فرحة لم تكتمل

ثلاثة أسابيع قد مرت على رحيل ذلك الأحمق، رغم شعورها براحة كبيرة بعد رحيله و عدم رؤيتها لوجهه البغيض، إلا هناك شعور بالخوف تسرسب إلى داخلها، فهي رغم كل شيء فتاة وحيدة في بلد أجنبي!

و رغم أن أخيها هارون لا يتوانى عن الاتصال بها يوميا كي يطمئن عليها و على حالها بعد أن وصلت إليه أخبار عن انضمام معاذ لمعسكر الفريق الوطني، اوهمته أنها بخير بالطبع، ليس أمامها خيار سوى أن تفعل ذلك!!

لقد أنهت للتو محادثة هاتفية معه بالصوت والصورة، كان يمازحها كالعادة، حتى أنه أخبرها عن رغبته في حضور المباراة النهائية للبطولة، لمؤازرة زوجها معاذ في حصد البطولة، مثلت أمامه أنها مهتمة بالطبع بأخبار زوجها، بينما هي في الحقيقة لا تعلم عنه شيئا منذ ذهابه.

حتى المكالمات التي كانت تأتيها منه من وقت لآخر لم تجب عليها مطلقا، اختارت تجاهله بالكلية، تلك القصاصة التي كان قد تركها و عليها رقم تستطيع محادثته عليه، كان مصيرها سلة القمامة بعد أن قطعت لمائة قطعة بكل تأكيد.

الوحيدة التي نجت من يدها هي بطاقته الائتمانية، فهي رغم كل شيء لا تحبذ الخسارة، و لن يستطيع تسديد ثمن إقامتهم في ذلك الجناح الباهظ إن هي قد فعلت ذلك!

حديث أخيها هارون جعل فضولها يخرج من مكمنه، جعلها تمسك الهاتف، تبحث في الشبكة العنكبوتية عن موعد تلك المباراة التي ذكرها هارون، عن مكان إقامتها أيضا، لربما دفعها الفضول للذهاب لرؤيته و هو يهزم فيها، خاسرا لقب تلك البطولة الغالية!

نهرت نفسها بعدما علمت كل المعلومات عن تلك المباراة، تركت الهاتف من يدها واختارت أن تذهب للشرفة، تحتاج لبعض الهواء المنعش، فهناك توتر و قلق يحوم في داخل عقلها.


رغم كل التحذيرات، اللعنات التي وجهها عقلها إليها، ها هي بعض مضي عدة ساعات و مع اقتراب موعد المباراة تقف أمام طاولة الزينة، تضع بعض الرتوش على وجهها، كحل أسود، طلاء للشفاه بلون وردي غامق، يليق بثوبها ذو اللون الكشميري.

زفرة عدم رضا أطلقتها بينما تمد يدها نحو حقيبة الكتف خاصتها، بعدما حرصت على وضع متعلقاتها بداخلها، نظرة أخيرة للمرآة ثم الرحيل بخطوات سريعة شبه راكضة حتى لا تعود و تغير رأيها مقررة عدم الذهاب و التشفي فيه.



تلك الفتاة ستقوده للجنون حتما! هذا ليس بجديد عليها حقا! لطالما كانت زاد تفعل ذلك به بل و مازالت تفعله أيضا، منذ رحيله عن الفندق و تركها وحيدة هناك و القلق عليها ينهش قلبه نهشا، فهي رغم كل شيء مالكة الفؤاد، حتى لو كانت سلاطة لسانها لا تحتمل.

كم من مرة يحاول الإتصال بها و هي لا تجيب على اتصالاته، قد ظن أنها ربما قد أصابها شئ ما، كاد يترك معسكر الفريق و يركض إليها ركضا، لكن محادثة هارون معه حينها، مزاحه معه حول زاد و تركه لها جعله يوقن أنها بخير، فقط هي لا تريد سماع صوته كما أخبرته سابقا!


و اليوم ها هي المباراة النهائية قد أتت، لقد استطاع الصمود حتى الليلة، الفوز في جميع الجوالات السابقة، لربما هو فاشل كبير في الحب لكنه لن يكون فاشلا في لعبته المفضلة أيضا، ثم أن ليست سمعته هو فقط التي على المحك، بل سمعة موطنه، آمال الجماهير التي حضرت إلى المباراة وضعت على عاتقه حملا كبيرا أجل، لكن أملا أكبر في رفع علم البلاد في تلك المناسبة الدولية الكبرى.


"أوف تلك الفتاة لا أعلم كيف تفكر، لقد أخبرني هارون أنها قد مازحته عن حضورها لتشجيع زوجها! لكنني لا يعلم هل الأمر جاد معها أم مجرد مزاح، على أية حال سوف أخبر أحد الأصدقاء عن حضورها كي يستطيع الاعتناء بها"

تمتم لنفسه بتلك الكلمات بينما يتجول بعينيه وسط الحضور، لعله يلمح طيفها بينهم، نداء عال باسمه هو ما جعله يركض بعيدا، و لا يلمح تلك الفتاة التي تسير بخيلاء بصحبة من أوصى له بصحبتها في المكان.


تطلعت من حولها بنظرات ساخرة، لقد كان عدد الحضور كبيرا، و كأنها مباراة كرة قدم و ليست مجرد مباراة ملاكمة في حلبة، وقعت أنظارها عليه، لعنته في سرها، تمنت له الهزيمة من كل قلبها، لكنها عادت لتؤنب نفسها، فهو هنا ليس مجرد معاذ الراعي، بل معاذ المصري!


بسمة رقيقة كادت ترتسم على وجهه حينما وقع بصره عليها، لكن تلك الابتسامة تم وأدها في مهدها مع رؤيته لنظرات الاحتقار التي تراعيه بها، عاد لينظر إليها بسخرية هو الآخر، لقد حضرت المباراة، و الذي لا يعني سوى شئ واحد! هي جاءت لرؤيته يهزم لا أكثر.

لوح لها بيده في فعل استفزازي من قبله لها، قابلتها هي بسبة خافتة حتى لا تصل لسمع ذلك السمج الذي يردد على أذنيها منذ مجيئها عن ميزات زوجها الراعي، عن قوته و شجاعته، لكم ودت أن تصفعه على فهمه لعله يتوقف عن ثرثرته تلك، ثم تلقي بحذائها في وجه ذلك المتبجح الآخر ذو الابتسامة اللزجة!


بعد مضي بعض الوقت، بدأت جولات المباراة، الراعي المصري ذو اللون الأحمر في الركن الأيمن و المنافس الأسباني ذو اللون الأزرق الجنسي في الركن الأيسر، يتنافسان على الحزام الذهبي لوزن الريشة.


المباراة لم تكن هينة على معاذ، منافسه ذو بأس شديد حقا، لديه عدة تقنيات فعالة جدا، حتى أنه استطاع إصابته في جانبه الأيسر ببعض الضربات، لكنه أيضا معاذ الراعي، لن يستطيع أحد هزيمته، الشخص الوحيد الذي فعلها كانت زوجته زاد العاصي، و قد ندم أشد الندم على ترك نفسه سبية لعشقها.

هتاف جماهير الوطن وصلت إلى سمعه، نقلت إليه عدوى الحماسة، حتى أنه بدأ يصرخ في داخله بحماسة، أنه يستطيع فعلها، تحقيق الفوز بتلك البطولة.

لكمات ذلك الفتى قد طالت وجهه، عينه اليمنى تحرقه بشدة، شفتيه أدمت كذلك، هذا لا يعني أنه لم يصب الفتى هو الآخر، فوجه منافسه قد بات خارطة غير واضحة المعالم!!


أن تسمع عن الأمر شيئا من بعيد غير أن تراه أمامك وجها لوجه، فهي لم تكن تعلم أن تلك اللعبة بتلك الدموية، رؤيتها لمعاذ و قد أُغرق وجهه بالدماء، رؤية منافسه و هو يكيل له اللكمات سببت لها إحساس بالغثيان!

تشعر برغبة شديدة في القي بعد رؤيتها لكل تلك الدماء، و ما زاد الأمر سوءا هو رؤيتها لمعاذ و هو يتكوم أرضا و منافسه ينهال عليه بالضربات، و لولا حكم المباراة الذي أمره بالابتعاد لكان أرداه قتيلا!

دوار شديد انتابها، لم تشعر بنفسها وهي تميل للخلف حتى كادت تقع من على مقعدها، لولا صديق زوجها الذي حاول مساندتها، و على وجهه علامات القلق و الفزع.


رؤيته لزاد و هي في حالة إعياء جعلته ينتفض بقوة، ينقض على منافسه موجها له عدة لكمات متتالية، مما جعله يقع أرضا هو الآخر، ثم يسلم بالهزيمة، ليعلن بعدها حكم المباراة فوز اللاعب المصري على منافسه الأسباني بالبطولة.


لكم ود لو يطير و يصل إليها، يأخذها بين ذراعيه، يطمئن عليها و على حالتها، لكن كان لابد له أن ينتظر التتويج خاصته، استقبال التهنئة من مدربه وتقبل العناقات منه و من الزملاء في الفريق أيضا، رسم على وجهه ابتسامة رضا بينما يرفع علم بلاده، يدار لحن نشيدها القومي، حتى تسرسبت دمعات الفرح من عينيه.


لم يستطع انتظار المزيد من الوقت، ترك كل شيء لمدربه بعد أن همس له أن زوجته متعبة و لابد من ذهابه بها إلى المشفي كي يطمئن عليها، تفهم مدربه خوفه و قلقه ذاك، تركه يرحل مع دعوات منه أن تكون زوجته سالمة و آمنة.

وصل إلى حيث كانت تجلس بجوار صديقه، مد يديه نحوها واحتواءها في أحضانه، حاولت التملص منه لكنه شدد حصار ذراعيه عليها، همس لها أن تتركه يعتني بها و يأخذها للمشفى، امتثلت له فقط لأنها تشعر بإعياء شديد، رعب كبير في داخلها أيضا.

تولى الصديق أمر جلب سيارة أجرة، استقلاها سويا، بعدما طلب منه معاذ بلكنة أجنبية ممتازة أن يقوم بإيصالهما لأقرب مشفى، و بأقصى سرعة ممكنة، ليومئ السائق بتفهم بعد رؤيته لحالة زاد الواهنة تلك.

المشفى لم يكن بعيدا كثيرا عن المكان الذي كانا فيه، كانا صديقه قد نقد السائق بعض النقود لعلمه أن معاذ لم يكن يحمل مالا في ملابسه خاصة المباراة، لذا هبطا سريعا من داخل السيارة، قام بإسنادها جيدا، ثم دلف بها إلى داخل المشفى طالبا الاهتمام بزوجته التي يكاد يغشى عليها بين ذراعيه.

مساعدة طبيبة تطوعت بالذهاب إليهما، أخذهما لغرفة المعاينة في المشفى حتى يتسنى لطبيبة نسائية معاينة زاد بعدما علمت من معاذ عن كونهما زوجين، و من حالة زاد التي أمامها خمنت أن الفتاة لربما تكون تحمل طفلا في أحشاءها.

نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي