صريع هواها

لا تعلم ما به هذا الأبله! منذ اليوم الأول الذي جاءوا فيه إلى تلك البلاد وهو يخرج في الرابعة مساءا ويعود بعد العاشرة! مع ملامح وجه مشوهة!!

ظلت لفترة من الوقت تتسأل عن السر فيما يحدث معه، أوقات تزجر نفسها بعنف على التفكير فيه وفي أحواله، ثم يأتي فضولها من جديد و يتراقص أمام عينيها بتسلية لمكر، لتفطن بعدها من مكالمة استمعت إليها عن غير قصد حينما كانت في طريقها لجلب قنينة مشروب سكري من البراد الصغير القابع في زاوية من زوايا غرفة المعيشة.

علمت السبب أخيرا فيما يحدث معه، لقد كان ذلك الأحمق يخوض قتال شوارع، في تلك البلاد التي عرف عنها انتشار قتال الشوارع بشكل كبير وقيام المراهنات عليه! لطالما كان لها معاذ شاب متعجرف و سمج.

صفة جديدة أضيفت لقائمة مساؤه، هو متهور و أحمق، يخوض قتال شوارع غير آبه بحياته المعرضة للخطر، أو حتى أنه سوف يشارك باسم البلاد في بطولة هامة.

"يا لك من فتى أرعن!"

تمتمت بتلك الكلمات بينما تشاهده يخطو بخطوات سريعة نحو المرحاض، على ما يبدو يريد الحصول على حمام عاجل، جذبها شق في أعلى رأسه ينزف دما للنظر إليه، زاد أستيائها منه، وتمنت أن تتخلص من صحبته في أقرب وقت ممكن، عادت لتمتمت لنفسها من جديد قائلة:

"تستحق ذلك و أكثر معاذ الراعي، اتمنى أن يأت يوم فراقنا قريبا حتى لا أرى ذلك الوجه القذر أمامي مرة أخرى"

نطقت بتلك الكلمات، ألتفت بجسدها لتعود إلى غرفتها مجددا أو إلى سجنها المؤقت بمعنى أدق!



"أوف، لقد كان العراك اليوم قويا حقا، أشعر بكلتا يداي يصرخان وجعا!! لكن لا يهم ذلك حقا، ذلك الوجع ما هو إلا أكسير للنسيان، لتخطي الألم في داخل قلبي المتعب!"


همس لنفسه بتلك الكلمات بينما يسير نحوه غرفته التي احتلها من يوم مجيئه إلى هنا، رنين هاتفه المحمول وصل إلى سمعه مما دفعه للإسراع بخطواته نحو الغرفة، خطى نحو الكومود الذي كان قد وضع عليه الهاتف قبل دخوله للمرحاض.

التقط الهاتف بيده سريعا، تطلع نحو الاسم الساطع على شاشة الهاتف بدهشة شديدة، لقد كان مدرب الفريق خاصته هو من يقوم بمهاتفته في هذا الوقت، فتح المكالمة وأجاب على الفور ملقيا التحية بوقار واحترام قائلا:

"السلام عليكم"

"وعليكم السلام بني معاذ"

رد المدرب تحيته بصوت هادئ، عاد يكمل الحديث قائلا بنبرة مترددة:

"عفوا بني معاذ، أعلم جيدا أنك في شهر العسل خاصتك، لكن بني نحن في حاجتك هنا في مكسر التدريب الخاص بالفريق، لقد اقترب يوم افتتاح البطولة وأود الحرص على كونك في لياقة بدنية ونفسية لخوض البطولة و الفوز بها إن شاء الله أنت و زملائك في الفريق من الأوزان الأخرى"

إن كانت مكالمة مدربه له قد آثار تعجبه فحديثه الآن جعله يطير فرحا، لقد كان ذلك منحة من الله له، لقد كاد يجن حقا في الأيام الفائتة و الان و قد جاء طلب المدرب في أحلك أيام حياته!

حمد ربه في سره، بينما ينصت لكلمات مدربه، أراد أن يمحو الحرج عنه فأخبره بنبرة هادئة:

"لا داعي للحرج معلمي، في أي وقت يكون الفريق بحاجتي سأكون متاح مهما كان الظرف الذي أنا فيه، من يوم غدا سوف تجدني أمامك في المعسكر بإذن الله"

جواب معاذ أثلج صدر مدربه بلا أدنى شك، مما دفعه إلى شكره والدعاء له قائلا:

"كنت أعلم جيدا أنك لن تخيب ظني أبدا معاذ، بارك الله فيك بني، و كرمك الله بالفوز الساحق إن شاء الله"

دعاء مدربه وثناءه عليه أعاد إليه بعضا من احترامه لذاته و الثقة بها بكل تأكيد، آمن على دعاء مدربه ذاك بينما يقول:

"اللهم آمين، الفوز سيكون حليفا لنا جميعا بإذن الله معلمي"

قال ذلك، تبادل معه كلمات آخر ثم أغلق الهاتف بعدها ليقرر الذهاب إلى النوم مبكرا، فغدا عليه الاستيقاظ مبكرا و من ثم الذهاب إلى معسكر التدريب خاصة الفريق.


وفي الصباح الباكر استيقظ هو، على وجهه ابتسامة رضا و أمل، قد يكون فاشلا في عشقه، خسر حبيبته إلى الأبد، لكن مايزال هناك أمل يستحق العيش من أجله في الحياة، حلم لطالما راود مخيلته، يتمنى الفوز به و تحقيقه.

أخذ حماما منعشا، كان سريعا، أعد حقيبة السفر الخاص به من جديد، جمع أشيائه و جميع متعلقاته، فهو على أية حال ربما لن يعود مجددا إلى ذلك المكان البائس.

أنهى مهمته في النصف ساعة، بقى لديه أخرى، واحدة أخيرة لكنها تثقل كاهله و تقبض نفسه، التحدث إليها و النظر لها بات محرما عليه حتى، لا ينكر أنه كان يسترق إليها النظرات من وقت لآخر، لكن هذه المرة غير كل مرة، فهنا لابد من المواجهة و هو ما لا يطيقه حقا.

تردد لبضع دقائق في أخذ قرار الذهاب إليها و طلب التحدث معها، لكنه حسم أمره في النهاية، عليه الرحيل بعد قليل، لقد حادث مدربه منذ وقت قريب وأخبره أنه على وشك التحرك من موقعه، ليحثه المدرب على تعجيل رحيله.

وصل إلى أمام تلك الغرفة التي تتخذها صومعة لها، نقر على الباب عدة مرات حتى آتاه جوابها بأنها سوف تفتح له الباب، بوجه ينفث غضبا تطلعت نحوه، أخبرته بنبرة زاعقة قائلا:

"ماذا تريد يا أحمق؟! ألم أخبرك سابقا أنني لا أريد رؤية وجهك أو سماع صوتك!"

"امنحني الصبر يا الله"

تمتم لنفسه بتلك الكلمات بينما ينصت لحديثها الغاضب و الذي يحث على الشجار بكل تأكيد، لكنه لم يكن يريد شجارا بينهما، هو فقط يريد إخبارها أنه سوف يرحل تاركا لها المكان بأكمله.

"صباح الخير لك زاد أيضا! لا تخافي عزيزتي، لقد جئت كي أخبرك أنني سوف أنضم لمعكسر التدريب خاصة الفريق اليوم، لذا لن ترى وجهي بكل تأكيد، سوف أترك لك بطاقتي المصرفية و التي سبق أن رفضتها سابقا، كما سوف أترك لك كي تهاتفيني عليه إن احتجت لشئ، سوف أقوم بغلق هاتفي في الوقت القادم، أعلم أنك لن تفعلي لكن لا أملك سوى فعل ذلك، وداعا زاد"

ألقى بكلماته تلك في وجهها ثم خطى مبتعدا عنها بخطوات سريعة، ترك لها البطاقة و ورقة كتب عليها ذلك الرقم الذي قد أخبرها عنه، ليسير بعدها نحو حقيبته التي قد اسندها سابقا لإحدى زوايا غرفة المعيشة، أمسك بمقبضها يجرها خلفه، مغلقا الباب بهدوء شديد، وسط نظراتها الساخطة التي ودت لو تفتك به فتكا.


"الحمدلله، لقد تمت المواجهة مع حصد أقل خسائر ممكنة! فقط جرح في القلب مازال لم يلتئم و كرامة باتت مهدرة من قبل الحبيب!"

همس لنفسه بينما يخطو لداخل المصعد، يتمنى أن يأت اليوم الذي يتخلص فيه من ذلك الحب الذي حوله لشخص آخر بات لا يعلمه، هو لا ينكر أنه قد أخطأ في حقها خطأ لا يغفر، حاول طلب الصفح مرار، هي ترفض محاولاته تلك، حتى فقد الأمل في الوصول إليها.

زاد لم تكن له في يوم من الأيام، و ذلك الذنب الذي ارتكبه في حقها و جعلها تكتب على اسمه لن يظل يجمع بينهما إلى الأبد، سوف تطلب منه الفراق بكل تأكيد بعد عودتهما إلى الوطن، سترحل زاد بعيدا عنه لكن تلك المرة إلى الأبد.


بعد مرور ساعة من الزمن كان قد وصل إلى المكان الذي أقيم فيه معسكر البلاد، كان المدرب الخاص به في استقباله، كذلك بعض الزملاء الذين حرصوا على تهنئته بزواجه، لم يخلو الأمر من مزاح البعض منهم على ابتعاده عن عروسه في شهر العسل خاصتهما.

حتى أن أحدهما مزح أن زوجته لابد و قد انتحبت بقوة و تمسكت به راجية منه عدم الذهاب بعيدا عنها، تلقى معاذ ذلك المزاح بوجه مبتسم و هادئ، لكن في داخله كان هناك بركان من قهر و وجع، فزوجته لن تنتحب من أجله يوما، أو حتى تطلب منه البقاء.

زوجته قد تطلب الرحيل و الفراق فقط، ربما تتمنى له الموت أيضا، تبصق في وجهه بكلمات الكره، و هو عليه أن يتلقى ذلك بصمت مطبق، فماذا سوف يقول؟! هل يدافع عن نفسه؟! يخبرها أن الدافع كان عشقه لها!!

على أية حال لم هناك فائدة ترجى من البكاء على اللبن المسلوب، زاد لن تسامحه يوما، و هو لن يسامح نفسه على السقوط في فخ عشقها، حتى أصبح صريع هواها يعاني من سكرات عشقه لها.


نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي