1111111111111111111

- هل فكرت في إعطائها موعد للزيارة في بيتك؟
وائل في استنكار:
- ما هذا الذي تقولينه؟، هي ليست مثل الفتيات اللواتي عرفتهن من قبل، هي فتاة مختلفة؛ ولأجل ذلك وقعت في حبها.
- فتاة مختلفة!!
قالتها مي في غيظ، فالغيرة منها لم تعد على أخيها فقط، ولا تدري لمَّ تعتمل بداخلها تلك المشاعر المختلطة؟، وكأن اللعبة تنقلب عليها، ليُجييها وائل في ثقة قائلًا:
- نعم، هي فتاة مختلفة، وأعلم بأنه لو حاجتها إلى المال، لما عملت لدي قط.
- أ لهذه الدرجة أصبحت تعرفها؟
- شخص مثلي مر عليه الكثير، فيسهل عليه معرفة الشخصية منذ النظرة الأولى.
لم تحتمل مي البقاء أكثر، فاستأذنت منه، متححجة بأن والدتها تحتاجها قائلة:
- سأراك في وقت لاحق، فقد أرسلت إلي والدتي برسالة.
وائل في لطف:
- ما من مشكلة، اسمحي لي أن أقوم بتوصيلك.
ارتبكت مي، وهي تقول له في تردد:
- البيت قريب من هنا، لا تتعب نفسك، ما من داعٍ.
وائل في إصرار:
- ولكني أريد ذلك، أعرف الطريق إلى بيتك، فيسهل علي القدوم إليكِ في أي وقت.
مي في حدة، وهي تنظر له في استنكار:
- وهل تظن بأنني فتاة سيئة إلى هذه الدرجة؟
وائل في آسف:
- لا والله، لقد أساءت فهمي، لم أقصد ما وصل إليكِ.
وهنا أدركت مي سوء ما كانت تتهم به الأخرى، وأنها ليست بفتاة جيدة حقًا، فذلك الفخ الذي أرادت نصبه لنور، وقعت فيه، واجتاحتها مشاعر سيئة، ومن هنا قررت عدم رؤيته ثانية، وغيرت رقمها هربًا منه.
تُعيدها والدتها إلى الواقع، فقد كانت شاردة، وتذكرت آخر لقاء جمعها بوائل، لتسألها والدتها في قلق قائلة:
- هل أنتِ متأكدة بأنه فعل ما طلبته منه؟، ولمَّ توقفت عن ملاقاته؟، فإني أشعر بأن أخيك ما زال يُقابلها.
احتفظت مي بهدوئها، ولم تبد أي رد فعل، لم يعد الأمر بالنسبة لها كما بالسابق، فيا ليت لو لم تفعل ذلك منذ البداية، الحب ليس عدلًا، فالقلب لا سلطان عليه فيما يختاره.
في المستشفى..
يُكمل العم قدري الحديث مع سهيلة، ويكشف لها سر تحول الأحداث قائلًا:
- لقد اجتمع الصغير والكبير أمام غرفة يوسف، ولهج لسان الغريب قبل القريب بالدعاء له، وطرق الشيخ أحمد باب الصدقة، ولم يغادر المسجد، يعتكف فيه، ويعتزل الناس كي يدعو لابنه، فكم شعر بصغره، و...
تُقاطعه سهيلة، وهي تسأله عما يقصد، ليبين لها موضحًا بالشكل التالي:
- كما تعلمين بأن محمدًا كان وحده حتى بعد الحادث، لم يسانده إخوته، واقترب من الموت بسبب خذلانهم إياه، ولم تكن حادثة يوسف أول لقاء يجمع بين الشيخ أحمد وأخيه، استيقظ ضميره، وأراد الوقوف إلى جانب الحق؛ لنصرة أخيه، ولكن استطاعت زوجته حينها تخميده ثانية، واستعانت في ذلك بيوسف ابنه، فأخيه شخص ظالم، وقد يلحق الضرر بابنهم، لم ينج من بطشه صغير ولا كبير، ليأتي ذلك الحادث، ويزيل الغشاوة عن أعينهم، فسكوتهم وانحيازهم لم يدفع عنه الضرر، ليقول الشيخ أحمد لزوجته في لوم:
- هل رأيت الآن حال يوسف؟، هل أصبح بخير حين وقف والداه في صف الباطل؟
لم تكن السيدة سعاد في حالة جيدة؛ لتُجيب عن أسئلته، فتولت العبرات عنها الإجابة، تبكي ولدها، فرغم خوفها عليه، أصابه الضرر، ولم تستطع أن تحول بينها وبينه، والآن من الذي يقف جوارهم، الذي باغتوه بالخيانة، ونجا من الموت بأعجوبة، لا يستسلم قط، ووقف إلى جوارهم، يفعل معهم ما الذي تمنى أن يجده منهم؟

***
أحدهم يجلس شاردًا، عقله في حالة ثورة، وقلبه لا يهدأ انفعاله، تُنادي عليه الجدة، ولكن لا تجد منه إجابة واحدة، تقول له في قلق:
- كريم، هل أنت بخير يا بني؟
ينظر لها في استنكار، لم يشعر بها أو ينتبه لقدومها، لتقول له في لوم:
- طالما أنت تحبها، لمَّ لا تتقدم لخطبتها؟
كريم في عدم فهم:
- من يا جدتي؟، ماذا تقصدين؟
- تلك الفتاة يا بني التي تدعي فريدة، يبدو بأنها استحوذت على عقلي كليةً بعد ما سكنت قلبك، هكذا هو الحب يا بني أعلم، لذيذ ولكنه مم...
قطعت جملتها، فلم تُكملها حيث عصفت بها الذكريات في قوة، تتذكر كيف أصيبت ابنتها بداء الحب، ووحدها الداء الذي وقف الأطباء أمامه عاجزين، فكل جهودكم ضاعت سدى، ورحلت ابنتها عن هذه الحياة مستسلمة.
يُنقذها كريم من وقع الذكريات القاسية قائلًا:
- جدتي أين ذهبتِ؟، لم أتخيل بأن ذاكرتك قد تكون قوية بذلك الشكل.
الجدة سميرة في ألم:
- يا ليتني أنسى يا بني، فهذه الذاكرة تأبي النسيان، لا تعطيني فرصة لأرتاح، فلعل عيني تنام، وتلقي الأحبة حين تطمئن عليك.
لم يفهم كريم ما تشير إليه الجدة، كانت تتحدث عن الموت، فهي لم تجد للراحة سبيلًا منذ وفاة ابنتها، لتُغير الحديث، وهي تقول له في حب:
- لعل الله يقر عيني حين أراك مع عروسك، وحينها أوفي بوعدي، ويأخذ الله أمانته.
كريم في لؤم:
- أ لهذه الدرجة تريدين التخلص مني يا جدتي؟، كما أخبرتك من قبل، لن أتزوج وسأظل دومًا معك.
يُقبل جبينها في حنان مُغلف بالندم، يحاول أن يعتذر منها عما فعله من قبل، فقد طرق المرض بابها بسببه، وإن كانت تخشى عليه، ولأجل ذلك تستمد منه القوة لتبقى على قيد الحياة.

فالألم النفسي الذي تشعر به أسوأ بكثير من الجسدي، المرء قد يشفى وتظل الجروح الداخلية غير قابلة للاندمال أبدًا، وإن أخفت عنه الحزن، هي تعاني ولا تعرف كيف تكون بخير منذ يوم تشييع ابنتها إلى مأواها الأخير، دفنت معها كل الأحلام والأماني، وظلت باقية لأجل شخص واحد، وهو حفيدها، والآن قد أحب، عليها أن تُكمل رسالتها، ورغم عقدة كريم في الماضي، استطاع الحب النفاذ إلى قلبه، فهو لا يعرف المستحيلات، ولا يقف في طريقه عائق أبدًا، يقدم كريم قدمًا، ويؤخر الأخرى، ليس بالأمر البسيط بالنسبة إليه، فلولا جدته لما تقدم وفعلها قط، إلا أنه صُدم حين فوجئ برحيلهم.
يقول للممرضة في حزن:
- متى رحلوا؟، ولمَّ لم يتركوا عنوانًا لهم؟
الممرضة في استغراب:
- وما دخلي الآن؟، فحين تحسنت حالة والدهم وجب عليهم الرحيل، وحقًا كم عانت هذه العائلة هنا.
لم يعرف كريم بمَّ يُجبها؟، نظر إليها مطولًا، ثم ما لبث أن التف، وهم بالمغادرة، فوصل شعوره إليها؛ لتوقفه قائلة:
- انتظر يا أستاذ، أظن بأن زميلتي كريمة قد تعلم شيئًا عن عنوانهم.
التف إليها كريم، وهو يقول لها في لهفة:
- حقًا أين هي أرجوك؟، وكيف يمكنني الوصول إليها.
- تعال معي.
لحق بها كريم، وعيونه تترقب في رجاء، تأخر كثيرًا، ويخشى أن يكون قد فات الأوان، فكم من أمور تضيع من بين أيدينا حين لا نتخذ قرارنا في الوقت المناسب، تشبث كريم بالأمل الذي تسلل إلى قلبه من حديث الممرضة، يرجو الله أن تهديه الممرضة إلى حيث توجد حبيبته.
سيدة في الخمسينات من العمر، غزا الشيب معالمها، واستوطن شعرها الذي كشفته تلك الخصلات الناعمة التي خرجت من طرحتها، تفوح من بين شفتيها الحكمة، ونفذت بصيرتها إليه، وهي تقول له في حنان:
- ما اسمك يا بني؟
- كريم العاصي.
استندت السيدة على الجدار خلفها، كادت أن تسقط، ولا يعلم كريم لمَّ تفوه باسمه الثنائي رغم كرهه لأبيه، وذهابه إلى تلك السيدة التي لم تتخيل عن والده من قبل، وكانت نافذة الأمل لولده أيضًا، ارتبكت الممرضة، وبدا التوتر على وجهها حاضرًا، لتعتذر منه في آسف، فهي متعبة اليوم، وقد تكون بحال أفضل إن جاء غدًا.
استغرب كريم مما حدث، ولم يُخف ذلك عن الممرضة الأخرى، تسألها في قلق قائلة:
- هل أنتِ بخير يا سيادة الحكيمة؟
لم تكن بزميلة عادية، هي رئيستها في العمل، عاد قريبًا، كانت بالخارج مع زوجها الذي هو والد كريم، كم أن الحياة صغيرة، تلتقي بالابن الذي عادوا بسببه، تأخذها الذاكرة إلى الوراء، وينزف جرحها في الخفاء، تقترب الصورة أكثر، وتصبح ما يحدث الآن.
- كريمة.
-عاصي!، هل هذا أنت معقول؟، ألم تُسافر كما أخبرتني؟
عاصي في استياء:
- لا، لن أفعلها وحدي، فأنا في أمس الاحتياج إليكِ وخاصة بعد ما ماتت زوجتي، لم يبق لي أي أمل، وقد حرمت من ابني.
لم تستطع أن تقاومه، وذهبت مع حبيبها إلى الخارج حيث تزوجا، وأصبحت شريكة لحياته، وبدأ معًا من نقطة الصفر، لتعمل كريمة في إحدى المستشفيات بالخارج، ويصبح هو رجل أعمال معروفًا، ومرت السنوات وعاشوا معًا في سعادة، ويضفي اللون على حياتهم تلك المكالمة التي تجمع زوجها بابنه حتى نبش الماضي، وانكشف الغبار عن ما دفنوه، فعادوا إلى هنا؛ كي يصلحوا ما انكسر، يرن هاتفها دون توقف، تنظر إلى الشاشة أمامها، فتبتسم في يأس:
- اليوم رأت ابنه، اليوم شهدت كيف أصبح شابًا يافعًا، لم يعد صغيرًا كما تركوه، تتمنى لو بإمكانها أن تنقل الخبر لوالده، ولكن كيف تفعل ذلك، وهو الآن يكرهها، أو لعلها تسرق معه بعض من اللحظات لأجله.

- أين أنتِ يا حبيبتي؟، ومتى ستعودين إلى البيت؟
- بعد دقائق معدودة يا حبيبي، سأكون أمامك.
- لا بأس إذن، أنا في انتظارك.
أنهت مع زوجها المكالمة، وضجيج الأفكار داخل عقلها، لا تكف ثروته، وانتقل ذلك الأمر إلى كريم، الذي شعر بأنه يعرفها، وليست تلك المرة الأولى التي يراها فيها، قلبه يُحدثه بذلك، إلا أنه كذب إحساسه، فكيف لو أن يراها، وهو لم يأت إلى هذه المستشفى إلا لأجل فريدة، ولا يعمل في هذا المجال ليلتقي بها.
لم تُغادر جميع العائلة من المستشفى، ما زال العم قدري هناك، ولم تنته بعد حكايته، لتسأله سهيلة في استنكار:
- لمَّ أنت هنا؟، وما هذه الملابس التي ترتديها؟
العم قدري في هدوء، وابتسامة الرضا تعلو ثغره:
- أنا أعمل هنا يا ابنتي، توقفي عن مقاطعتي وسوف أخبرك ببقية الحكاية.
انتهبت إليه سهيلة، تستمع إليه بآذان صاغية، فاستطرد قائلًا:
- وقف محمد مكان أخيه الشيخ أحمد، ولم يتخل عن دوره أبدًا رغم ضعف صحته، إلا أن ما حدث ساعده على التحسن كثيرًا، وقرت عيناه وهو يرى العائلة تقف معًا جوار بعضهم البعض كما تمنى، فقد جاء أخوهم إبراهيم، واعتذر من محمد هو الآخر، ولم يتبق سوى ف...
سهيلة مقاطعة:
- فتحي طبعا.
العم قدري في حزن:
- نعم يا ابنتي، فهو معمي كليةً وراء زوجته، وكم يشعر قلبي بالحزن الشديد عليه.
صمتت سهيلة للحظات، وكأنما تذكرت شيئًا، فنظرت إلى العم قدري في امتنان، وهي تقول له في سعادة غامرة:
- لا تقلق يا عم قدري، فذلك الحلم أصبح قريبًا، وسيلتم شمل العائلة ثانية في البيت الكبير.
لم يفهم عمر ما تقصده سهيلة، وكذلك العم قدري، فما تقوله أمر مستحيل؛ بل ضرب من الخيال، إلا أنه ما لبث أن أكمل قائلًا:
- لقد انتقلنا جميعًا للعيش مع الشيخ أحمد، فقد استأجر بيتًا كبيرًا، وترك هو الآخر بيت العائلة، فخرجنا للعمل؛ كي نسانده في المصاريف، فالحياة كد وكفاح، وبالكاد حصلت على هذه الوظيفة رغم رفض ابني محمد لها، ولكن ماذا أفعل يا ابنتي؟، هل أقف متفرجًا والجميع يبحث عن طريقة حلال لجمع المال، حتى نور تعمل.
سهيلة في استنكار:
- هل نور تعمل؟، غير معقول.
فأومأ العم قدري برأسه في إيجاب، وهو يقول لها في زهو:
- لقد خرجت نور إلى سوق العمل مضطرة، أما الآن فهي تعمل في المشروع الخاص بها، فهي تمتلك الآن مطعم للأطعمة الصحية، تقوم بإعدادها لأجل مرضى الحالات المختلفة، وكذلك للتمتع بقوام جيد، فقد أكملت دراستها، وحصلت على دبلومة في التغذية العلاجية.
سهيلة في غير تصديق:
- يبدو بأنه قد فاتني الكثير يا عم قدري، فقد أخذتنا سريعًا في سير الأحداث.

****
يرن الهاتف بإلحاح، فما لبثت أن رفعت السماعة، وبصوت أنثوي رقيق، أجابت قائلة:
- أهلا يا فندم، مع حضرتك مطعم نور للوجبات والأطعمة الصحية، فكيف يمكنني مساعدتك؟
الشخص الآخر عبر الهاتف قائلًا:
- أريد الشكوى من فضلك.
نور في ذهول قائلة:
- ممَّ؟، هل هناك ما ينقص منتجاتنا؟، لقد حصلنا على الايزو، وكل شيء لدينا في أمان.
- ماذا أقول أو أخبرك عن التي سرقت قلبي؟
نور في مزح:
- وماذا أقول أنا عنك، لم أعرفك في البداية، فقد أوقعت قلبي.
- بل أنتِ من فعلتِ يا نور، ولا أعلم حتى متى سنظل بعيدًا عن بعضنا الآخر؟
لم تعرف نور بمَّ تُجبه، تتذكر كيف تبدلت الأحوال، وأخذتها الذاكرة إلى حيث وقف العم قدري، وهو يطرق الأبواب واحدًا تلو الآخر لأجل توفير المال لعلاج والدها، فآلت بها الأحوال للعمل في متجر السيد وائل، وبدت صورته أمامه حاضرة، وهي تنهره في غضب:
- من تظنني؟، فو الله لقد احتملت معاملتك لأجل حاجتي، واليوم بعد تجاوزك الحدود معي، لن أبق هنا ولو للحظة واحدة.
قالت تلك الجملة بعد ما حاول السيد وائل التقرب منها، يسير خلف نصيحة مي، فانقلبت الطاولة عليه رأسًا على عقب، ضربته نور بالقلم ثم اختفت من أمامه ناظريه مع ضرب الرياح.
خرجت من عنده منهارة في البكاء، وكادت أن تصطدم بها إحدى العربات، نجت من السيارة الأولى، وسقطت مغشيًا عليها أمام السيارة الثانية.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي