الفصل السابع

أشار له عثمان بالدخول إلى المنزل خلف ابنه، ثم
تبعهما بينما محمد اتجه نحو المقهى المقابل
للمنزل ليجمع بعض المعلومات؛ ما إن نزل آسر إلى
ذلك البدروم الذي تقطن فيه عائلة عثمان حتى سعل من تلك الرائحة التي اقتحمت صدره وأنفه..
نادى صابر على والدته وأخته فاطمة بينما شقيقتاه
(أمل وابتسام) كانتا خارج المنزل..
اقترب آسر من تلك السيدة ضعيفة النظر التي تتشح
بالسواد، دققت في ملامحه، ثم سألت ابنها عمَّن
يكون؛ فهي لا تعرف صاحب هذه الملامح.
-  سامحها؛ فنظرها ضعيف؛ بسبب هذا البدروم
وعدم دخول الشمس له.
-  هذا آسر بيه يا أمي، الضابط المنوط بالتحقيق
في حادث قتل سنية.
بمجرد ذكر اسمها ظلت تبكي وتولول على فقدانها، اقتربت منها فاطمة تهدئ من نحيبها:
-  يكفي يا أمي.
ربت آسر على يدها بحنان قائلا:
-  ادعي لها بالرحمة؛ فهي تشعر بكل شيء.
مسكت يده محاولة تقبيلها؛ لتستعطف قلبه، وهي
تردد بحروف متعثرة:
-  أريد رؤيتها، أريد أن أضمها، خذني إليها.
سحب يده سريعا قبل أن تقبلها، وهو يقول في تأثر:
-  أعلم مدى اشتياقك لها، لكن الإجراءات لم تنته بعد، سوف أعمل على تسريعها بقدر استطاعتي،
لكني أريد الآن أن أعرف متى التقيتِ بها آخر مرة؟

أخذت نفسا عميقا حبسته بين رئتيها لتخرجه ببطء، وكأنها تلفظ معه الماضي وذكرياته من داخل حجرة
مظلمة غلفتها الأتربة والغبار، سعلت عدة مرات
ارتجف جسدها على أثره قدمت لها فاطمة الماء،
شربت ثلاثا حتى هدأ صدرها لتجيب:
-  آخر مرة رأيتها يوم نجاح شقيقتيها (أمل وابتسام)، حضرت يومها ومعها العديد من الهدايا، كانت
فرحتها عارمة يومها، لكن عثمان أطفأ فرحتها
وطردها قبل أن أحتضنها، خرجت مهانة تبكي
قسوته، لم أستطع أن أطيب خاطرها.
-  لا تنكأوا جروح الماضي؛ فهذا لن يفيد.
قالها عثمان ليسكت زوجته، سكت لسانها لكن
عينيها ظلت تبكي، شعر آسر بالأسف نحوها، رفع
عينيه نحو فاطمة، لكن جمود ملامحها جعله
يسألها:
-  كيف كانت علاقتكما؟ فأنتِ شقيقتها الكبرى، ومن المؤكد أن بينكما الكثير من الذكريات.
هزت كتفيها، وهي ترد عليه في برود:
-  لا شيء، الطبيعي بين الأخوة.
-  لكنني لا أري ذلك.
سألته: ماذا تقصد؟
-  أي شخص طبيعي في مكانكِ كانت حالته لن
تختلف عن حالة والدتكِ أو أكثر، لكن ما أراه الآن
وجها ثلجيا اختفت منه كافة المشاعر، وكأن موتها جاء في صالحكِ.
برزت عروقها، تخضب وجهها غضباً مما قاله:
-  وما مصلحتي في موتها؟!
-  أين كنتِ يوم وفاتها؟
-  كنت أعمل في إحدى الفيلات؛ لمساعدة زوجي
على معايش الحياة.
-  أين تقع تلك الفيلا؟
-  بالتجمع.
-  متى آخر مرة قابلتِ فيها شقيقتك؟
-  يوم نجاح ابتسام وأمل.
-  هل قابلتها بعد ذلك؟
-  لا.
صمت آسر بضع لحظات، ثم وجه كلامه لعثمان:
-  أريد مقابلة ابنتيك (أمل وابتسام).
-  أمل في الكلية، وابتسام في المدرسة.
وجه آسر كلامه لصابر وعثمان: فور عودتهما عليكما
إحضارهما إلى القسم وإلا سوف أصدر أمرا بالقبض
عليهما.
أومأ كل منهما بالموافقة، غادر آسر ليجد محمد
يهرول نحوه مسرعا:
-  هيا بنا.
-  إلى أين؟
-  المشرحة...
علا حاجباه، وضيَّق عينيه مستفهماً:
-  لماذا؟ هل حدث شيء هناك؟
-  دكتور حاتم اتصل، وطلب منا الحضور فوراً لأمر
هام.
انتابه الفضول فور هذا الطلب:
-   ترى ماذا حدث؟ وما سبب هذا الاستدعاء؟
دقائق قليلة وصلا بعدها إلى المشرحة، واتصل محمد بحاتم ليخبره أنهما بالخارج في انتظاره.. من خلف
البوابة السوداء خرج شاب في أوائل الأربعينات،
متوسط القامة، يرتدي نظارات طبية، وبالطو أبيض، خالط الشيب ليل رأسه مما أضاف له المزيد من
الوقار والجاذبية، حينما يبتسم تظهر لديه غمازات
تزين وجنته وتجعله يشبه الأطفال، ألقى السلام
عليهما، ردا السلام ليبادره آسر مستفهماً:
-  أهلاً دكتور حاتم، ما هو الأمر الهام الذي طرأ
وجعلك تستدعينا بهذه السرعة؟
ابتسم في وجهه محدثا:
-  تفضل بالداخل، سوف أريك كل شيء.
ما إن دخلوا إلى المشرحة حتى شعر محمد ببرودة
وغثيان، لذا طلب من آسر أنه سينتظر بالخارج، ضحك من ردة فعله فبرغم كل ما مرا به معا، والعمل في
العديد من القضايا، إلا أنه لا يستطيع البقاء بداخل
المشرحة فهو يشبه طلبة كلية الطب عند حضور أول يوم لمحاضرات التشريح، تركاه ثم دلفا إلى الداخل
بعدما دق حاتم ثلاث وألقى السلام، ما إن وطأت
أقدامهم تلك الأرضية حتى غزت رائحة الفورمالين
أنوفهما، اقترب حاتم من تلك الطاولة الرخامية التي توجد على يمين الباب حيث جثمان سوزي:
-  بالأمس راودني إحساس غريب بوجود شيء تريد
الجثة إخباري به.
ظن آسر أنه أصيب بالجنون لكثرة تعامله مع الجثث
والأموات أو مسه جن، فهم حاتم ما يدور بداخل
رأسه، فردَّ عليه ضاحكا:
-  لا داعي للقلق؛ فأنا لست بمجنون، عملي في
التشريح جعل الجثث تتحدث إلى وتبوح لي بأسرارها عن طريق إشارات، وهذه الجثة تخفي بداخلها سرا
كبيرا.
-  عن أي سر تتحدث؟
اقترب حاتم من الجثة الممددة أمامه علي تلك
الطاولة الباردة، ثم وضع يده على رحمها قائلاً:
-  هنا يكمن السر.
علا حاجبا آسر، وفغر فاهه قائلا:
-  هل تقصد أنها كانت حاملا؟
-  نعم.
-  ترى هل كانت تعلم سوزي بهذا الحمل، ومن
والد هذا الجنين؟ من المحتمل أن يكون والد هذا
الطفل هو الجاني، أريد منك أن تأخذ عينة من حمض الطفل النووي وتحللها.
-  أكيد.
-  متى تستطيع عائلتها استلام الجثمان؟
-  بعد غد.
شكره آسر ثم غادر، وتركه ينهي عمله، سأله محمد:
-  ما هو الأمر الهام الذي أخبرك به دكتور حاتم؟
-  لن تصدق، سوزي كانت حاملا قبل أن تقتل.
-  ماذا تقول؟ ومن والد هذا الطفل؟ مؤكد أنه
سيكون مفتاح لحل ذلك اللغز..
قاطعه آسر قائلا:
-  حتى الآن لا أعرف من هو؟ لذا علينا مراجعة كافة الأسماء والعلاقات الخاصة بسوزي؛ والآن هيا بنا
لمقابلة تامر.
أمام عمارة الإيموبيليا الشهيرة وقف كلاهما
يستفسران عن رقم الشقة التي يسكنها هذا
الممثل، توجها نحو المصعد وصولا للدور الخامس،
رن محمد الجرس ليفتح الباب رجل كبير في أواخر
الخمسينات يرتدي زاي أبيض كأفلام الخمسينات،
سأله آسر:
-  أريد مقابلة الأستاذ تامر فؤاد؟
-  هو نائم الآن.
-  أيقظه؛ هناك أمر هام.
-  مَن حضرتك؟
-  مقدم آسر جمال.
تركهم، ثم عاد بعد دقائق يخبرهم:
-  تامر بيه سوف يحضر بعد قليل، ماذا تشربان؟
-  شكراً، لا نريد شيئا.
جلسا ينتظراه، دار آسر ببصره في المكان، وهو يتابع
صور ذلك الفنان التي تملأ الحائط، الجوائز التي نالها خلال مسيرته الفنية، عاد العجوز يحمل بين يديه
صينية من الفضة يعلوها كأسان من العصير،
قدمهما، ثم غادر في صمت، خرج من الداخل شاب
طويل القامة، يتعدى طوله المتر وسبعين سنتيمتر، يهتم بجسده ولياقته البدنية كثيرا؛ لذا يهوى إظهار عضلاته أمام الشاشات؛ فقد خصص ركنا بمنزله
مكتظا بالمعدات الرياضية التي تساعده على هذا،
شعره زاحف للخلف قليلا، لكن هذا لم يؤثر على
شعبيته ولا إعجاب الفتيات به، يحمل بين يديه كأس من العصير، اقترب من آسر يحيه ويسأله:
-  كيف أستطيع مساعدتك؟
بادله التحية، ثم سأله مباشرة:
-  هل تعرف سوزي سالم؟ وما علاقتك بها؟
-  سوزي زميلة وفنانة متميزة، جمعتنا بعض
الأعمال والمشاريع الفنية، لكن هل لي بسؤال ما
سبب كل هذه الأسئلة؟
-  من الواضح أنك لا تتابع الأخبار، سوزي وجدت
مقتولة داخل فيلتها الخاصة.
ارتجفت يداه عندما سمع الخبر فسقطت بعض
قطرات العصير على قميصه:
-  أعتذر منك، كان لدي تصوير بالخارج ولم أتابع
الأخبار.
-  متى آخر مرة رأيت فيها سوزي؟
-  منذ شهر تقريباً.
-  ما طبيعة العلاقة التي تجمعكما؟
-  علاقة عمل وصداقة فقط.
نظر له آسر ضاحكا:
-  لكن الأخبار التي تملأ الصحف تقول غير ذلك.
-  الصحافة والأخبار شغلها الشاغل تضخيم الأمور.
-  سوف يتضح كل شيء.
قالها آسر بصوت خافت حتي لا يسمعه تامر:
-  أين كان موقع التصوير؟
-  في العين السخنة.
-  ومتى عدت من هناك؟
-  فجر اليوم.
شكره آسر، ثم غادر مع صديقه، داخل السيارة سأله
محمد:
-  لِمَ لَمْ تخبره بأمر حملها؟
-  حتى تظهر الحقيقة يجب إخفاء بعض الأمور،
وندع الجميع يتعاملون بطبيعتهم دون حذر، أريد
سجل مكالمات سوزي.
-  تمام.
عادا معاً إلى القسم ليجدا فؤاد في انتظارهما ومعه مفاجأة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي