وثيقة حريتها

تطلعت نحو ورقة خلاصها منه بذهن شارد، لا تعلم كيف حدث كل ذلك بتلك السرعة الكبيرة، فراقهما بات حقيقة واقعة، أنها باتت حرة طليقة!!

وهل أصبحت حرة حقا أم موثوقة بألف حبل وحبل به! بتلك الدوامة التي سحبها إليها، ولا تستطيع الفكاك منها أبدا.

تسرسبت إلى ذاكرتها أيامها معه رويداً رويداً، منذ يوم زفافها عليه، تلك الرحلة التي ذهبا إليها تحت ستار شهر العسل خاصتهما، مشاركته هو باسم البلاد في البطولة الدولية للملاكمة.

"عودة للماضي"

طرقات مترددة على باب غرفتها في ذلك الفندق الذي تم الحجز لهما فيه، منذ وصولهما و اتخذتها محرابا و ملجأ، ظنت أنه قد فهم ذلك من خلال طريقة غلقها الباب خلفها، لكن على ما يبدو أنه لم يفعل!!

بضيق شديد و سأم فتحت باب الغرفة، تطلعت إليه شزرا بينما تمطره بكلمات غاضبة:

"اللعنة عليك معاذ! ما الذي تريده الآن؟! ألم تفهم أنني بت لا أطيق رؤية وجهك حتى!!"

تحامل على نفسه، تنفس بعمق، زجر نفسه ومنعها من الغضب، منحها ألف عذر وعذر لتحدثها معه بتلك الطريقة، لقد تردد بضع لحظات قبل قرعه على باب غرفتها ولكنه في النهاية حسم أمره على فعلها، فما يريد قوله لها لا يحتمل التأجيل أكثر، بنبرة هادئة هو قال:

"من فضلك زاد، هل تحليت ببعض الهدوء، أعلم جيدا أنك لا تطيقين رؤيتي ومعك الحق في ذلك، فحتى أنا بت لا أطيقني، لكن ما أريد أن أخبرك به سوف يحقق لك ما تتمنينه أعدك بذلك"

نظرت إليه بنظرات ساخرة، حدثته بنبرة متهكمة:

"ماذا؟! تعدني معاذ! أي وعد هذا وبحق ماذا؟! لا تخبرني أنه شرفك الذي سوف تقسم به! لأنه محال أن تكون تملك واحدا يا عديم الشرف"

"استغفر الله العظيم، اللهم الصبر من لديك يا الله"

تمالك نفسه مرة أخرى، لن يخضع للغضب، يترك نفسه لذلك الضغط الذي تمارسه عليه بقوة، بصوت من يجاهد نفسه هو قال:

"زاد، من فضلك، لا تخرجي وحش غضبي من مكمنه! أنت تعلمين جيد كيف يكون! ثم أنا لم أطلب منك سوى دقيقة واحدة للتحدث ومن ثم امنحك الراحة من ذلك الوجه لوقت طويل!"

زفرت بقوة، نظرت إليه بغل، تمنت لو ملكت نصف قوته، لكانت وجهت له كما من اللكمات و الصفعات، طرحته أرضا و أرضت رغبتها في الإنتقام منه! لكنها لا تملك ربع قواه حتى، أخبرته بنبرة زاعقة:

"قل ما تريد ثم اغرب عن وجهي عليك اللعنة"

ابتلع كرامته، كبرياؤه، فهي تستحق أن يفعل ذلك من أجلها، بنبرة من يوشك على فقدان عقله قال:

"سوف اغرب عن وجهك لا تقلقي زاد، فهذا ما قد جئت كي أخبرك به، أنا لن أظل معك في نفس الجناح لوقت طويل، لن تري وجهي أعدك، فقط بضع ساعات للنوم فقط سوف امكثها هناك في الغرفة الأخرى، و باقي اليوم سيكون من أجل التمرن.

لقد قمت بالتصوية على إحضار جميع الوجبات إليك هنا في الجناح، وفي حالة لم ترغبي عليك الابلاغ قبلها عن ذلك، سوف أترك لك أيضا بطاقتي المصرفية لتكون تحت تصرفك إن احتجت لشراء شئ أو التجول في المكان حول الفندق"

نظرت إليه بتأفف وضيق، أخبرته بنبرة ساخرة:

"هذا ما جئت من أجله فقط؟!"

هز رأسه إليها مؤكدا، ليجدها تخبره بتهكم:

"هذا أفضل بكل تأكيد، ألا أرى وجهك الكريه أو أستمع إلى صوتك البغيض! لكن بالله عليك خذ بطاقتك معك، أنا لا احتاجها، فلدي من البطاقات اثنتين، احداهما ذهبية، لذا بحق الله لا تحاول أن تتصدق علي أو تتفاخر بمالك يا رجل"

نظر إليها بضيق شديد، زجرها قائلا:

"هذا ليس بتصدق أو تفاخر يا امرأة! أنت زوجتي بحق الله، و الإنفاق عليك واجبي!"

"زوجة من؟! إياك ثم إياك أن تضعني وإياك في جملة واحدة يا معاذ الراعي! فما نحن فيه الآن ما هي إلا مسرحية نقوم بتأديتها من أجل رجل طعنته أنت في شرفه! لذا كف عن التبجح وتلك الجعجعة الفارغة، أنا لن المس قرشا واحدا من مالك حتى لو كنت على وشك الموت جوعاً"

حسنا، هو لن يستطيع التحمل أكثر من ذلك! سوف تظل تلك الفتاة تضغط على كل الأزرار الخاطئة، و هو بشر! لديه طاقة قصوى للتحمل، عليه أن يرحل سريعا بعيدا عن هنا حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه!

نظر إليها بغيظ شديد يحاول كتمه، استدار بجسده مبتعدا عنها، كقطار يوشك على الخروج من مساره، مغلقا باب الجناح من خلفه بقوة كبيرة حتى جعلها تظن أنه قد خلعه في يده، أطلقت في أثره سبة ولعنة، ثم عادت لداخل غرفتها موصدة عليها الباب بقفلها، لتبدأ بعدها في رحلة معاناة في نزع فستان عرسها الأبيض الذي لم يكن بالنسبة لها سوى كفن أبيض فقط.



مائة مارد يركضون من حوله، لقد حاول كثيرا معها في الأيام الفائتة وقبل زفافهم أن يتحدث معها، يخبرها أنه نادم على ما فعل، يطلب منها الغفران، و لكنها تظل دوما تطلق وحش غضبه بحديثها الجارح، يعلم جيدا أنها تملك ألف وحق في ذلك، وهذا فقط ما يجعله يتمالك ذاته معها.

لا يعلم أين يذهب الآن، لكن أهم شيء أن يكون بعيدا كبعد قارة عنها، يظل أمر معرفة الجميع بأن هذا يوم زفافه، وأنه عريس جديد لا يصح أن يترك زوجته لكان قد انضم لرفاقه في معسكر التدريب خاصة الفريق القومي للبلاد.

"أين أذهب يا الله!! لقد ضاقت علي الأرض بما رحبت! ألهمني الصبر يا الله"

تمتم بصوت خافت دعائه ذاك، طالبا العون والفرج من ربه لعله يصرف عنه ما هو فيه من وجع ووحشة، ليس لديه أحد كي يشكو له ما به، فحتى أخيه موسى قد قاطعه منذ ما حدث منه في حق زاد، لقد حاول كثيرا أن يطلب الصفح منه، لكن موسى قد تجنبه كتجنب الطاعون!

الآن هو على وشك الجنون، فلا شيء يخفف وطأة ما هو فيه من ندم و حسرة، حب عمره باتت تكرهه و تمقته، أخيه الوحيد لا يريد محادثته، فإلى أين يذهب!!

دار في عقله أن يذهب للتجول في الأنحاء من حوله، ربما الهواء البارد يساعده على الاسترخاء قليلا، كذلك يجعل الوقت يمر دون الاحتكاك بمن تود الفتك به أو ما هو أسوء، أن يدفن حيا!



قادته قدماه لزقاق بعيد، راعى فيه بعض الفتيان من ذو البشرة السمراء يتبادلون اللكمات، مما جعله يخمن أن هذا ما هو إلا قتال الشوارع الذي لطالما سمع عن حدوثه في هذه البلاد، قرر أن يقترب منهم قليلا، يشاهد مهاراتهم في القتال.

أعجبه بعض التقنيات التي يستخدمونها في قتالهم، حتى أنه ود لو ينضم إليهم في تباريهم ذاك، لمح على الجانب الآخر منه رجل يقوم بعد بعض النقود، خمن أنها رهانات يقومون بوضعها على من سيفوز في تلك الجولات، اقترب هو من الرجل، أخبره بنبرة متحمسة بعض الشيء:


“Can I participate in those rounds, I play boxing well, can I join you?!”

"هل يمكنني المشاركة في تلك الجولات، أنا العب الملاكمة جيدا، هل يمكنني الانضمام إليكم؟!"

تطلع الرجل الذي أنصت للتو لحديث معاذ إليه بنظرات ساخرة، أخبره بنبرة متهكمة:

“go away boy so you don't get hurt, this is not a good place for weaklings like you!”

"اذهب يا فتى بعيدا حتى لا تتأذى، فهذا ليس مكان جيد للضعفاء مثلك!"

غيظ شديد تملك من معاذ عقب سماعه لسخرية الرجل منه، جز على أسنانه بينما يقول:

"Hey, don't make fun of me! Now, in one second, I can throw you to the ground and show you who is weak among us!"


"أنت يا هذا لا تسخر مني! استطيع الآن في ثانية واحدة أن اطرحك أرضا و أريك من الضعيف فينا!"

“Well, well, it looks like you're really angry, kid!
Do you really want to fight?! But let me tell you, I'm not responsible for what happens to you in that ring! I only care about earning money and nothing more!”


"حسنا، حسنا، على ما يبدو أنك غاضب بقوة أيها الفتى! هل تريد القتال حقا؟! لكن دعني أخبرك أنني غير مسؤول عما سيحدث لك في تلك الحلبة! أنا فقط أهتم بجمع المال لا أكثر!"

سخر الرجل بتلك الكلمات منه، تطلع معاذ للرجل بنظرات متأففة، يعلم جيدا أن المال فقط كل ما يهم، لذا مد يده لجيب سرواله مخرجا حافظة النقود الجلدية خاصته، أخرج من داخلها بضع دولارات سلمها للرجل في يده بينما يخبره بنبرة نزقة:

"هل هذا يكفي أم تريد المزيد؟!"
"Is this enough or do you want more?!"


ضحكة عالية صدرت من الرجل عند رؤيته لتلك الأموال التي وضعها معاذ في يده، لقد أيقن الآن أنه صادق في طلبه ذاك، و هو لا يمزح فقط، لذا هز رأسه موافقا بينما يخبره بنبرة ساخرة:

"حسنا كما تريد يا فتى، الجولة التالية ستكون بينك وبين الفائز من تلك الجولة"


“as you wish, boy, the next round will be between you and the winner of that round.”

أوما معاذ رأسه بتفهم، ابتعد عن الرجل بعدة خطوات للوراء، استند بظهره على أحد الجدران، منتظرا دوره في القتال.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي