الفصل الرابع

أريد إجراء حوار صحفي عن سوزي؛ لأنها فازت بجائزة الدولة، وبالطبع سوف أضع اسمك وصورتك بجوار
الخبر.
فرح كثيرا عندما سمع كلام عصام؛ لذا أحضر له فنجانا من القهوة، ثم بدأ يقص ما يعرفه عن سوزي: والدها كان عاملا بمصلحة البريد، والآن هو على المعاش،
والدتها وشقيقتها تعملان في مساعدة سيدات الحي والأحياء المجاورة في نظافة منازلهن، الشيخ صابر
بعدما تخرج من المعهد حاول البحث عن عمل، لكنه لم يوفق، بعدها التف حوله بعض الرجال من مدعي
الدين فتحول من صابر إلى الشيخ صابر.
-هل لديها أشقاء أو شقيقات آخرين؟
-لديها شقيقتان، الأولى تدرس بالجامعة، والثانية تدرس بالمدرسة الثانوية.
-متى هربت سوزي من هنا؟
-منذ عدة سنوات قبل زفافها بأسبوع.
-هل كانت مخطوبة؟
-نعم، كانت مخطوبة للمعلم عمارة النجار، لكنها هربت قبل الزفاف، لذا قام والدها بزواج شقيقتها لعمارة بدلا منها.
-وهل وافق عمارة؟
-بالتأكيد، وتم الزواج.
-أين أجد عمارة هذا؟
-الورشة الخاصة به على بعد شارعين من هنا.
شكره عصام، ثم غادر لمقابلة عمارة.
داخل قسم الشرطة وُضع صابر بإحدى الغرف دون أن يعلم سبب القبض عليه، انزوى بجانب الحائط متخذا وضعية القرفصاء، وقد ضمَّ ركبتيه إلى صدره، بينما
كانت عيناه الحائرتان تتابعان الوجوه المحيطة به
في توتر..
دلف محمد إلى مكتب آسر ليخبره أنه أحضر صابر،
لكنه وجده مشغولا بالتحقيق مع فتاة، جلس بالقرب من الباب يتابع ما يحدث عله يعرف مَن هذه الفتاة
المرتجفة، كانت طوال الوقت تفرك كفيها ببعضهما البعض، زاد ارتباكها حينما ذكر آسر أمامها اسم
سوزي، إذا هي مساعدتها الني أخبرني عنها
الحارس، قالها محمد لنفسه، بينما سألها آسر: منذ
متى وأنت تعملين مع القتيلة؟ وهل توجد معرفة
سابقة بينكما؟
-أعمل معها منذ أول يوم لها، لا توجد علاقة سابقة
بيننا، بدأت معرفتي بها عندما تقدمنا إلى مكتب إنتاج إعلامي للظهور في إعلان.
-ماذا حدث بعد ذلك؟
-في بادئ الأمر المخرج اقتنع جدا بموهبتي، وأنني
الأصلح لهذا الإعلان، وصلت منزلي والسعادة تحلق
حولي، كنت أصارع الوقت حتى يأتي الصباح وأوقع
عقد أول إعلان لي، لكن عندما ذهبت إلى المكتب في الصباح وجدت كل شيء تبدل، وتم اختيار سوزي بدلا عني، وأيضاً المنتج قام بتغيير المخرج، هدمت أحلامي في لحظة أمام عيني، اسودت الدنيا بمقلتيّ، خرجت
أجرُّ أذيال الخيبة لكن سوزي هرولت خلفي، وطلبت مني العمل معها وألا أيأس، وأنها سوف تجعلني
أعمل بإعلان آخر، ومن هنا بدأت علاقتنا.
نظر لها آسر بعيون متفحصة: ألم يسبب هذا الموقف بغضا بداخلك نحوها؟
زاغت عيناها، لعقت شفتيها، ثم أجابت:
-لا، فهذا قدري، منذ ولدت كل ما أتمناه لا يتحقق، ثم أنها جعلتني مساعدتها، وأيضاً رشحتني للعمل
ببعض الأعمال التي قامت بتمثيلها.
-هل تعرفين فايز الألفي؟
-بالتأكيد فهو منتج معروف ورجل أعمال مشهور.
-ما علاقة سوزي به؟
-كانت تعمل معه، وتزوجا لفترة، ثم قررا الانفصال.
-هل تم الانفصال بالتراضي؟ أم حدثت مشاكل بينهما؟
-لم تحدث أي مشاكل، وهما كانا على وفاق.
حاول محمد مقاطعتها وتكذيبها إلا أن آسر أشار له
بالهدوء، ثم حول كلامه لها مرة أخرى:
-شكرا نرجس، لا داعي للسفر أو مغادرة البلاد لحين
انتهاء التحقيق؛ قد نحتاج لكِ مرة أخرى.
-حاضر.
قالتها، وخرجت من الباب، وعلى ثغرها ابتسامة نصر، اتصلت برقم مسجل بهاتفها:
-لا داعي للخوف، لقد أخبرته كما اتفقنا. ثم أنهت
المكالمة.
-إنها تكذب.
-أعرف.
-إذا لمَ تركتها تغادر؟
-لأنه لا يوجد إثبات واضح على كذبها، والمحكمة دائما تعترف بالأدلة المادية وليس بالإحساس.. أريد منك إرسال أحد رجالك لمراقبتها جيدا.
-حاضر.
-هل أحضرت شقيق سوزي؟
-أجل، إنه داخل الغرفة الأخرى في انتظار معرفة ما جرمه.
-أحضره إلىَّ هنا؛ حتى نسمع ما لديه.
دقائق وعاد محمد ومعه صابر، لم يختلف لون وجهه عن لون جلبابه المصفر، وقف أمام آسر مستفسرا عن تهمته فإن كان الدين تهمة أو الصلاة في المسجد
تهمة فإذا الجميع متهمون.
-ما علاقتك بسوزي سالم؟
قالها آسر منهيًا هذا العبث الذي يلفظ به ذلك
الماثل أمامه، هذه الطائفة سممت العديد من العقول بهذه الاتهامات الملفقة، وأن الشرطة تكره مَن
يتبعون الدين بينما الحقيقة هم لا يعرفون الدين بل يتخذونه ستارا للتستر على جرائمهم وتجاوزاتهم..
-لا أعرف أحد بهذا الاسم.
-كيف ذلك؟ جميع الأدلة والسجلات تثبت أنها شقيقتك.
-شقيقتي تدعى سنية، وتوفيت منذ هربت من منزلنا.
-إذا لمَ ذهبت إلى فيلتها وقمت بالتعدي عليها؟
حاول الإنكار إلا أن آسر بتر حجته مسبقاً: يوجد شهود على كلامي، فلا تحاول الإنكار.
ازدرد لعابه قائلاً:
-ما حدث كان خوفا عليها؛ فهي تركت المنزل،
وارتمت بين أحضان مجتمع لا يشبهنا، بين ليلة
وضحاها جرى المال بين يديها بدون حساب، لا أعلم ما تنازلت عنه لتحصل على كل هذه الأموال، خلال مدة قصيرة أصبح لديها سيارة وفيلا وأموال لا حصر لها، كل هذا أثار الريبة داخلي، ودفعني للذهاب لها وسؤالها عن مصدره، لكنها أهانتني..
-لذا قتلتها انتقاما منها على إهانتك.
نزلت كلماته كصاعقة ضربت كيانه
-ما الذي تقوله؟
-أراك تدعي الجهل وعدم المعرفة، سوزي وجدت
داخل فيلتها غارقة في دمائها بسبب طلق ناري.
ظلَّ يُقسم أنه لا يكن لشقيقته سوى كل خير، وأنها مهما حدث منها تظل في النهاية شقيقته بل ابنته؛ فهو مَن قام برعايتها طوال سنوات عمل والده وشقائه، خرجت حروفه ممزوجة بدموع الحسرة على ما أصابها: أين هي الآن؟ هل أستطيع رؤيتها؟
-الجثة لازالت داخل المشرحة، فور الانتهاء من تشريحها وصدور تقرير الطب الشرعي تستطيع استلام الجثمان.
خرَّ أرضًا باكياً على ما آلت إليه شقيقته؛ فلطالما
خشى عليها من هذا الطريق، لكنها لم تستمع
لكلامه.
لم يجد آسر ما يُدين صابر، ولا أي إثبات على تورطه
في قتل شقيقته؛ لذا سمح له بالمغادرة بعد أن أخبره بعدم السفر أو مغادرة البلاد لحين إنهاء التحقيق..
فور خروجه أمر رجاله بوضعه تحت المراقبة لحين
العثور على الجاني.
دقات على باب المكتب تبعها صوت آسر بالسماح لمَن بالخارج للدخول، دلف أحد العساكر يحمل بيده مظروفا لونه أبيض عليه شمع باللون الأحمر.
-تقرير الطبيب الشرعي يا سيدي.

أمام ورشة عمارة وقف عصام يتابع العاملين بداخلها؛ عله يجد ضالته، مرَّ بجانبه طفل يتجه صوب الورشة لم يتعدَ الخمس سنوات من العمر، يرتدي ملابس أكبر من حجمه، وكأنها ملك لشقيقه الأكبر، كان ينادي:
أبي، جدي عثمان يريدك.
خرج من داخل الورشة رجل في أواخر الأربعينات، متوسط القامة يزك بقدمه اليسرى قليلا، ملامحه مغطاه بغبار الأخشاب التي يعمل بها، ردَّ على الصغير قائلاً:
-ماذا يريد يا عامر؟
-لا أعرف، هو يريدك فقط.
ذهبا معا نحو منزل حماه، اقترب عصام من الورشة
يسأل أحد العاملين بها عن رب عمله:
-المعلم عمارة رجل طيب يحب عمله، يعتبره الزبائن
فنانا في مجاله، يطلبه العديد من أصحاب المنازل الكبيرة لتشطيب بيوتهم، لكن ما سبب السؤال؟ هل تريده في عمل ما؟
-بالتأكيد، فأنا سألت العديد من أصدقائي، وجميعهم قاموا بترشيحه لي لتشطيب نجارة منزلي وعمل بعض قطع الأثاث.
-انتظره، فهو سوف يعود سريعا.
-سوف أمر عليه في وقت لاحق؛ لأن لديَّ موعد هام تذكرته.
غادر عصام ذلك الحي متجها نحو الجريدة التي يعمل بها لتغطية هذا الحادث مع رئيس التحرير.
ما إن وصل عمارة إلى منزل والد زوجته؛ ليعرف سبب استدعائه له حتى ملأت رائحة الرطوبة رئتيه، نزل درجتين وصولا إلى باب الشقة التي كره قاطنيها، في كل مرة يقوم حماه باستدعائه تكون هناك مشكلة أو كارثة، ترى هل زوجته تحمل طفلا جديدا ويريد إخباره بهذا الأمر؛ فهي تظن أن كثرة الأطفال رباط للرجل، أم أن ابنه افتعل مشكلة جديدة، ويريد منه أن يضمنه بالقسم وإخراجه منه، مرَّ أمامه شريط ارتباطه بهذه العائلة بداية بسنية وحبه لها، ونهاية بزواجه من شقيقتها وإنجابها منه أربعة أطفال..
في كل ليلة يتخيلها إلى جواره عوضا عن زوجته، جميع أفلامها يحفظها عن ظهر قلب، لطالما تخيَّل نفسه جوارها يتمتع بذلك القوام الثعباني الذي يلهب جسده كلما تخيله
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي