الفصل الخامس

في كل ليلة يتخيلها إلى جواره عوضا عن زوجته،
جميع أفلامها يحفظها عن ظهر قلب، لطالما تخيَّل
نفسه جوارها يتمتع بذلك القوام الثعباني الذي
يلهب جسده كلما تخيله بين ذراعيه، جذبه عامر من
يده ليرن جرس الباب؛ فصوت جده يصدع بأرجاء
المنزل، خرج من شروده مستغفرا الله على تلك
الورطة التي أقحم نفسه فيها منذ عدة أعوام، فتحت الباب صغيرته سارة، والتي تحمل بين يديها أخاها
الأصغر فارس، قبلها ثم سأل حماه الذي كان يجلس على أريكة خشبية يغطيها الكليم اليدوي:
-ماذا حدث؟
-مصطفى الذي يعمل بمقهى المعلم حسني رشوان أخبرني أن رجال الشرطة أخذوا صابر.
ردَّ عليه عمارة ببرود؛ فهو اعتاد على ذلك:
-ماذا فعل هذه المرة؟
-لا أعلم السبب.
-حسناً، سوف أذهب إلى القسم، وأعرف سبب القبض عليه.
-تقصّى الحقيقة ومعرفة سبب القبض عليه؛ فهو
يعرف أحد الأمناء هناك يساعده في كل مرة يتم
فيها إلقاء القبض على صابر.
خرج صابر من القسم لا يعلم كيف سيواجه والديه،
كيف سينقل لهم حقيقة ما حدث، وسبب استدعاء
الشرطة له، ظل يدعو الله أن يساعده على تخطي
هذه المحنة، بعيون دامعة دلف إلى منزله صرير بابه جعل والدته تلتفت إليه ما إن رأته حتى شعرت أن هناك خطبا ما، وأن ما حدث اليوم واختفاءه وراءه شيء لا يُحمد عقباه:
-ماذا حدث؟ لِمَ قُبض عليك؟
هرب من عيني والدته التي تحاصره، فهو يعلم أنه لن يستطيع إخفاء الحقيقة عنها، دام صمته مما زاد من خوفها، أعادت عليه سؤالها مرة أخرى، وهي تمسكه من تلابيبه:
-ماذا حدث؟ أخبرني لِمَ كل هذا الصمت؟ أين كنت؟
ماذا فعلت؟
سقطت دموعه عنوة مما جعل الخوف يتملك قلبها
أكثر وأكثر فمنذ الصباح وقلبها ينبئها بأن مكروها
ما سيحدث، اجتمع كل مَنْ بالبيت على صوتها، وقد
حاصرته العيون المتسائلة، بلل شفتيه بلعابه، خرجت حروفه متقطعة بصوت خافت لم يسمعه سوى والدته:
-سـ سنية..
جحظت عيناها، شدت قبضتها عليها أكثر، وهي تسأله:
-ماذا حدث لها أخبرني؟ ماذا حدث لابنتي؟
-سنية قُتلت، وجدوها مقتولة داخل فيلتها ليلة
أمس..
-كاذب..
كلمة واحدة صرخت بها أمه في وجهه، قبل أن تسقط أرضا مغشيا عليها، فهرعت نحوها فاطمة تحاول
اللحاق برأسها قبل أن ترتطم بالأرض الصلدة، وهي
تصرخ في جزع:
-أمي..
اضطربت الأجواء، وعمَّ الهرجُ من حولها، هرولت أمل نحو المطبخ لإحضار كوب من الماء، بينما ابتسام
توجهت نحو غرفتها لإحضار عطر ذي رائحة نفَّاذة
ليساعدها على الإفاقة، أحضر والدها بصلة من
المطبخ كسرها إلى نصفين، حرَّك نصفها أمام أنفها ذهاباً واياباً عدة مرات، فتحت عيناها ببطء، مسكت
رأسها بيدها في إعياء.. سألتها فاطمة:
-هل أنتِ بخير؟ ماذا حدث؟
-أشعر بثقل في رأسي، والأرض تدور من حولي.
-ماذا قال لك صابر لتفقدي وعيكِ؟
حينها صرخت باسم ابنتها، ظلت تصرخ، وتلطم
وجهها على فِراق ابنتها.. حاولت فاطمة وصابر
منعها من ذلك، اهتزت قدما عثمان فسقط على
الأريكة الموجودة خلفه فور سماعه ما حدث، عمَّ
البكاء والصراخ أرجاء المنزل، أسرع جميع سكان
الحي لمعرفة سبب هذا العويل، وقد ظن البعض أن عثمان وافته المنية، بينما البعض الآخر تكهن أن
صابر يضرب إحدى شقيقاته.. لحظات قليلة وأصبحت
الشقة تكتظ بمَن فيها..
-ماذا حدث يا أم صابر؟
قالتها إحدى الجارات التي تقف بالشرفة المقابلة
لمنزلهم، أخرى دلفت إلى الداخل لمعرفة سبب
صراخ وعويل جارتها مع رجال الحي
-ماذا حدث يا صابر؟
قالها صاحب المقهى المقابل لمنزلهم:
-هل حدث شيء لعثمان؟ هل أصاب أخوتك أي مكروه؟ ماذا حدث؟ لِمَ لا تجيب؟ انطق.
أجابهم والدموع تتساقط من عينيه:
-سنية قُتلت..
وقع الخبر على مسامع الجميع كدانة مدفع أصابتهم جميعا بالصمم، رغم بعدها وهروبها إلا أن الجميع
حزن على ما أصابها؛ فهم مَن قاموا برعايتها حتى
وصلت لهذا العمر؛ طفولتها وشبابها كان بين أرجاء
هذا الحي وتحت رعاية ساكنيه، بكي والدها بشدة:
-أنا السبب، أنا مَن قتلتها، رفضي لها جعلها تغرق
في بحر الوحل حتى فقدت شبابها.
اقترب منه المعلم حسني رشوان صاحب المقهى
قائلاً:
-وحّد الله يا "صابر"؛ إنها إرادة الله؛ هذا عمرها؛ وقضاء الله.
أخذت جارتهم أطفال فاطمة إلى منزلها؛ لتبعدهم
عن أجواء الصراخ والعويل؛ فهم لازالوا صغارا وهذا
المنظر سوف يرعبهم.. افترشت أم صابر الأرض تندب حالها بعد فِراق ابنتها ومن حولها بناتها اللاتي شاركنها العويل على فِراق شقيقتهن..
-أريد ابنتي، أريد رؤيتها، أريد لمسها، أريد ضمها
وتوديعها..
-الجثة لازالت داخل المشرحة، هذا ما قاله الضابط.
وصل عمارة قسم الشرطة، لكنه لم يجد صابر، حاول
الاستفسار من الأمين سيد عن سبب القبض على صابر والإفراج عنه بهذه السرعة:
-لا أعرف، هناك أمر خطير الكل يتكتم عليه، صابر
حضر هنا للحظات، ثم غادر مع معاون المباحث، ولا
أعرف إلى أين ذهب.
عاد عمارة ليجد الحي كله يُخيم الحزن عليه، وخبر
وفاة سنية يتردد على ألسنة الجميع، ماتت محبوبته
وفتاة أحلامه، نظر حوله؛ فهو يشم عبيرها، ويرى
طيفها في كل مكان، هنا كانت تلعب، هناك كانت
تدرس، هنا شبَّت قامتُها، ونمت ثمارها التي تمنى
عمارة قطفها في يوم ما، سقطت دموعه أنهارا على فِراقها، أسرع نحو منزلها علَّه يراها للمرة الأخيرة،
لكنه لم يجدها، كان الجميع يبكي فِراقها، اقتربت
منه فاطمة فرسم اللامبالاة على وجهه؛ ليخفى
حزنه، سألها:
-ماذا حدث؟
أجابته بعيون باكية:
-سنية قُتلت في فيلتها.
احتضنها ليواسيها، وهو لا يعرف إن كان يواسي
حاله على فِراقها، أم يواسي زوجته سألها: أين هي
الآن؟ علينا أن نكرمها ونقوم بدفنها.
-لازالت داخل المشرحة، هذا ما قاله صابر.
تحجج بوجود عملٍ هام عليه أن ينهيه في الورشة
ليغادرهم، ترك لساقيه العنان لا يعرف أين وجهته،
هام كالمجذوب، سمع سبابا ولعناتٍ من أصحاب
السيارات التي مرَّ أمامها غير عابئ بحياته ولا حياة
الآخرين، حتى وجد نفسه أمام باب المشرحة حيث
جثمانها، وقف خارج بابها كحال العديد ممَن
ينتظرون استلام ذويهم مثله، وقف حائرا لا يدري بم يعلل لهم طلبه رؤيتها، حتى وجده أمامه فجأة يمر
وسط الجموع المتزاحمة، فصرخت أعماقه في دهشة، كيف نسى كاظم ابن خالته الذي يعمل حارسا
بالمشرحة، وسرعان ما هتف به بصوت عالٍ، قبل أن
يختفي وسط الموجودين:
-كاظم.. كاظم..
التفت نحوه شاب في منتصف الثلاثينات، يشبه نجوم السينما، طويل القامة، عيناه خضراوان، يحمل وجها طفوليا، مَن يراه لا يصدق أنه يعمل في مثل هذا
المكان الموحش، اقترب منه يضمه:
-كيف حالك يا عمارة؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟! هل خالتي بخير؟
بادله السلام مجيباً:
-كلنا بخير، أريد منك طلبا شخصيا، ولا أريد أن يعرف
به أي شخص.
-ما هو؟
-أريد دخول المشرحة، أنت الوحيد القادر على مساعدتي.
-ماذا حدث؟ من بالداخل تريد رؤيته، أخبرني؟
-سوف أخبرك، لكن عدني أن ما سأقوله سوف يظل سرا بيننا.
-أعدك.
-هل تتذكر الفتاة التي حكيت لك عنها، وأخبرتك
أنني أريد الزواج منها؟
-نعم، أتذكرها، إنها فاطمة زوجتك أليس كذلك؟
-لا، مَن أحببت كانت شقيقتها "سنية" التي هربت
وتركتني أبكي أطلالها لسنواتٍ وسنوات.. تزوجتُ
شقيقتها بدلا منها، وأخفيت وجعي بداخلي، في كل مرة كنت أرى صورتها تشتعل نيراني مجددا، وكأنها
تركتني بالأمس القريب..
-ما علاقة كل هذا بالمشرحة؟!
-مَن أحببتها بداخل المشرحة الآن..
وصمت للحظات ابتلع فيها ريقه، قبل أن يستطرد
قائلا بتوسل، وهو يلتقط من جيبه كل الأموال التي
معه، ويقدمها له:
-بحق الأخوة والصداقة التي تجمعنا يا كاظم، دعني
أراها للمرة الأخيرة.. خذ كل هذه النقود وادفع
لزملائك ما شئت، المهم أن تساعدني في رؤيتها..
أرجوك يا كاظم.. أرجوك..
تمزق قلب ابن خالته كاظم من أجله، فربت على كتفه مطمئنا إياه رغم علمه بصعوبة الأمر؛ لعدم وجود صلة قرابة رسمية، قبل أن يتحرك صوب صديقه الجالس
على باب المشرحة، ووضع بين يديه بعض الورقات
النقدية المخفية داخل علبة سجائر، ثم همس له بما يريد.. نظر صديقه حوله مرات في توتر، قبل أن يهتف بكاظم قائلا بصوت خافت، وهو يخفي بجيبه علبة
السجائر:
-خمس دقائق فقط.
شكره كاظم، وأشار بيده لعمارة الذي كان ينتظره
على بعد خطوات منهما..
وقف أمام بابها الضخم ذي اللون الأسود يقدم خطوة ويؤخر أخرى، ما إن وطأ بقدميه أرضها حتى شعر
برهبة وقشعريرة تسري بكامل جسده، خطا بضع
خطوات داخل ذلك الممر إلى أن وصل أمام الباب،
طرق كاظم الباب ثلاث مرات، ثم دخل يلقي السلام،
نظر له عمارة بعدم فهم قائلاً:
-ماذا تفعل؟ إنهم أموات!
-للمشرحة طقوس لابد من اتباعها؛ حتى لا تصيبك
لعنتها.
-ما هذه الألغاز؟
-سوف أخبرك بكل شيء فيما بعد، الآن أخبرني عن اسم شقيقة زوجتك سريعا.
-اسمها الحقيقي أم اسم الشهرة.
-الاثنان.
-سنية عثمان، وشهرتها سوزي سالم.
فغر كاظم فاهه حينما سمع اسمها، وراح يردد في ذهول:
-هل أنت متأكد؟
-وهل هذا وقت المزاح؟!
بحث داخل السجل الموضوع بجانب الثلاجة الكبيرة
على رقم الدرج الموجودة بداخلها، ما إن فتح الدرج
المنشود حتى امتلأت الغرفة ببرودة تقشعر لها
الأبدان، فضم طرفي الجاكت الذي يرتديه ليحمي
جسده من تلك البرودة التي تُغلف الغرفة، في نفس
اللحظة التي كشف فيها كاظم عن وجهها ليسمح
له برؤيتها..
اقترب عمارة نحوه بأقدام متخبطة:
-انظر يا كاظم.. هي نائمة، لم تضعها هنا؟ لابد أنها تشعر بالبرد..
خلع عنه سترته ليضعها عليها، ربت كاظم على كتفه:
-عمارة هي ميته الآن، عليك الاقتناع بهذا الأمر.
-لا، أنت تكذب، انظر إلى وجهها لازال مشرقا برغم
البرودة التي تحيط بها..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي