قهر الرجال البارت العشرون والأخير

"قهر الرجال" "البارت العشرون والأخير"

إن الذي فقد كل ما يملك يسعى أحياناً للتشبث بالآمال حتى وإن كانت زائفة، يأمل لو يلتقي بمن يشدد بأزره ويربت فوق كتفه ويخبره بأن كل شيء سيكون على ما يرام، لا أظن أن المرء بحاجة لشيء أكثر من حاجته لهذا الشعور

توقفت سيارة ملاذ أمام المنزل الخشبيّ، ترجّلت منها ودلفت إليه بينما كان رجالها يقومون بإخراج كل الأغراض التي بالمنزل كأدواتهم وثيابهم وهكذا حتى صار المنزل خالي تماماً من كل شيء

رحل جميع الرجال ولم يتبقى في المنزل سوى ملاذ وصهيب!
دلفت ملاذ إلى غرفة صهيب وجلست أمامه على مقعدها دون أن تنظر إليه حتى، كانت فقط تحدق في الفراغ

تعجب صهيب من أمرها وقال بتساؤل:
_ما الأمر؟ هل تعرضتِ للخذلان ثانيةً؟
زحف نظر ملاذ نحوه ثم قالت بنبرة يملؤها الجمود والثبات على غير العادة:
_لمَ؟ ألا يكفي واحداً من نوعك؟!

امتعض صهيب وقال متسائلاً بنفاذ صبر:
_ماذا تريدين يا ملاذ؟ ما الذي تسعين إليه هذه المرة؟!
أجهشت ملاذ بالبكاء وقالت بينما كانت تنظر إلى عينيه مباشرةً:
_لقد كنت محقاً يا صهيب

ضم صهيب حاجبيه بتعجب فأردفت هي بقولها:
_لم أتمكن من قتلك بعد، لقد فعلت كل ما بوسعي حتى لا يكون لك تأثير عليّ لكن محاولاتي باءت بالفشل، أظن أنك انتصرت في النهاية

تبسم صهيب وقال:
_لولا أنني أراكِ بأم عيني لما كنت لأصدق أنكِ أنتِ من تتحدث إليّ، فالذي أعرفه عنكِ أن الرضوخ لا يعرف طريقكِ!

تعالت حشرجات ملاذ وقالت بنبرة خافتة:
_رغبتي في الإنتقام أفسدت كل شيء، جعلتك محتجز هنا، فعلت الكثير حتى ظن الجميع بأنك قضيت نحبك! الفتاة التي تحبها لم تكن متيمة بك وهي الآن زايلت الحياة، ووظيفتك صارت لشخص الآخر! حتى جميع أملاكك صارت لي لأنك ميّت بالنسبة للجميع! ليس لديك شيء خارج هذا المنزل يا صهيب

ضغط صهيب على نواجزه وقال بنبرة غاضبة:
_هل جئتِ إلى هنا كي تخبرينني بكم الخسائر التي ألحقتِها بي؟
فسرعان ما لوّحت ملاذ برأسها يميناً ويساراً قائلةً:
_لا، بالطبع لا، لقد قررت أن أحررك من هذا السجن

جحظت عيني صهيب بذهول وهتف قائلاً بنبرة مفعمة بالأمل:
_حقاً!؟ هل أنتِ جادة؟
أومأت ملاذ برأسها وقالت:
_سيكون لديك فرصة للبدء من جديد

رمقها صهيب بنظرات تملؤها الشكوك ثم قال بتساؤل:
_ما الذي حدث؟ لم تكُن هذه نواياكِ منذ البداية!
تبسمت ملاذ وقالت بنبرة يكسوها الحزن:
_لقد عاد إليّ رشدي

إقتربت ملاذ من صهيب وقامت بتحرير يديه وقدميه من من السلاسل الحديدية وقالت بنبرة هادئة:
_أنت حر الآن، يمكنك الذهاب
رمقها صهيب بغموض، فعلى الرغم من أنه حصل على ما كان يريد طوال الوقت إلا أنه لا يمكنه الوثوق بملاذ، كان حدثه يخبره بأن هناك خطب ما!

خرج صهيب من الغرفة مسرعاً بينما جثت ملاذ على ركبتيها، كانت تحدق في الفراغ، تذكرت كل ما فعلته، كم كانت تأمل لو أن الزمن يعود بها، لكن لا محيص من قدرها، ما حدث فقد كان وما عليها سوى إنتظار ما سيحدث!

إنتبهت ملاذ من شرودها من حينما دلف أحد رجالها إلى الغرفة قائلاً:
_هل تودين أن آخذ هذه السلاسل سيدتي؟
نظرت إليه ملاذ فوجدته يؤشر نحو السلاسل التي كان مقيم بها صهيب فسرعان ما قالت:
_خذها من هنا

قام الرجل باقتلاع السلاسل من الحائط وقبل أن يغادر الغرفة قال متسائلاً:
_ألن تغادري يا سيدتي؟
فقالت ملاذ بشرود:
_سأغادر بالتأكيد، لكن ليس الآن، أريد أن أبقى بمفردي قليلاً

غادر الرجل بينما شردت ملاذ في تذكر كل ما يتعلق بهما هي وصهيب سوياً، لقد كان كل شيء مثالياً، كانت علاقتهما تلفت أنظار الجميع، كان يعبر لها عن عشقه بطرق غير مألوفة وهذا ما جعلها تتيم به!

إنتبهت ملاذ من شرودها على صوت صهيب وهو يهتف بأعلى طبقات صوته:
_ملاذ!
إنفجرت أسارير ملاذ وظنت أنه آثر العودة إليها لكي يصلحا سوياً كل ما أفسدته الأيام

نهضت ملاذ ثم التفتت إليه، وما إن رأته حتى تلاشت ابتسامتها وقالت بنبرة مرتعدة:
_صهيب ما الذي تفعله؟ هل جننت؟
كان صهيب ممسكاً بسلاح ربما اختلسه من أحد رجالها، كان السلاح موجّها نحوها وبالتحديد نحو فؤادها

تبسم صهيب بخبث وقال:
_ماذا؟! لقد أخبرتكِ من قبل أنكِ اقترفتِ خطأ فادح بترككِ لي على قيد الحياة، بل وأخبرتكِ أيضاً أنني إن حدث وتحررت سأذيقكِ العذاب بكل ما أوتيت الكلمة من معنى، وها قد واتتني الفرصة ولن أفوّتها

زفرت ملاذ بقوة وقالت بنفاذ صبر:
_ضع السلاح جانباً يا صهيب، لأنك أنت سيقترف خطأ فادح الآن، في الحقيقة لست واثقة من سوء نتيجة فعلتك، لذا أترك السلاح ودعنا نتحدث قليلاً

لم يتأثر صهيب بكلمات ملاذ بل وظل موجّهاً السلاح نحوها، كانت ملاذ على يقين تام بأن صهيب لن يفعل شيء جنوني كهذا ويطلق النيران عليها لولا أن تحركت للأمام فضغط هو على الزناد دون أن يشعر واستقرت رصاصته داخل جوفها!

صاحت ملاذ بأعلى طبقات صوتها من شدة الألم وسرعان ما سقطت أرضاً
شهق صهيب بفزع قائلاً:
_ملاذ!
هرول صهيب نحوها وجثى على ركبتيه وأمسك برأسها ووضعها على فخذه وظل يربت فوق وجنتها برفق بينما كان يهتف منادياً:
_ملاذ! تحدثي إليّ

نظرت إليه ملاذ بعينين زائغتين ثم قالت بنبرة متحشرجة بينما كانت تحاول أن تضع يدها الملطخة بدمائها فوق وجهه:
_لقد تخلصت مني في النهاية يا صهيب، لقد ربحت وأنا أخفقت

انهمرت دموع صهيب وقال بنبرة حانقة:
_لم أكن أقصد قتلكِ أقسم لكِ بذلك، كنت أثير خوفكِ فقط لكي أساومكِ، لم أكن لأفعل ذلك أبداً
قهقهت ملاذ بألم ثم قالت:
_أتعلم، على الرغم من أنك ربحت هذه الحرب في النهاية إلا أن خسارتك كبيرة جداً

ضم صهيب حاجبيه وقال بتساؤل:
_ماذا تعني؟ لا أفهم!
وضعت ملاذ يدها فوق بطنها وقالت ببكاء بينما كانت الدماء تنسال من فمها وجوفها:
_بفعلتكِ هذه لم تؤذِني بمفردي، أنت قتلت شخصين اثنين يا صهيب

جحظت عيني صهيب بفزع ووضع يده فوق يدها قائلاً:
_ماذا؟ هل كنتِ تحملين طفلي بين أحشائك؟!
أومأت ملاذ برأسها بألم شديد ثم قالت بنبرة خافتة جداً:
_لقد قتلت ابنك بيدك يا صهيب، لم أكن أود إخبارك عنه، أردت أن أتخذه لي وينشأ لا يعرف سواي، لكنك هدمت آمالي وأحلامي

تسارعت أنفاس صهيب وشعر وكأن مبنى ضخم تهدم فوق رأسه لكنه لا يزال ثابتاً!
وضعت ملاذ يدها الملطخة بالدماء فوق وجهه وقالت بينما كانت تزرف أنفاسها الأخيرة:
_لم أكف عن حبي لك أبداً، لم أكن لأفعل

كاد صهيب أن يتحدث لولا أن انقطعت أنفاسها وصارت جثة هامدة!
صار صهيب ينهرها بقوة ويصيح لكن بلا جدوى فقد انتهى كل شيء!

ضمها صهيب إلى صدره بقوة وصار يقول بنبرة جنونية:
_ملاذ استيقظي أرجوكِ، أتعلمين شيئاً لن أترركِ، لن أذهب إلى مكان سأظل هنا بجانبكِ، يمكنكِ احتجازي ثانيةً ولن أثير غضبكِ ثانيةً أنا أعدك بذلك

انتفض جسد صهيب حينما رأى الشرطة تملأ الغرفة، أمسك به اثنين من رجال الشرطة وقاموا بإبعاده عن ملاذ بينما كان يصيح هو بقوله:
_لم أفعل شيء، أقسم لكم أنني لم أفعل شيء، لم أكن أقصد

أثناء خروج صهيب من الغرفة كان حينها آسر يتجه إلى الداخل، جحظت عيناه حينما رأى صهيب رهن الإعتقال! وما إن وقع نظره على ملاذ التي كانت مسجية على الأرض حتى فزع وهرول نحوها وحاول أن يجعلها تستعيد وعيها لا بلا جدوى

صاح آسر في عناصر الشرطة وقال بنبرة حادة:
_أحضروا سيارة الإسعاف على الفور
بعد مرور القليل من الوقت كانت سيارة الإسعاف أمام المنزل فسرعان ما قام آسر بحمل ملاذ ووضعها داخل سيارة الإسعاف ثم صعد إليها هو الآخر

...

في قسم الشرطة كان صهيب في غرفة التحقيقات برفقة المحقق، كان جسده ينتفض من هول ما حدث فكل شيء صار رأس على عقب في غضون لحظات!!

إنتفض جسد صهيب حينما صاح المحقق في وجهه قائلاً بنبرة حادة:
_لمَ قتلتها؟
فقال صهيب بنبرة يملؤها الندم:
_أقسم لك يا سيدي لم أكن أقصد، كنت فقط أخيفها بالسلاح الذي بين يدي وقد أطلقت النيران دون قصد

فقال الضابط بنبرة غاضبة:
_ولمَ قد تخيفها بالسلاح؟ هل جننت؟
فسرعان ما قال صهيب:
_لأنها كانت تحتجزني في ذلك المنزل طوال فترة وجيزة، لقد قتلت العديد من الرجال لذلك أردت أن أخيفها لكي لا تفعل شيء يعود عليّ بالأذى!

قهقه الضابط بسخرية ثم قال:
_هل تظنني أحمق وسأصدق هذه الترهات التي تتفوه بها؟!
ضم صهيب حاجبيه فأردف المحقق قائلاً:
_لمَ قد تحتجزك زوجتك في منزل تعود ملكيته إليك؟!!

جحظت عيني صهيب قائلاً بفزع:
_هذا المنزل ليس لي
تنهد المحقق قائلاً:
_حقاً!! لكن الأوراق التي بين يدي تثبت أن المنزل لك، بل والعديد من الصور والفيديوهات التي تفيد بأنك أنت من ارتكبت هذه الجرائم!، بل وكنت تواري سوآتهم شخصياً! وأكبر دليل على ذلك هو وجود الجثث في المنزل!

شعر صهيب بالدوار بينما همس قائلاً:
_هذا فخ! إنه فخ، كنت أعلم أنها ستفعل شيء!
زفر المحقق بنفاذ صبر وقال:
_ستبيت في الحجز لحين إرسالك إلى النائب العام في الصباح، حاول أن تهنأ في ليلتك لأن القادم سيكون أسوأ مما تظن!

تم وضع صهيب في زنزانة مع المجرمين فانطوى في زاوية الزنزانة وصار يحدث نفسه قائلاً:
_أرادت أن أنال عقاب قاسٍ جداً، لذلك حرصت على أن أُسجن بعد وفاتها، كم هي مخادعة

تذكر صهيب فجأة ما قالته له ملاذ حينما كانت تذرف أنفاسها الأخيرة، لقد قالت له أنه قتل طفله أيضاً!لقد كانت تحمل جنين بين أحشائها وبما أنها قضت نحبها إذاً هذا سيكون مصير الجنين أيضاً!

شعر صهيب بغصة في قلبه فكم كان يتمنى أن يكون له إبن! لقد كان أحد أحلامه، لكنه هو من هدم كل شيء بفعلته الدنيئة، فلولاها لما كان حدث كل ذلك!

...

بعد مرور عدة أيام كان الضابط آسر ينتظر في المطار الدولي، وكان ممسكاً بجواز سفر في يده، كان كل حين وآخر ينظر في ساعة يده، بدا أنه ينتظر شخص ما!

تذكر فجأة تلك الليلة التي التقى فيها بملاذ، في تلك الليلة عزمت ملاذ أمرها على أن تخبره بكل شيء وبالفعل أخبرته دون أن تخفي عنه أي شيء، فبدلاً من أن يعتقلها قطع عهداً على نفسه بأن يساعدها

فكراً كثيراً في الأمر إلى أن توصل آسر لخطة وهي أن يقوم شخص يعمل لديه بإبلاغ الشرطة عن المكان الذي تختبيء فيه ملاذ وحينما تأتي الشرطة سيكونون رجالها رحلوا ومعهم كل الأغراض التي كان في المنزل

ولم تقتصر الخطة على ذلك فقط وإنما استعدت ملاذ جيداً لرد فعل صهيب لأنه فور تحريره سيسعى للتخلص منها لا محال! لذلك كانت ملاذ على أتم الإستعداد وقامت بارتداء عازل الرصاص الذي أهداها إياه آسر ولكي تكتمل الخطة أمرت أخد رجالها بترك سلاحه على مرأى عين صهيب فور خروجه من الغرفة!

وحينما تم وضع ملاذ في سيارة الإسعاف تحدث إليها آسر وأخبرها بأن كل شيء سيكون على ما يرام وأنه سيقوم بتبديلها بجثة فتاة أخرى وهذا ما حدث

إنتبه آسر من شروده ونظر نحو جواز السفر الذي يقبع بين يديه وقام بفتجه، كانت به ثورة ملاذ لكن الإسم كان "ماريا"
شعر آسر بأن شخص ما يقترب نحوه وما إن توقفت أمامه مباشرةً حتى قال قبل أن يلتفت:
_لقد تأخرتِ كثيراً

زحف نظر آسر نحو ملاذ ثم نهض وقال:
_هل أنتِ بخير؟
أومأت ملاذ برأيها وقالت:
_أكثر من أي وقت مضى
مد آسر يده بجواز السفر نحو ملاذ فأخذته وقالت:
_شكراً لك

تبسم آسر بحزن وقال:
_كوني بخير
تبسمت ملاذ وقالت:
_بكل تأكيد لا تقلق، إلى اللقاء

أنهت ملاذ جميع الإجراءات ثم صعدت على متن الطائرة التي ما إن أقلعت حتى نظرت ملاذ من خلال النافذة التي بجانبها وقالت بابتسامة يملؤها الخبث:
_سأعود قريباً، وسأكمل انتقامي منك يا صهيب.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي