11111111111111

- عمر، أنت هنا، ألمَّ تعلم بما حدث مع أخيك؟
عمر في قلق:
- ماذا حدث معه يا سمير؟، والله جسدي انتفض من الخوف، هل أن مكروهًا ما أصابه لا سمح الله؟
أخذه سمير إلى مركز الشرطة، وفي الطريق إلى هناك أخبر عمر الحكاية بأكملها، ليهز عمر رأسه في نفي قائلًا:
- لا، والله لا أخي برئ يا سمير، أقسم لك بأنه لا يمكنه فعل ذلك، فهو لا يؤذي صرصورًا حتى، فكيف بإنسان وامرأة أيضًا؟، لا يا سمير، هذا ليس بحقيقة والله.
سمير في استياء:
- والله يا أخي، لا أعرف بمَّ أُخبرك؟، فحين سمعت بالخبر، طرت إليك لأبلغك، أعلم بأن وقع الأمر عليك قاسيًا، ولكن كيف سيكون حاله هو؟، كان الله في عونه يارب.
يدلف إلى داخل الغرفة، بعد ما أخذ العسكري الإذن من المحقق بالداخل، ليرتمي في أحضان أخيه قائلًا:
- ما الذي حدث يا حسين؟، ولمَّ أحضروك إلى هنا؟
تنفرج أسارير حسين، ويشعر بالارتياح عند رؤية أخيه، فالمرء يطمئن في حضرة عائلته، ويستقوى بها في الأزمات والنكبات، يجلس أخيه بجواره؛ ليسمع الحكاية من صاحبها.
في المستشفى
يدخل إبراهيم الغرفة، فلا تشعر بقدومه نور، يجدها شاردة، تنظر إلى المرآة في حزن، وانفلتت بعض العبرات سهوًا من عينيها، ليمسحها عن وجنتيها إبراهيم في حب، وهو يسألها في نبرة حنان مُغلفة بالخوف:
- ما بك يا نور؟، هل هناك شيء يؤلمك؟
فتبادره نور بسؤال آخر، فهي لم تنتبه لسؤاله، بدا على وجهه علامات الذهول عند سماعه، إلا أنه ما لبث أن ابتسم لها، يُجيبها في لؤم قائلًا:
- يبدو بأنك تفتقدين ذلك اليوم، الذي جمعني فيه أول لقاء بكِ، ومما أرى بأن ذكرياتنا اليوم في ذهنك حاضرة، فدعيني أطرق على الحديد وهو ساخن كما يقولون، وعودي معي بضع سنوات ماضية حيث اتقدت شرارة الحب بيننا، ودعيني أتولى ذلك الأمر عن ذاكرتك، واستمعي إلي بآذان صاغية.
- ـ حين وقع نظري عليكِ كنتِ كالملاك الصغير الذي يبكي لفراق أمه، تُغرق وجنتيك الدموع، ولا تكف العبرات عن التدفق من بين عينيك، وتوقفك الشهقات فلا تخرج الكلمات من بين شفتيك بشكل جيد، لم يستطع أحد وقتها الفهم عليكِ، تحملين كائنك الصغير بين أناملك الرقيقة، وتحتضنيها بكفوف يديك، تضمينها إلى صدرك، وتخفينها عن عيون الجميع، وكأنهم سيلحقون بها الأذى و...
- حتى ظهرت أنت.
قامت بمقاطعته، ليضحك منها، ويكمل في لؤم قائلًا:
- يبدو بأن الشعور كان متبادلًا منذ اللحظة الأولى.
ثم نظر في عينيها، وهو يقول:
- معك حق، لم تستطيعين النجاة بين أمواج عيني، فأبحرت بسفينتك، تحتلين قلبي من أوسع الأبواب، وتُصبح كل نبضاته باسمك.
فوكزته نور في ذراعه؛ ليتوقف، وتولت عنه الحديث، وهنا لم يُخف عليه مسحة الحزن التي علت قسمات وجهها، وبدت جلية في نبرة صوتها:
- كانت هذه المرة الثانية لننتقل، أصبح الانتقال أمر وارد علينا، لا نستقر في مكان واحد، ما بين سوء معاملة أصحاب البيت وقصر ذات اليد لدينا، كانت عندنا خالتي ومعها حفيدها الصغير، وكانت لوزة تسير ببطء كعادتها، ومر هو جوارها، فحين رآها، قام بحملها، وأخذ يضربها دون رحمة في الجدار حتى كُسرت صدفتها، ونُزف منها الدماء.
- كل هذا البكاء لأجل سلحفاة!
- بالطبع نعم، أ ليست بكائن حي هي؟، ولديها روح تسري بين جنباتها.
عادت إليها تلك اللحظة، فلم تلبث العبرات أن تدفقت من عينها، وهي تتذكر ردود الأفعال المختلفة وقتها ما بين تعاطف وسخرية، وكلمات قاسية أُلقيت على مسامعها دون رحمة، وخاصةً من عائلة خالتها، تقول لها ابنتها:
- تُكبرين الموضوع يا نور، حرام والله كل هذه العبرات التي تهدرينها، لا تستحق والله هذا العناء، دعيها لتموت، والولد صغير لا يفهم شيئًا.
نظرت لها نور في استنكار، ورغم محاولة الشهقات أن تُوقفها، أصرت أن تعطيها درسًا قائلة:
- أ لي س ت هي برو وح، وسنُحا سب علي يها؟، هل انعد مت الر حم ة من قل بك؟
خرجت الكلمات مقطعة بهذا الشكل بفضل البكاء، إلا أنها رغم ذلك كانت مفهومة، لتأخذ خالتها الصغير وتُغادر مسرعة، ولم تكن نور حاضرة وقتها، قالت الكلمات ورحلت قبل أن تُبدي الأخرى ردة فعلها، تهيم في الشوارع على وجهها، تركض مسرعة نحو المكان المقصود، وحين وصلته إليه بعد عناء حيث سقطت أكثر من مرة على وجهها، وخُدشت جبهتها، فلم تُبال بأمر جرحها، تستغيث أمام باب الرعاية أملًا في إيجاد طبيب بسرعة، نظرات استنكار تُصوب نحوها من البعض، لم تكن بحالة جيدة، من يراها يُخيل إليه بأنها فقدت عقلها أو أصابها ضرب من الجنون، تبكي بحرقة على صغيرتها، ليخرج لها إبراهيم من بينهم، ويأخذ بيديها، يُساعدها للوصول إلى أحد الأطباء، وكأن الله قد أرسله إليها في الوقت المناسب.
- لو سمحت يا أخي أين السيدة التي أحضروها بالأمس إلى هنا؟
أحدهم يسأل في الخارج عن سهيلة في قلق، ترك عمر أخيه، وذهب إلى المستشفى للاطمئنان على المرأة التي ألصقوا به الأذى الذي لحق بها، وهو واثق بأنه ادعاء كاذب، وأنها من ستتفوه بالحقيقة، ولكن ضربته الحياة في قسوة، تعصف باستقرارهم؛ ينقلب رأسًا على عقب، فلا تهدأ أحوالهم.
تبكي السيدة كريمة في استنكار قائلة:
- فقدت الذاكرة!، غير معقول، لا يسع عقلي التصديق، ولا يحتمل عقلي كل هذه الأحداث السيئة، رحمتك يا الله.
- فقدان الذاكرة، وكيف حدث ذلك؟
يسأل عمر الطبيب في استياء، فقد كانت سهيلة هي مفتاح الأمل الذي سيفتح باب الأسر لأخيه، تأخذه الحياة دون استئذان بعيدًا عن عائلته؛ ليُحرم صغاره منه بهذا الشكل، إلا أنه كان متفائلًا، هو الوحيد الذي لم تنعكس في عينيه أو خرجت من شفتيه أي كلمات يأس، يقول لعُمر في رضا:
- لا تحزن يا أخي، قدر الله وما شاء فعل، وهذه هي إرادة الله، ولعل في الأمر حكمة، وأعلم بأن الله لن يتخلى عني.
ليربت الآخر على كتفه، وهو يقول له في حزن:
- لطف الله بمصابك يا أخي، وكن على ثقة بأنني لن أهدأ حتى أُخرجك من هنا.
- لست بقلق يا حبيبي، قدر الله وما شاء فعل، لن أوصيك على زوجتي والأولاد، هم الآن أصبحوا في رعايتك، وإن حدث م...
يضع يديه على فاهه، يُقاطعه قبل أن يُكمل، ويطمأنه قائلًا:
- ستعود والله إلى بيتك سالمًا، ستمر هذه الشدة كغيرها، لن تدوم والله، وأعدك بذلك يا أخي.
يقبع عمر أمام غرفة تلك السيدة، لا يُفارقها إلا في ساعات معدودة، يطمئن فيها على عائلة أخيه، ويُحضر لهم احتياجاتهم، يقوم بدوره دون أي تقصير، ولا تجد منه زوجة أخيه تذمرًا أو شكوى قط، تصبح الأيام أسابيعًا، والأسابيع شهورًا، وما زلت على نفس حالتها، لا تتذكر شيئًا، ولأهميتها في قضية أخيه، تولى كافة مصاريفها، ورجا الأطباء؛ كي لا يُخرجوها من المستشفى، فبقيت جوار عائلتها التي تبدل حالها هي الأخرى.
في الشركة ...
يرن هاتفه دون توقف، فيترك الملفات من يديه، ويُجيب على الاتصال بكل حب قائلًا:
- أين أنتِ؟، ولمَّ لم تُجيبي على اتصالي في الصباح؟
- كنت منشغلة يا إبراهيم والله، فأنت تعلم بأنني أصبحت أعمل صباحًا ومساءً.
تنهد إبراهيم، وزفر في ضيق، وهو يُجيبها قائلًا:
- نعم، أعلم ذلك، ويا ليت بإمكاني تغيير ذلك، ولكن ماذا أفعل في تلك الرأس المتحجرة التي يوجد بها عقلك اليابس.
سحر في مزح:
- يبدو بأنك تُحبني هذا الأمر زيادة، فما هذا الغزل الذي تقوله؟
إبراهيم في ضيق:
- ليس بغزل والله؛ بل لوم، فأنت تعلمين بأنني لا أرتاح لهذا الشخص الذي تعملين لديه.
- عدم ارتياح أم غيرة؟
تسأله نور، والضحكات تعلو ثغرها، ليُجيب في استياء قائلًا:
- ما دمت تعلمين، لمَّ لا تُريحين قلبي؟، ذلك الشخص يحمل لك شيئًا، ولا أستطيع حقًا تخيله.
- لا تقلق يا إبراهيم، فأنت تعلم من الذي يسكن قلبي، ولولا حاجتي والله ما اشتغلته، أبي لو علم لمَّا قبل بالأمر قط.
- إذن سأخبره.
قالها إبراهيم في لؤم، لتقول نور في حزن:
- لا يا إبراهيم، أعلم بأنك لن تفعلها، أبي سيحزن للغاية، ولم نكد نفرح بعد بتحسن حالته.
استفاق الأستاذ محمد من غيبوبته بعد زيارتها، وكأنه كان يسمعها أم أن هناك أمرًا ما لا بد أن يفعله، لتهدأ حالة زوجته هي الأخرى، تلازمه في كل حركة وسكنة، لا تبتعد عنه قط، تخشى عليه كثيرًا، لم تتحسن حالته كليةً، وعادت هموم الحياة إلى تفكيرها ثانية، فمن أين ستأتي بالمال لأجل العلاج وما يحتاجه الأطباء، وذلك الإيجار من الذي سيدفعه؟، تكالبت عليها الأمور من كل حدب وصوب، لا ترحمها، تحمل بين يديها صغيرتها هدى، ويجلس قبالتها العم قدري، الذي أكد لهم بأن العلاقات لا تكون بالدم فقط، فذلك الشخص الذي رباه كان أفضل بكثير من إخوته الذين حمل معهم نفس الدم، وخرجوا من الرحم ذاته، فماتت كمدًا من أنجبتهم بفعل زوجة أخيهم، ووقفوا يُشاهدون في صمت، لم يُحرك أحدهم ساكنًا، يصغرهم فتحي الذي تُلقبه بالسيد سنًا، إلا أن قسوته وسلاطة لسانه وبزاءة ما يتفوه به، كانت أكبر بكثير من عمره، فلا يجد من بينهم رادعًا، ولسوء الحظ كان أخيه أحمد شيخًا وإمامًا في أحد الجوامع، ليوقفه أحد الجيران عند علمه بما حدث قائلًا:
- أ ليس الساكت عن الحق شيطان أخرس يا مولانا، أم أن هذه القاعدة تقولها لنا ولا تُطبقها؟
تتكدر ملامح وجهه، ويعود إلى بيته مهمومًا دون أن يُجيبه، فهو حقًا لا يعلم ماذا سيقول؟، فهذا الشخص لم يقل سوى الحقيقة، ويا له من واقع آسيف ذلك الذي آلت إليه أحوال العائلة منذ قدوم هذه السيدة، لم يروا من محمد الشر قط، لتقطع عليه زوجته التفكير قائلة:
- ما بك يا مولانا؟، ولمَّ أنت حزين هكذا؟
- لا شيء أبدًا يا سعاد، تُزعجني فقط بعض الأمور المستعصية.
سعاد في استنكار:
- خير يا شيخنا، فهل من المعقول بأن هناك ما يقف أمامك؟، فأنت خير فقيه في كل الأمور.
الشيخ أحمد في ألم:
- نعم، يا سعاد، هناك أمرًا يُعكر حياتنا، فكيف ننعم وأخي في المستشفى، تسوء حالته، ولا يجد منهم مساعدةً أو سؤالًا، وقبل كل ذلك عونًا ووقوفًا إلى جانب الحق، فأين ذهبت ضمائرنا؟
تضم سعاد يديها على فمه، وتهمس له في خوف قائلة:
- بالله عليك لا تُكرر ذلك ثانية، ولا تقول شيئًا، فلا دخل لنا في ذلك، صراعه مع محمد، فلمَّ نُدخل أنفسنا في الأمر، ونجلب الضرر إلى حياتنا.
الشيخ أحمد في آسف:
- وهل حقا لم يُصيبنا؟، فهل بعد موت ضمائرنا وسكوتنا عن الحق من شيء؟، يا ليتني مُت، ولم أسكت عن هذا الظلم لحظة واحدة.
قذفها بكلماته، ثم تركها، ورحل مسرعًا، لا ينتظر منها ردًا، فقد وصلته وجهة نظرها، ويبدو بأنها خائفة، وكيف لا تكون كذلك وزوجها مسلوب الإرادة، يسكت أمام ظلم أخيه، ويعمي الخوف ناظره، فلا يُشكل وجوده فارقًا، أين هي المواد التي تعلمها؟، أين نتاج دراسته؟، كيف لم تقف بينه وبين حب النفس التي بين جنباته، فعَّلام يخشى وهو راحل؟، وكلنا إلى التراب نعود، فلمَّ يُضحي بآخرته هكذا، وخاصة وهو يعلم، سيكون جزائه مضاعفًا، وإن نزل العقاب لن يستحق نظرة عطف أو يقف دونه، فالصالح وسط الفاسدون أفسد منهم، لم يحاول إرشادهم أو على الحق يُعينهم.
يسير الشيخ أحمد على وجهه في الطرقات، لا يجد مكانًا يسعه، وشعر بأنه مطرودًا من رحمة الله، لتضيق عليه الأركان بما رحبت، فلا يجرأ على الاقتراب من المسجد الذي هو عالمه، حيث تبدأ حياته هناك، وتنتهي منه، فكيف يتحدث مع الناس عن أمور، هو نفسه لا يعملها؟، فأخذته قدماه إلى هناك، تهتدى روحه إلى الطريق الصحيح قبل أن تفارقه، يطرق على الباب بوجل، وما أن يُفتح، يرتمي تحت قدمي أخيه، يرجوه من بين دموعه أن يغفر له قائلًا:
- سامحني يا أخي أرجوك، فوالله لا أعلم ما الذي أصابني؟، أغشيت عيناي كليةً، فرضيت بالظلم وأنا الذي أُجاهد الناس للوقوف في وجهه، فكيف أقول ذلك، وأنا نفسي أفعله؟
يبكي محمد مع أخيه، ويصبح في خفة الطير، فقد قُرت عينيه عند رؤيته، ويبدو بأن الحكاية ستأخذ منحنى آخر، لم يكن في حسبان أي من أبطالها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي