوا لأجله، وإن علموا الأمر منذ سنوات، فكريم منزعج من والده منذ معرفته بالحقيقة، ولكن لسوء صحة والده لم يستطع النزول حينها، وأخذتهم الحياة في مسار آخر، وبدأت الحكيمة كريمة مع زوجها رحلة العلاج، تُباشر أموره بنفسها، فقد جاءه ذلك المرض المتخصص في حصد الأرواح، واقترب الموت منه للمرة الثانية، ولكنه هذه المرة نازعه لأجل الحياة، على أمل لقاء ابنه ولو للنظرة الأخيرة، وحال دون ذلك المرض طوال هذه السنوات، وما أن تحسن قليلًا عادوا على الفور لتلبية تلك الأمنية الأخيرة، فرفعت الحكيمة رأسها، والتقت عينها بعينه مباشرة، وهي تقول له في ثقة مُغلفة بالحزن:
- أعدك بأنني سأحقق لك ذلك الحلم مهما كان الثمن، لن أتراجع أبدًا حتى تُقر عيناك به أمامك.
زوجها في امتنان:
- لا أجد حقًا من الكلمات ما يُعبر لكِ عن شكري لكِ، فأنا مدين لكِ بحياتي، قمت بإنقاذي مرتين، وهذه ستكون مسك الختام.
وكأن قلبه يشعر، وروحه تعلم بأن الذهاب قد اقترب، ولم يعد أمامه الكثير في هذه الحياة، ولأجل ذلك يجب أن يُسرع، ولكن لسوء الحظ لا أحد يعلم مكان ولده، فقد غيرت الجدة كل شيء بداية من العنوان حتى رقم الهاتف، أغلقت عليه كل المنافذ كي لا يصل إليه، إلا أن الله مهد الطريق لزوجته، التي التقت بالابن الغائب، وسوف تراه ثانية، ولكن هل سيكون سهلًا عليها جمع الولد بأبيه، أم أن الأمر سيتطلب منها تضحية كبيرة؟
في المستشفى ...
العم قدري يتفحص ما في جيبه لدفع الرسوم الخاصة بسهيلة، ولكن يبدو بأنها لن يكفيها الراتب الشهري الذي يقتاضه، وسيضطر إلى الاستلاف، وقف لفترة يُفكر أمام المحاسب بالخزينة، ليُخرجه من صمته قائلًا:
- هل ستدفع يا عم قدري أم ستظل تقف أمامي؟
العم قدري في شرود:
- نعم، ماذا قلت؟
- يبدو بأنك لست هنا يا عم قدري.
يقطع حديثهم شخص ثالث، يسأل المحاسب في لطف قائلًا:
- لو سمحت أخبرني كم المبلغ كاملاً؟
أخرج من محفظته المال، ودفع له الفاتورة كاملة، لينظر إليه العم قدري في حرج، ولا تقوى شفتاه على الإفصاح عما يدور داخله، إلا أن عمر تولى عنه الأمر قائلًا:
- ليس هناك من حرج بيننا يا عم قدري، فأنت في مقام والدي، وأشكر الله الذي جمعني بشخص مثلك.
ترقرقت العبرات في أعين العم قدري، وهو يربت على كتفه في امتنان قائلًا:
- الله يجبر بخاطرك يا بني كما جبرتني، ولا ترى الذل أبدًا.
قال جملته الأخيرة في ألم، فاح من نبرته، وسيطر على ملامح وجهه التي تبدل حالها، وحين وصلوا إلى الغرفة، حاول التماسك إلا أنه فوجئ باختفائها.
- سهيلة، أين ذهبت سهيلة؟
ينظرون إلى بعضهم البعض في خوف، وتعلو وجوههم نظرات الاستنكار، فهي ليست بحالة جيدة للخروج وحدها، وأين ستكون ذهبت؟، وقد عادت إليها ذاكرتها حديثًا، زرعوا المستشفى جيئةً وذهابًا، ولم يجدوها قط، تقول لهم الممرضة في استنكار:
- ألمَّ تكن معكم؟
انتفض قلب عمر، ولم يكن العم قدري بأقل حالًا منه، يشعر بالخوف الشديد عليها، لم يجدر به أن يُخبرها بما فعلته تلك المرأة معهم، فهل من المعقول بأنها ذهبت إليها؟، وماذا إن أذتها ثانية؟، ولمَّ لم ترفع عليها شكوى؟، وما ذلك الوعد الذي أعطته له؟، لم ينتبه لكلماتها سوى الآن؟
عيون تراقب دون انقطاع، تخشى أن تغفل ثانية، فيفوتها حدث هام مما جاءت لأجله، وقلوب لا تجد سبيلًا للراحة في غياب أحبائها، وإن اختلفت النية في البداية، أرادت به شرًا؛ بل صنعت له كيدًا، أرادت الانتقام منها، ولكن وقعت هي في الحفرة التي دبرتها لنور، تقطع عليها والدتها سيل الأفكار في قلق قائلة:
- ما بكِ يا مي؟، لمَّ أنتِ شاردة بذلك الشكل؟، حالك لا يُبشر بالخير أبدًا، وكذلك أخيك.
مي في عفوية قائلة:
- ماذا هناك يا أمي؟، هل إبراهيم بخير؟
السيدة منال في قلق:
- أنا أتحدث عنكِ يا مي، فحالك يتغير إلى الأسوأ، انظري إلى ملامح وجهك، وتحت عينيك وقد غزاها الشحوب، واستوطنتها الهالات، لم تعودي كما أعهدك، فأين ذهبت ابنتي مي؟
- أنا هنا يا أمي، لمَّ تتحدثين بذلك الشكل؟
السيدة منال في حزن:
- لم تسر الأمور كما تمنيتها يا ابنتي، أخيك ما زال يُحدثها، بل أصبح مصرًا على الزواج بها، وأنتِ لا يُغادرك الشرود، وكأنك في كوكب آخر؛ بل عالم غير عالمنا، فما الذي حدث معكِ يا ابنتي؟
تشتاقه بشدة، ولا يكف عقلها عن التفكير فيه،
تتمنى لو كان يتذكرها، مرت الأيام وأصبحت أسابيعًا، وكذلك الأسابيع تحولت إلى شهور، ليمر خمسة أشهر على غلق ذلك المتجر الشهير، تسير مي أمامه، فقد استطاعت النجاة بصعوبة من أسئلة والدتها المتكررة، تتذكر أول لقاء جمعها به، وكيف تبدلت الأحوال مع آخر لقاء جمعهم، اكتشفت ماهية ذلك الشعور، وتمنت لو أفصحت عنه أمامه، إلا أنها تراجعت في اللحظة الأخيرة، ونفذت ما أملته عليها والدتها، كانت الخطة هي استدراك نور لبيت السيد وائل، ثم بعد ذلك إخبار إبراهيم ليراهم معًا، عليه أن يكسر شوكتها بأي طريقة، هكذا نصحته مي، ولا تدري بأي لسان استطاعت التفوه بذلك، وهي فتاة مثلها، كيف ترتضي لها ذلك؟، وهي لا ترتضيه لنفسها، إلا أن سلسال الشر يبدو وبأنه انتقل من الأم إلى ابنتها، وإن احتقرت الابنة نفسها بعد ذلك، ولحسن الحظ أفسد وائل مخططهم حين حاول التقرب منها في متجره، فدفعته نور بعيدًا عنها، واستطاع أحد متربصيه أخذ لقطات لذلك الفعل الشنيع، ونشرها في كل مكان، وتم فضحه على الملأ، ليُغلق متجره بعدها بأيام لسوء سمعته، لم يعد هناك من زوار له، ولم يُفصح السيد وائل عن اسم الفتاة، سترها بعد ما أراد تدميرها سيرًا خلف خطة السيدة منال، فأراد التكفير عن فعلته، وتعويضها عن ذلك الأذى، فأرسل لها ذلك المال الذي ظنته بجائزة قامت بالفوز فيها، وبواسطة ذلك المال افتتحت مطعمهما، وأخذت عائلتها للعمل معها.
- ما زلت أشك في أمر تلك الجائزة.
- حرام عليكِ يا إبراهيم، لمَّ تقول ذلك؟، ألا تعلم بأنني كنت أحب الاشتراك في المسابقات دومًا، وجاء حظي جيدًا هذه المرة.
- ولكن يا نور، قلبي يُحدثني بأن الأمر ليس كذلك.
- ماذا سيكون إذن يا إبراهيم؟
إبراهيم في عفوية:
- لعله تعويض عن ...
لم يُكمل جملته، واقتضب حديثه، لتسأله نور في عدم فهم قائلة:
- أخبرني ماذا قلت؟، وما الذي تقصده؟
ارتبك إبراهيم، ولم يعرف بمَّ يجيبها؟، فادعى بأن أحدًا يناديه، وأغلق الخط معها على عجل.
العم محمد في قلق:
- ما بك يا بني؟، لا تبدو بخير.
- لا أدري يا عم محمد، ولكن ذلك المال الذي كسبته نور كما تعتقد لم يكن بالقليل، ولكونه تحتاجه فرحت كثيرًا، ولم تُفكر أبدًا في مصدره.
العم محمد في لطف:
- لا تُنهك عقلك يا بني، فما أراده الله كان، وما لم يرده لم يكن، فلا تُفكر كثيرًا، وسلم أمرك لله.
إبراهيم في يأس:
- ليس ذلك بالأمر الوحيد الذي يشغلني والله، فأنا ما زلت أفكر في أمر زواجنا، لا أعرف كيف هي الطريقة المناسبة لإقناع والدتي؟، حاولت معها بمختلف الاتجاهات، ما زالت لا تقبلها، ولا توافق قط على أي مما تقوله، تصر على رفضها، ليدخل قلبي وعقلي في صراع أنى له بالانتهاء؟
يربت العم محمد على كتفه بحب، ويقول له في حنان:
- ستوافق يا بني إن شاء الله، عليك بالدعاء، وكن على يقين بأن الجبار يسمعك، وعن قريب سيحقق لك أمنيتك.
في المطعم ...
نور عقلها مشغول بما قاله إبراهيم، ولا تدري لمَّ تذكرت ذلك الشخص؟، وتلك الحادثة، فخرت سجدًا لله، لقد سترها برحمته، فالصور التي تم التقاطها أُخذت من ظهرها، لم يظهر وجهها، ورفض السيد وائل الإفصاح عن هويتها أمام الآخرين، فقد نال جزاء ما فعله، وكانت خسارته فادحة، تتذكر ذلك المتجر الذي اضطررت على مضض إلى العمل به، ورحلة خروجها للحياة دون استعداد، وكيف عوضها الله وأصبحت صاحبة مكان، والآن تبدلت أحوالها هي وعائلتها، وأصبحا لهما بيتًا يملكانه، ولم يعدا بحاجة إلى البيت الكبير.
في البيت الكبير ...
تشعر حبيبت السيد بالعجز، فكل مخططاتها باتت بالفشل، وسئمت من وضع تلك الوسادة؛ كدلالة على كبر الجنين، ولكن كانت هذه خدعة من خدعها، فما من حمل منذ البداية، ولم تحصل على محمد في النهاية، الغيرة تتقد داخلها، فاشتد غيظها حين رأتها تقف قبالتها، تصرخ بها في غضب قائلة:
- أنتِ هنا في بيتي، ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟
- جئت لأخذ ثأري.
حبيبت السيد في استنكار:
- عن أي ثأر تتحدثين أيتها المخبولة؟، يبدو بأن الوقعة السابقة قد أثرت على عقلك بالكامل.
سهيلة في ثبات:
- لا والله، فالمرة الماضية فقدت ذاكرتي، ولكن حين عادت إلي، لم يُمح منها الأحداث.
حبيبت السيد في عدم فهم:
- ماذا تقصدين بكلامك؟
- ذلك الحديث الذي دار بيننا أمام ذلك الباب.
ارتبكت حبيبت السيد، وأخذت تنظر هنا وهناك؛ كي تتأكد بأنه ما من أحد بالجوار، لتهرول نحو الأخرى، فسقطت الوسادة الملفوفة حول خصرها، وكُشفت حيلتها، لتستفزها سهيلة قائلة:
- أ لست بحامل أيضًا؟، يا لك من مغفل كبير يا أخي فتحي، لم تحبك زوجتك يومًا، ولن يكون لك أبدًا وريثًا.
تلف حبيبت السيد يديها حول رقبة سهيلة، تريد أن تقتلها، هذه المرة لن تُكرر غلطتها، تخنقها بكل قوتها، وهي تقول:
- لن يعلم أحد بذلك السر، فحبي لمحمد سيظل عظيمًا وبغضي لفتحي سيزداد أكثر، وسينتهي به المطاف وحيدًا، فقد حرمته من عائلته التي تحبه، بل سيكون ذليلًا، لا سند له ولا مأوى.
ثوان قليلة وكادت أن تفقد سهيلة فيها حياتها، فقد كانت تقف بالخارج تراقب عودة أخيها وما أن رأته من بعيد قادمًا، ظهرت أمامها واستدرجتها في الحديث، ليقع عليه كالصاعقة، ويدفعها عنها في جنون قائلًا:
- ما من جنين في الأساس، وذلك الحب كان خداعًا، ما هذا القلب الذي ينبض داخلك؟، ولمَّ قتلتِ طفلي قبل أن يولد؟
يُضيق عليها الخناق، وفي ثوانٍ كانت في عداد الأموات، لم تستطع سهيلة أن تدفعه عنها، فقد كان كالثور الهائج، لم يتركها إلا وهي فاقدة للحياة.
جاءت الشرطة وأخذته؛ لتُغلق تلك المصابيح المضاءة داخل البيت الكبير، ويدخله نور النهار، فقد غادرته الروح الشريرة، جاء إخوته على عجل، ومن خلفهم العم قدري، ينظر لجثمانها في آسف قائلًا:
- لم أتمنى ذلك المصير لكِ يا ابنتي، ولكن ماذا أفعل؟، فذلك كان حصاد أفعالك الشريرة، سامحك الله يا ابنتي، لم يعد بإمكاني سوى الدعاء لكِ، ولعلك تكونين عبرة وعظة لمن هم أمثالك، فالشر وإن طالت، نهايته دومًا تكون قريبة، وقد حصدتيه ما زرعتيه بيديك طوال هذه السنوات، والآن سيلتم الشمل ثانية، ولن يُفرق بين الإخوة لا زوجة أخ ولا حقد أبناء.
********
تسير مي أمام متجر السيد وائل، تنظر إلى المكان، وقد أصبح عدم في آسف قائلة:
- يا ليتني ما فعلتها، يا ليتني ما سمعت كلمات والدتي، فقد كنت أنا أيضًا ضحية لأم متسلطة والله يا وائل، يا ليتك تسمعني الآن، يا ليتك تسامحني، فأنا أحبك، نعم أحبك، ولم أعي ذلك سوى بعد فوات الأوان، فإن كنت قابلتها قبلها لاستطعت جعلك تقع في حبي و...
- ومن قال لكِ بأنني لا أحبك!
يُقاطعها أحدهم في ألم قائلًا:
- ومن قال لكِ بأنني لم أفعل؟
مي في غير تصديق:
- وائل، هل هذا أنت؟، غير معقول، وما الذي جاء بك إلى هنا؟
وائل في حزن:
- وهل يرتاح المرء بعد ما يُحب؟؛ بل بعد تدمير مستقبله.
أطرقت رأسها إلى الأرض، وهي تعتذر من بين دموعها قائلة:
-سامحني أرجوك يا وائل، فقد حدث الأمر والله رغمًا عني، لم أقصد ذلك.
فبادرها وائل قائلًا:
- هل تقبلين الزواج بشخص مثلي؟
تقع مي يدها على فاهها في غير تصديق، وهي تقول له:
-وماذا عن نور؟، هل تريد نسيانها من خلالي؟
- لا والله، لم أحبها، فقد اكتشفت حقيقة شعوري بعد التقائي بك، فالحب والله لم أعرفه إلا معك.
******
في المستشفى
يجلس أحدهم خلف الباب، ينتظر قدومه في لهفة، وما أن رأى ظله، نبض قلبه بشدة، فهل من المعقول بأنه ابنه حقًا؟، ولمَّ يكرهه إلى ذلك الحد؟، كيف استطاع فعل ذلك؟، يُريد أن يراه ولو لمرة واحدة، واستدرجته الحكيمة، وهي تقول له في رجاء:
-اسمعني يا بني أرجوك، فلدي من الحديث ما يحتاج منك سماعه.
كريم في استغراب:
- من تكونين أنتِ؟، وهل تعرفينني حقًا؟
- نعم يا بني.
قالتها الحكيمة كريمة في ألم، وهي تشرح له ما حدث، وتكشف أمام عينيه الحقيقة، فوالده قد يُغادر الحياة في أي لحظة، وتتوقف حياته على لقاء واحد بك، فأتوسل إليك لا تقتل رجاء أب أرجوك.
وما بين طرفة عين وانتباهتها، فوجئ به يرتمي في أحضانه، وعينيه تبوح بالحقيقة، فقد ندم على ما فعله في الماضي، ودارت عليه الدائرة، وشرب من نفس الكأس، وما أن قرت عيناه برؤيته غادر الحياة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي