الفصل الثامن

فتح تامر هاتفه عابثاً ببعض الأزرار حتى ظهر أمامه
ملف مخفيا مغلقا برمز، نقش حرفه لفتح هذا
الملف، ثم جلس على كرسيه الهزاز، أرجع رأسه
للخلف، وبدأ يقلب في صورها التي احتفظ بها منذ
بداية ظهورها، فقبل أن يصبح زميلها كان أحد
معجبيها، كم عشق سحر عينيها وبريقهما الساحر،
تذكر أول يوم جمعهما عندما تقدم مع العديد من
أمثاله للمشاركة في بطولة فيلم جديد أمامها، تقدم للاختبار العديد من الشباب منهم مَن أراد مقابلتها
فقط، والتأكد من أنها حقيقية كما تظهر في
السينما والتلفزيون، وليست دمية من الألوان
والحلوى، والبعض الآخر كان يمتلك الموهبة ويريد فرصة ليكشف عن قدراته، غادر منزله متجهاً إلى
الاستوديو الذي يقام به تجارب الأداء، تأنق لهذا
اللقاء كما البعض، في موقع التصوير وجد آلاف
المتقدمين، حرارة الجو العالية وأشعة الشمس
الحارقة كادت تفقده الأمل في المشاركة، تصبب
العرق من أعلى جبهته فوضع تلك الأوراق التي قام
مساعد المخرج بتوزيعها عليهم فوق رأسه؛ لتحميه قليلاً من أشعة الشمس، مرت الساعات غادر فيها
البعض خالي الوفاض- بلا عقود، دون رؤيتها- قبل أن يتملك اليأس منه ويغادر مثل مَن سبقوه نادى
مساعد المخرج باسمه حيث حان وقت تقديم أدائه
أمام
الكاميرا.. تقدم نحو المخرج بخطوات حاول أن
يجعلها ثابتة، سأله المخرج:
-  هل حفظت المشهد جيداً؟
-  نعم.
-  لنرى أداءك.
أغمض عينيه للحظات، أخذ نفساً عميقاً؛ ليهدئ من حاله؛ ويبث الثقة بنفسه، ما إن فتح عينيه حتى بدا
شخصا مخالفا لنفسه، وكأن شيطانا تلبسه، أو أنه
وُلد داخل أستوديو، برقت عيناه ببريق أذهل عقولهم جعل الجميع يصفق له ويشيد ببراعته ما أن أنهى
المشهد، راهن المخرج جميع الحضور بأنه سيصبح
فتى الشاشة الأول خلال مدة قصيرة، وأن صورته
ستتصدر أغلفة المجلات وأفيشات الأفلام، طلب منه
الانتظار قليلا، كانت السعادة تقفز من عينيه؛
فالتمثيل حلمه منذ الطفولة، اتصل بها المخرج
ليخبرها أنه وجد شريكها الجديد في الفيلم:
-  سوف أحضر حالاً.
بدلت ملابسها، واتجهت إلى الاستوديو، دلفت
كالغزال المتبختر بحسنه، كانت مع كل خطوة
تخطوها تأسر آلاف القلوب، ترتدي تنورة قصيرة من
الجلد الأسود تكشف عن ساقيها المرمريين، تعتليها بلوزة من اللون الوردي، شعرها المُسدَل على كتفيها أكمل طلتها البهية، رفعت نظارتها الشمسية فوقه لتظهر سحر عينيها، جلست بجوار المخرج واضعة
ساقا فوق أخرى، تقدم نحوهما تامر بعدما أشار له
المخرج:
-  أقدم لكِ بطل الفيلم الجديد (تامر فؤاد).
نظرت له بابتسامة خلابة مصافحة إياه، طلب منهما
المخرج تأدية المشهد معاً، وقف أمامها وهو ينظر
بعمق داخل عينيها، تقلصت المسافة بينهما، لم يعد يفصلهما سوى خطوة واحدة، رفع يدها اليمنى ثم وضعها على قلبه:
-  هنا موطنكِ، لن يستطيع أحد إخراجكِ منه، ولن
يسكنه غيركِ..
رفعت عينيها لتقابل عينيه:
-  لكن والدي يرفض تلك العلاقة كما والدك.
-  من اليوم لن يقرر أحد مصيرنا، سوف نخط مصيرنا بأيدينا، خلافاتهم تخصهم فقط، لن نحمل وذرهم؛
فقلوبنا خُلقت للحب والحياة.
ضمته، وعيناها مترقرقه بالدموع:
-  لكن والدي أقسم أنه سيقتلك إن اقتربت مني.
احتضن وجهها بكفيه، وهو يمسح تلك الدموع
ليطمئنها:
-  يفعل ما يشاء؛ فأنا لن أبتعد عنكِ، وإن أراد قتلي فسعادتي تكمن في أن ألقى حتفي بين ذراعيكِ.
وضعت يدها على فمه؛ لتمنعه من الحديث، أمسك
يدها بحنان ليضعها على قلبه كما وضع يده على
قلبها، فانتفض جسدها جراء لمسته الدافئة:
-  كلانا يسكن هنا، ولن نفترق حتى الموت.
ثم ضمها إلى صدره؛ لتسمع دقات قلبه، وهو يطبع
قبلة على جبينها:
-  أحبكِ.
رفعت عينيها لتبادله:
-  أحبكَ.
صفَّق الجميع لهما، حياهما المخرج، ثم قام بالتقاط صورة تذكارية تجمعهما معا..
هنا كانت بداية تعارفهما، جمعهما العمل، تقارب
السن بينهما جعلهما صديقين مقربين، وقت
حاجتها وحيرتها تلجأ إليه لتأخذ منه النصيحة، عملا معا خمسة أفلام حققت إيراداتٍ ضخمة، ذيع صيتهما على أنهما أفضل ثنائي أنجبته السينما في العصر
الجديد، أصبحا مطلب العديد من المنتجين
والمخرجين؛ فدرجة التجاذب والتفاهم بينهما تضفي للعمل روح رائعة.
حرك بإصبعه يميناً على شاشة الهاتف لتظهر أمامه صورة أخرى جمعتهما بأحد المهرجانات، كانت
ترتدي فستانا باللون الأحمر القاني، رفعت شعرها
للأعلى بأنشوطة، ثم أرخت ضفيرتها الفرنسية على
جانبها الأيسر، طلتها دائما ما تجذب الأنظار، تصدرت أغلفة المجلات ومواقع التواصل، وهي تتأبط ذراعه
تحت عنوان مونيكا بيلوتشي العرب تسرق الألباب،
سقطت دمعة من عينيه، وهو يتذكر اتصالها وقتما
استنجدت به حين اختلفت مع فايز، وقام بضربها
وإهانتها برغم برودة الجو ألقاها خارج قصره، ولم
يهتم بوضعها، تركها ترتجف دون أن يكترث أين
ستذهب في هذا الوقت المتأخر، حمل مفاتيح
سيارته واتجه مسرعاً نحو قصره، وقف بعيدا كما
طلبت منه في الرسالة، وصلت إليه بأقدام مثقلة،
ملابسها ممزقة، عيناها تشبه كاسات الدم، فور رؤيته لحالتها المزرية خلع عنه معطفه ليضعه على
كتفيها ليمنحها بعض الدفء، ما إن وصلا إلى منزله حتى فتح لها باب السيارة، وقام بمساعدتها للنزول،
اتكأت على يده وهي تجرُّ قدميها إلى المصعد،
جسدها كان يرتجف، ظلت تسعل، ضمها إلى صدره
بقلق، فور وصولهما للشقة أخرج لها ملابس جافة
من ملابسه، جهَّز لها الحمَّام ثم تركها تبدل
ملابسها، وتحصل على بعض الراحة، آهاتها جعلت
القلق يدب بقلبه، قضى ليلته على الكرسي جوارها
يتحسس جبينها، يضع لها الكمادات حتى تخف
حرارتها، غفا دون أن يشعر، تململ من نومه عندما
آلمته رقبته، فتح عينيه ليتأمل ملامحها، رفع بعض
الشعيرات الثائرة على وجنتها، مسح حبات العرق
المتناثرة على جبينها، انتفض جسده حينما لامست
أنامله وجنتها التي تلظى كالبركان، اتصل فورا
بالطبيب الخاص به، وطلب منه الحضور سريعاً لأمرٍ
هام، بعد الكشف أخبره الطبيب:
-  مصابة بحُمَّى شديدة، لابد من تناول جرعات
العلاج التي وصفتها لها في المواعيد المحددة، مع
تناول العديد من السوائل الدافئة، متابعة الكمادات
لحين انخفاض حرارتها.
شكره تامر على سرعة استجابته، وهمس بأنه قائلا
بصوت هامس يحمل الكثير من الرجاء:
-  أرجو أن يكون أمر حضورك ورؤيتها هنا سريا، لا
تخبر أحدا بوجودها هنا؛ فأنت تعرف الصحافة لا تدع
أحدا بحاله.
-  لا داعي للخوف؛ فأنا طبيبك الخاص؛ وأسرار
المرضى لا يجوز الإفصاح عنها.
-  شكرا دكتور أحمد.
-  العفو، سوف أمر غدا للاطمئنان على حالتها.
طلب تامر من بواب العمارة جلب روشته الدواء من
الصيدلية، لغى كافة ارتباطاته خلال الأسبوع فقط
ليعتني بها.
-  تامر بيه، تامر بيه..
صوت مدير منزله أخرجه من بئر ذكرياته:
-  توجد فتاة تريد مقابلتك بالخارج.
-  ما اسمها؟
-  لم تخبرني باسمها، قالت أنك سوف تعرفها
بمجرد رؤيتها.
خرج تامر من غرفته لمقابلة الفتاة المجهولة، فوجئ عندما رأي نرجس أمامه مساعدة سوزي، تعجب من
زيارتها؛ فهي لم تزره من قبل، لكنه ظن أنها تريد
منه خدمة أو تريده أن يتوسط لها للعمل مع إحدى
الفنانات بعد وفاة سوزي:
-  أهلا نرجس، كيف حالكِ؟
-  بخير...
قالتها، ثم التزمت الصمت، نظر لها مستفهما
لمعرفة سبب زيارتها، فهتفت قائلة بما يشبه
الهمس:
-  أريد التحدث معك على انفراد.
ذُهل من طلبها لكنه وافق، طلب من مدير المنزل
إحضار كأس من العصير لها، وأن يغلق الباب خلفه، وهو خارج، ثم هتف بها قائلا في هدوء؛ ليحثها على
الكلام:
-  الآن أصبحنا على انفراد، أخبريني.. ماذا تريدين؟
-  أريد مليون جنيه.
فغر فاهه فور سماع طلبها، ورفع حاجبه، وهو يردد:
-  ماذا؟!
-  كما سمعت، وسوف أكررها على مسامعك، أريد مليون جنيه.
-  ما هذا الجنان الذي تتفوهين به؟! أظن وفاة
سوزي أثرت على قواك العقلية؟!
تبدلت ملامحها الهادئة، وضحكت بصوت مجلجل،
ولمعت عيناها بالشرر، قبل أن يخرج صوتها من بين شفتيها كفحيح أفعى رقطاء:
-  أظن سمعتك تساوي أكثر من مليون جنيه،
لكنني قنوعة وبداخلي قلب طيب رؤوف، لذا اكتفيت بمليون واحد.
-  سمعتي معروفة لدى الجميع، ما الذي سوف
يشوهها حتى أدفع لك كل هذا المبلغ.
جلست على الكرسي الموجود أمامه واضعة ساقا
فوق الأخرى، وهي تتحدث بثقة، وكأنها مسكته
بالجرم المشهود:
-  تخيَّل خبرا صغيرا من فاعل خير يصل للشرطة
والصحافة يخبرهم بأنك كنت بفيلا سوزي ليلة
قتلها، يا له من خبر رائع مؤكد سوف تبيع الجرائد
العديد من الإصدارات بفضل هذا الخبر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي