دائي و دوائي

نصف ساعة مرت كانت هي بعدها في طريقها إلى الأسفل حيث أخبرها، لمحته بينما هي تهبط الدرج يرتقي درجات السلم الأولى، فكرت أنه كان في طريقه لها كي يقوم باستعجالها على ما يبدو! هذا ما علمته من نظرته المتفاجئة لها.

حاولت أن تبدو هادئة في سيرها، حتى التقت معه على نفس الدرجة، رمقها هو بجمود تام بينما هي نظراتها له كانت إزدراء خالص، أشار لها بيده أن تتقدمه، رفعت ذقنها بكبرياء تام وتبعته.

سارت معه حتى وصلا إلى بهو الڤيلا الواسع حيث يجلس الجميع في إنتظارهما، كانوا كما أخبرها سابقا، شيخ مأذون ورجلان آخرين خمنت أنهما الشاهدين على زواجهما.

أشار إليها مرة أخرى لكن تلك المرة بالجلوس على الأريكة التي يتوسطها الشيخ، نفذت له طلبه، ليجلس هو بعدها على الجانب الآخر من الأريكة، وجه حديثه بعدها إلى الشيخ بينما يخبره بنبرة هادئة:

"ها هي العروس يا شيخنا، تستطيع البدء في مراسم عقد القران"

أبتسم الشيخ له ثم أومأ برأسه موافقا بينما يقول بنبرة حانية:

"على بركة الله تعالى"

بدأ الشيخ في بدء صيغة عقد القران ثم أخذ يلقن إياها ما تقول من خلفه، وحينما انتهت التفت إليه بعدها ثم أخذ يلقنه هو الآخر ما يقول، ردد هارون خلف الشيخ قبوله للزواج منها، لينهي بعدها الشيخ عقد القران داعيا لهما بزواج مديد، ثم طلب من الشاهدين التوقيع على وثيقة الزواج خاصته.

زفرة راحة خرجت من فم هارون بعد انتهى كل شيء، فكر في نفسه أن شوطا كبيرا قد قطعه في إصلاح كارثته، يبقى فقط تلك اللقطات التي يتعين عليه أخذها لهما من أجل نشرها في صحف الغد.

انتظر بعد رحيل الشيخ ثم طلبا من مساعده مراد والذي كان أحد شاهدي عقد قرانه أن يلتقط له هو وعروسه بعض اللقطات، لينظر بعدها نحوها بنظرات جامدة بينما يخبرها بنبرة جادة:

"هيا سلسبيل، حان وقت التقاط الصور، ومن ثم بعدها تستطيعين العودة إلى غرفتك والحصول على الراحة التي تريدين"

هزت رأسها له بهدوء، فلا داعي لإختلاق أي صراع بينهما الآن، فهو محق هي تريد الراحة لا أكثر، وعقد القران ذاك الذي تم وتلك الصور هي سبيلها لذلك.

بدأ مراد في التقاط صور لهما، موجها إياهما بالتموضع المناسب لتلك الصور، لينتهي بعد عدة دقائق مع صور نالت استحسان هارون، الذي شكره بعدها ووعده بالحصول على مكافأة كبرى بكل تأكيد.

لم تنتظر ثانية واحدة بعد رحيل مساعد هارون، أسرعت نحو الدرج و تسلقت إياه سريعا، وصلت إلى غرفتها، أغلقت الباب من خلفها، لتجلس بعدها على الفراش بجمود تام، تفكر كيف سوف ترحل من هذا المكان، وكيف سوف تعيش بعدها خاصة بعد طرد الفندق الذي كانت تعمل به لها



في الصباح وعده لها بأن الجميع سوف يعلم عن أمر زواجهما قد حدث مع أخبار نشرت عن ذلك، نظر بعين رضى لتلك الاخبار التي تتحدث عن خبر زواج اشهر عازب في البلاد، ودخوله في النهاية إلى مصيدة الزواج بقدميه، حتى كاد يضحك على تلك الكلمات المسربة عنه، قرر أنه سوف يطلعها على كل ذلك حالما يعلم أنها قد استفاقت من نومها.

رنين هاتفه المحمول جذب انتباهه بينما هو على وشك الخروج من الغرفة، ليعود مرة أخرى حيث تركه قابعا على الفراش، تناوله بملامح قلقة حالما أبصر اسم شقيقته ينير الشاشة، فهي ليس من عادتها أن تحدثه في ذلك الوقت المبكر من اليوم والذي يكون على العكس من عنده تماما وقتا متأخرا جدا في الولايات المتحدة.

فتح المكالمة واجاب بنبرة قلقة:

"مرحبا زاد! ما الأمر هل هناك شيء خاطئ معك"

"هارون، أنا بحاجتك أخي، أنا الآن في المطار، لقد منحني معاذ الطلاق وعدت إلى البلاد"

أجل هو شعر بالقلق الشديد على شقيقته حينما رأى اسمها على شاشة هاتفه، لكنه لم يكن يتخيل أن يحدث ذلك معها، لم يخطر إليه الأمر في اسوأ كوابيسه حتى! أخبرها بنبرة جامدة:

"انتظري هناك وسوف آت إليك عال الفور، وذلك النذل الجبان سوف أحرص على أن اقتص منه على فعلته الدنيئة تلك معك"

أخبرها بتلك الكلمات، اغلق الهاتف معها، لتنظر هي نحو الهاتف بعينين باكيتين، ثم تنظر ليدها الأخرى والتي تحمل صك براءتها وحريتها، تذكرت كلماته الأخيرة لها، وهو يخبرها بنبرة يائسة:

"ليس البشر وحدهم من يشيخون زاد، قد تشيخ القلوب أحيانا و يشيخ الحب بداخلها، وهذا ما حدث لقلبي وحبك الساكن به، عذرا زاد لم أعد أحبك كما مضى، حبك أضحى عجوزا ينتظر أن يقضي نحبه، أرجوك حرري قلبي منه، امنحيه الموت الرحيم زاد"



أخذها إلى أحد المقاهي على النيل، كي يتحدثا سويا كما طلبت منه، المكان كان راقيا، هادئا مما أتاح لهما الحديث بحرية بعض الشيء.

نظر إلى قسمات وجهها التي بان عليها الحيرة والقلق، سألها بنبرة قلقة قائلا:

"ما بكِ رجوة؟! لم أعهدك مشتتة بذلك الشكل! هل أنت متعبة حقا؟!

تطلعت إليه بنظرات تنطق بالعشق المكتوم، أجابته بنبرة صادقة:

"بلى، أنا متعبة حقا يا موسى"

قاطعها على الفور، أخبرها بنبرة موبخة قائلا:

"لما لم تقولي ذلك من البداية رجوة؟! هلم بنا إلى أحد الأطباء كي نطمئن عليك!"

تطلعت إليه بأعين فرحة من شدة قلقه وخوفه عليها الناضح على معالم وجهه، أخبرته بينما تهز رأسها نافية، قائلة له بنبرة هادئة:

"ألا تسألني عن علتي في البداية قبل الذهاب إلى أي مكان يا موسى؟!"

نظر إليها بحيرة وعدم فهم لكلماتها المبهمة، سألها بنبرة قلقة قائلا:

"و هل تعلمين ما هي علتك رجوة؟!"

أومات إليه برأسها مؤكدة بينما تخبره بنبرة هادئة:

"أنت علتي و دوائي يا موسى؟!"

"هل أصيب بخلل في عقله، ما له لا يفهم كلمة مما تخبره به الآن؟! أم هي التي لا تفقه ما تقول!"

بينما يحادث نفسه بتلك الكلمات، نظرت إليه بشفقة، تعلم أن كلماتها غريبة على سمعه، ربما هو غير مستعد بعد لسماعها، لكنها في الحقيقة قد اكتفت من كل تلك السنوات التي ضاعت بلا فائدة، من الآن فصاعدا سوف تقاتل من أجله، من أجل حبها له أيضا.

بنبرة صادقة أخبرته، نظراتها لا تحيد عن عينيه:

"أجل موسى، أعلم أنك لا تفهم ما أقول وأنك مشتت و حائر أيضا! لكنك تستحق و قلبي يستحق أيضا هذا الاعتراف مني! أنت يا موسى هو سبب علة قلبي التي بات معلق بك، بل الأحرى أنه منذ الأزل وحتى النهاية سيكون معلق بك، أنت دائه و دوائه! فهل أشفقت عليه يا موسى؟!"

إن قيل له فيما مضى أنه سيسمع منها تلك الكلمات لكان أخبر قائلها أنه مختل لا أكثر!! لكن ها هو الآن يسمعها، تقولها، تخبره عن تعلق قلبها به، عن عشقها له، فهل هذا دعاء ليلة قدر ابتهل فيه لربه وطلبها منه!! أم معجزة من رب الكون يجبر بها جرح قلبه المتعب!

ازدرد ريقه بصعوبة، تطلع إليها بنظرات حائرة، لا يعلم ماذا يقول، خائف هو من قول كلمة خاطئة قد تفسد كل ما قيل، وجد نفسه يمد يده نحوها، يتناول يدها في يده، يمسك بها بقوة، يخبرها بنبرة متوسلة:

"أتوسل إليك رجوة، أخبريني أن قل ما قلته كان حقيقة واقعة! أنه ليس مزحة ثقيلة منك! بالله عليك أخبريني أن ما فهمته منك حقا! أن قلبك هو لي، منذ أن حبى في عالم العشق كان لي و سيظل أيضا لي!!"

بينما تنصت لرجائه، لكلماته الغير مصدقة، هزت رأسها بقوة مؤكدة له صدقها، أنها لم تكن صادقة في حياتها مثل صدقها الآن، أنها ترغب في أن تكون نصفه الآخر، بل أن تكون كله، لا يفرق بينهما شيئا!

ابتسمت له بأعين محبة، قلب ينبض بالعشق، عاهدته على البقاء:

"أنا لك موسى الراعي وسأظل لك للأبد، كما أنك ستكون لي ولا لأحد غيري!"

لا يصدق نفسه حقا، انطلقت منه ضحكة فرحة، بينما يشدد من احتضان يدها ثم يرفعها لأعلى مثلما إياها بقبلة حنون، يمازحها بنبرة مرحة:

"سوف ألزمك بهذا الوعد صدقيني رجوة، ولن أدعك تفلتين من يدي أبدا"

ابتسمت له بحب وصدق، غير قادرة على الفكاك من حصار عينيه لعينيها، فقد قيل كل شيء ولم يعد هناك أي حاجز يعيق عشقهما.

بدون أن تدرك وجدته يستقيم واقفا ويسحبها من مقعدها معه، سألته بنبرة مندهشة من فعلته قائلة:

"ماذا حدث؟! ما الذي تفعله يا موسى؟! وإلى أين تأخذني بتلك الطريقة؟!"

ضحك لها بينما يخبرها بنبرة مرحة:

"ألم أخبرك أنني سوف ألزمك بوعدك ذاك؟! حسنا سوف نذهب الآن إلى خالي، نخبره عن رغبتنا في تعجيل الزواج!"

قاطعته بنبرة من صدم للتو قائلة:

"و لكن يا موسى! و لكن"

التفت إليها، نظر إليها بتوسل، وضع سبابته على ثغرها، أخبرها بنبرة عاتبة:

"ليس هناك لكن رجوة! أم أنك قد تراجعت عن وعدك لي؟!"

هزت رأسها بقوة نافية ما يخيل له عقله، صرحت له، نطقت بها مؤكدة دون تراجع أو شك حتى:

"أبدا"

لينظر لها بأعين تذوب عشقا، فقد بات قاب قوسين أو أدنى من نيل سعادته الأبدية.



ابتسامة ناعمة زينت وجهها الضاحك بينما تتذكر ذلك الحوار الذي دار بينهما، والذي قد مر عليه قرابة الشهر، و الآن ها هما يقومان بتجهيزات زفافهما المرتقب، يتبقى فقط وصول أخيه معاذ بعد إنتهاء البطولة التي يتمنى الجميع أن يفوز بها و يرفع اسم البلاد عاليا وسط باقي البلاد المشاركة في تلك البطولة.




نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي