111111111111111111

في بيت العائلة الكبير..
تزرعه حبيبت السيد ذهابًا وإيابًا، لا تستقر على حال، وصلت إليها الأخبار، فقد اجتمعت العائلة عليها، واتحد شملهم في المستشفى، قلب ذلك الحادثة الطاولة عليها، لم تفكر في حال يوسف، بل جل ما يشغلها، ما سيترتب عليه إن وقفوا جميعها ضدها، ولأول مرة تشعر بالخوف، أو لعل ذلك الشعور قد زارها حين اعترفت لسهيلة بحبها لمحمد، ولكن أين هي سهيلة؟، وماذا سيحدث إن اكتشف فتحي كذبها؟، لا يمكنها أن تتوقع ردة فعله، الفرح بلغ منه مبلغًا، وسار خلفها في كل ما قالته، لم يعص لها قولًا أبدًا، ليدور حوار بينها وبين نفسها:
-اهربي من هنا، ولا تعودي أبدًا.
- أ تريدين مني الرحيل، وترك كل ذلك خلفي؟، لا والله، لن أفعلها.
-انج بحياتك أفضل من الموت هنا.
-ولمَّ تذكرين الموت؟، من الذي سيقتلني؟
-قد يفعلها زوجك حين يكتشف وجهك الحقيقي.
-لا يستطيع والله، فهو معمي بحبي، ولا يقدر على العيش لحظة واحدة من غيري.
تتحدث مع نفسها في زهو، نظرات الغرور والاستعلاء تنعكس في عينيها، فقد أحكمت شباكها عليه جيدًا، وكانت هي الأخرى معمية بفرط الثقة، لم تعرف شيئًا عن غدر الرجال، وأن الضربة القاضية تأتي من يديهم، وإن كان الدهاء من صنع يدي النساء، سيدة أخرى تكيد لهم، وإن اختصت نور هذه المرة، رسمت السيدة منال الخطة جيدًا لابنتها، تتصل به دون انقطاع، وتلح عليه ليُجيب، يستمر في رفض المكالمة، فهو مع نور في المستشفى، إلا أنه لا يلبث أن يُجيب اتصالها في حدة قائلًا:
-أنا في المستشفى، ولست في مزاج جيد للحديث، ثم أغلق المكالمة، لم ينتظر منها ردًا أو يعطيها فرصة لتُجيب، يشعر بالاستياء الشديد لرؤيته يقف على مقربة منها، وتعرفه العائلة؛ بل وتعامله أحسن معاملة، فهل من المعقول بأن المياة قد تعود إلى مجاريها؟، في هذه اللحظة تذكر الفتاة التي أغلق الخط في وجهها، يبدو بأنها المفتاح السحري والحل لمشكلته، فانسحب من جوار نور، وترك الساحة لإبراهيم، وهو يتوعده بأن ذلك سيكون بشكل مؤقت، يتصل به وقد تبدلت نبرته، يقول لها في رجاء حين أجابته:
-أنا بحاجة إلى رؤيتك، فقابليني أرجوك في نفس المكان ولا تتأخري.
وما هي إلا دقائق معدودة، وكانت أمامه حاضرة، تقول له في لوم:
-لم يكن هينًا علي القدوم، وخاصةً بعد إغلاقك للخط في وجهي، فقد انزعجت للغاية، وآلمني ذلك الشيء منك.
يعتذر منها في نبرة ندم، يرجوها أن تُسامحه، فقد كان في حالة لا يُحسد عليها أبدًا، وبدأ يُفضي إليها بشكواه، لتبتسم في خبث، الطريق أمامها أصبح ممهدًا، وعليها بالسير فقط، تدعي الحزن وهي تقول له:
-يا لسوء حظي، لديك حبيبة، وأنا التي ظننت بأنه يمكنني أن ت...
السيد وائل مقاطعًا إياها:
-لو قابلتني في السابق لكان الأمر ممكنًا أو لأكون صريحًا معكِ، كنت زير نساء، لا تلفت أي امرأة من تحت يدي حتى قابلتها، فغيرتني كليةً ونبض قلبي باسم الحب لأول مرة.
تنظر له في استنكار، وتتغير انفعالاتها مع كل حكاية تسمعها منه، لا يبدو عليه ما يقوله الآن، فقد غيره الحب، تسأله في غير تصديق قائلة:
-هل من المعقول بأن الحب يُغير بهذه الطريقة؟
يهز برأسه في إيجاب، وهو يبدو عليه الاستسلام قائلًا:
-يرفع أناسًا، ويحط من قدر آخرون، لا يترك أحدًا في حاله، إن أصابك فيا لسوء حظك إن لم يكن متبادلًا، أما إن تبادل فما أجمله من شعور يطوف بكِ حينها.
سرحت مي بعيدًا، وأخذها عقلها إلى أخيها إبراهيم، وكيف كان سعيدًا ثم انتهى به المطاف على حافة الجنون، الشعور وعكسه، هكذا هو الحب يحمل النقيضين.
يتحدث معها وائل منذ زمن، ولكن لا تُجيب، ليوكزها في ذراعها بخفة قائلًا:
-لمَّ لا تُجيبينني؟، وأين ذهبتِ؟
مي في حزن:
-أنا هنا معك، فأخبرني ما الذي تُريد مني أن أفعله؟
هو في رجاء:
-أريد مساعدتك، فأنتِ فتاة، وقد تعلمين جيدًا ما تفكر فيه فتاة أخرى.
-ولكن هي لا تُحبك.
قالتها مي في عفوية، إلا أنها ما لبثت أن أدركت ما قالته، لتستدرك الأمر في ارتباك قائلة:
-أقصد هل هي تحبك؟، وأخبرني من هي؟، وكيف تعرفها؟
فأخذ وائل نفسًا عميقًا، ثم زفره في ضيق، واستطرد قائلًا:
-لا والله، هي لا تحبني، ولعل هنا يكمن عذابي، ويزيد الأمر سوءًا وجود شخصًا آخر.
-هل هي تحبه؟
فهز رأسه في إيجاب، وهو يجيب في ألم:
-مع الآسف، نعم.
تأثرت مي بنبرته، وبدا عليها الحزن، لا تدري عليه أم على أخيها، الذي تريد والدتها أن تفرقه عن حبيبته، وللحظة استيقظ ضميرها، وأراد الرجوع عن ما تفعله، إلا أنها تذكرت الألم الذي مر به بسببها، فأصرت أن تُكمل، لتقول له في لؤم:
-سوف أخبرك بما يجب عليك أن تفعله، ولكن سر خلف ما أقوله بالحرف دون أي تقصير.
فأومأ لها بإشارة الموافقة، وبدأت تُملي عليه تلك الخطة التي وضعتها والدتها، وكانت هي الوسيلة التي تستخدمها لنجاحها، تعتذر من أخيها في قرارة نفسها، فذلك الحب لم يجلب له في الماضي سوى العذاب، وعليها الآن أن تقتلعه من جذوره كي ينتهي الألم.

أوصلها السيد وائل إلى المكان المعهود، وهو يعرف جيدًا ما سيفعله، لتُخرج مي الشريحة من هاتفها، وتلقي بها بعيدًا، لم تعد بحاجة إليها، أو لعل ضميرها يؤلمها، ولن تسير في هذه اللعبة أكثر، فقد اجتاحها شعور غريب تجاه ذلك الشخص، وخاصة مع كثرة اللقاءات التي جمعتها بها، مر شهور عديدة على معرفتها به، تغيرت فيها العديد من الأمور، تتذكر تلك اللحظات التي قضتها معه، من مطعم إلى آخر، وجلوسهم أمام البحر، لتقترب تلك المشاهد، وتصبح جلية أمامها، وكأنها تحدث الآن، وهي تقول له:
- هل أعجبك الطعام؟، أنا لا أكف حقًا عن القدوم إلى هنا، فلهذا المكان معي ذكريات وحنين.
السيد وائل في مزح قائلًا:
-وما هذه الذكريات؟، هل هي جميلة؟، وتتعلق بأحدهم؟
فابتسمت له مي، وهي تجيبه في ثقة:
- نعم، تتعلق بأغلى شخص كان في حياتي.
فشعر بالضيق من إجابتها، ولا يدري السبب خلف ذلك، لتكمل هي في حزن:
-تتعلق بوالدي، أغلى حب في حياتي.
انفرجت أساريره، وهو يسألها في استغراب قائلًا:
- ولمَّ أنتِ حزينة في حديثك عنه؟
فتنهدت مي، وأخذت نفسًا عميقًا ثم قالت:
-لأنه قد غادر، ولم يعد له وجود في هذه الحياة، فقد تُوفي في حادث.
وائل في آسف:
-رحمة الله عليه، سامحيني أرجوك، لم أكن أعلم والله.
- لا بأس عليك، فذلك هو الواقع، وكم من حقائق تؤلمنا.
وائل في عدم فهم:
- ماذا تقصدين؟، وضحي لي أرجوك.
- لا تبالي، أنا بخير، فلا تفكر كثيرًا، لم يحدث شيء.
في المستشفى ...
تحسنت حالة سهيلة كثيرًا، ولكن عقلها ما زال غير قادرًا على تذكر من تكون هي؟، فاضطر عمر إلى أخذها معه إلى البيت، حياة أخيه حسين تتوقف على كلمة منها، ترددت في البداية، وكانت خائفة، إلا أنه طمأنها قائلًا:
-زوجة أخي في البيت، وأطفال أخي سيحبونك كثيرًا.
وفي الطريق إليهم، أخذها يُعرفها عن أسمائهم، ويصف لها ملامحهم، فشعرت بالدفء والحضن الآمن، تلك المشاعر الفريدة التي يبدو وكأنها تبحث عنها، لولاها لما وجدت سقفًا يحميها، ولا عائلة تحتويها، لتعتذر من السيدة كريمة في آسف قائلة:
-سامحيني يا أختي الكريمة، فأنا والله لم أقصد إيقاع زوجك في تلك المحنة بسببي.
كريمة في هدوء قائلة:
-هوني عليكِ يا أختي، الله كريم، وزوجي برئ، أنا أعلم ذلك، وعن قريب سيلتم شمل العائلة إن شاء الله.
تؤمن سهيلة من خلفها الدعاء، ونظرات الامتنان مع عبارات الشكر تخرج من ثغرها، فكم أن تلك السيدة رحيمة رغم المصاب الذي نزل بها، ما زالت تحتفظ بهدوئها، وحسن ظنها بالله، ولا تعترض أبدًا على ما حدث، لتنظر سهيلة للحياة بنظرة أخرى، ويدور بينهما الحوار التالي:
- غريبة هذه الحياة، يتألم قلبي حين أرى أشخاصًا غير راضيين، وهم يتمتعون بكامل الصحة والعافية، غيرهم مرضى ولا يعرفون كيف يكون اليوم العادي؟، ورغم ذلك لا تُفارق الابتسامة ثغرهم.
السيدة كريمة في هدوء:
- كل ما يأتينا من عند الله نعمة، ووحده الله يعلم أين يكمن الخير لنا؟
- أستغرب هدوئك ذلك في تلك المحنة، فإني والله لا أتذكر هل كنت مثلك أم أن الحزن فتك بقلبي أنا الأخرى؟
- الحزن لا يرحم أحدًا، وكم تعج المستشفيات النفسية بمرضى الاكتئاب.
- هل للاكتئاب علاقة بالحزن؟
- لا أدري والله، ولكن نوبة من نوباته كفيلة لتجعلك تدرك قيمة الحياة.
- هل للأمر علاقة بخسارة الأحلام؟
- لا أدري والله، لكن ما أعلمه أن الشعور في كلتا الحالتين يكون قاسيًا، فالله يهون مصابنا جميعًا، ويعيد إليكِ ذاكرتك.
لم تلبث أن تُنهي السيدة كريمة حديثها معها، ليسمعا صوت صراخ بالخارج، مريم وحدها في الأرجوحة، وتخلخلت من مكانها، وتكاد أن تسقط منها، لقد أحضرها العم عمر إليهم، وقبل أن يثبتها، جاءه اتصال من عمله، فصعدت مريم إليها، وأخذت تسير بها، لتقف سهيلة أمامها، فتضربها في رأسها، وتطرحها أرضًا، والدماء تسيل منها بعد ما أنقذت حياة مريم، بل حياتها هي، أخذها عمر إلى المستشفى مسرعًا، ومرت الليلة على عجل بالنسبة إليها رغم ثقلها على عمر وزوجة أخيه، التي لم تتوقف شفاهها عن اللهج بمختلف الدعوات لها، تدعو لها بالسلامة، وترجو الله أن يهون عليها مصابها، فتنكشف الغمة التي نزلت بالجميع.
وفي اليوم التالي مع أول شعاع للشمس، تُباعد سهيلة بين جفنيها بصعوبة، وتهذي بأسماء مختلفة، لم يسبق لها أن تحدثت بها أمامهم، لتستدعي الممرضة الطبيب، الذي هرول إليها مسرعًا، وما لبث أن حقنها بالمهدأ، ومرت الساعات ثانية، لتعود إلى وعيها مع قدوم المساء، فتصرخ قائلة:
- ابتعدي عني أيتها المؤذية، لا تقتربي مني، فأنا لم أت إلى هنا للشجار معكِ، جئت لرؤية أخي.
تعود بها الذاكرة إلى الخلف، وتستحضر تلك الذكريات الأليمة، لتعرف من تكون هي، وتفصح عن هويتها قائلة:
- أنا سهيلة، ولقد دفعتني زوجة أخي، هذا الرجل برئ.
صمتت دهرًا، ونطقت حقًا، فتم الإفراج عن الأستاذ حسين، وعاد إلى أسرته وبيته، لتبتسم لها السيدة كريمة في سعادة قائلة:
- ألم أخبرك بأن الله كريم، مبارك عليكِ عودة الذاكرة إليكِ، وشكرا لك على جمعي بزوجي مرة ثانية.

ثم تركتها وغادرت، لتقول لعمر في امتنان:
-شكرا لك على مساعدتك، لقد فعلت معي ما لم يفعله زوجي.
وقعت عليه كلماتها كالصاعقة، إذن هي متزوجة، لديها منزلًا وأسرة، ولكن أين كانت عائلتها طوال الفترة الماضية؟، لتُخبره سهيلة الحكاية كاملة، يطرق الباب أحدهم، فتسمح له بالدخول، وما أن يراها العامل، يصرخ في غير تصديق قائلًا:
-ابنتي سهيلة، هل هذه أنتِ؟، متي جئتِ إلى هنا؟
ترقرقت العبرات في عينيها حين رأته على هذه الحالة، يقوم بجمع القمامة في المستشفى، وينظف الغرف، لتسأله من بين دموعها قائلة:
- ما الذي حدث يا عم قدري؟، وكيف انتهى بك المطاف إلى هنا؟
فعَلت الابتسامة ثغر العم قدري، وهو يحكي لها ما حدث قائلًا:
- كما تعلمين لقد تم تفرقة العائلة، وأصيب محمد في حادث، وجئنا جميعًا معه، وظلت الأمور تسير على هذا المنوال لشهور طوال حتى تلك الحادثة و...
سهيلة مقاطعة إياه في خوف:
-أي حادثة.
العم قدري:
-لقد أُصيب يوسف ابن الشيخ أحمد في حادث، وتم نقله إلى هنا في حالة سيئة للغاية.
تضع سهيلة يدها على فمها في خوف، وهي تُردد بشفاهها قائلة:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، متى حدث ذلك يا عم قدري؟، وكيف هو الآن؟
تستفهم منه في قلق، فقد حدث الكثير من الأحداث، وهي غائبة، لتتنهد في حزن قائلة:
- وكل هذه الأحداث قد مرت، ولم يشعر أحد بغيابي.
-لم يُخبرنا أحد بقدومك والله يا ابنتي.
قالها العم قدري في آسف، لتعتذر هي منه قائلة:
- سامحني يا عم قدري، فأنا التي أخطأت في حق نفسها بزواجي من ذلك الشخص الذي لا يعتبرني موجودة، وإن أصابني مكروهًا، لن يُشكل الأمر فارقًا معه، فيا ليتني مت، وما شهدت ذلك.
ليتدخل هنا عمر قائلًا:
-حرام عليكِ قول ذلك، الله يحميكِ لأجل أحبائك.
فنظرت إليه من بين دموعها، وساد صمت طويل تاه كلا منهما في عيني الآخر، وكأن الله قد قدر كل ذلك؛ لتلتقي به، لم يكن السبب الأساسي في عودتها زيارة أخيها، بل عادت إليه شاكية من زوجها، فما لبث أن تناهى الخبر إلى مسامعها، وهناك ذهبت لتستغيث بإخوته، وحدث ما لم تتوقعه، لتأخذها الحياة في منعطف ثانٍ.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي