الفصل الثالث

عندما سمعت ريم الخبر اختل توازنها، وكادت تسقط أرضاً، إلا أن آسر حماها من السقوط، ليجلسها على
أقرب كرسي، رغرغت عيناها بالدموع حزناً على وفاة سوزي.
-كيف حدث هذا؟ مَن الفاعل؟ ما الجرم الصادر منها
لتلاقي حتفها مقابله؟
حاول آسر تهدئتها؛ خوفاً على صحتها وصحة الجنين، وراح يردد بقلق: اهدئي حبيبتي إنها إرادة الله.
-يَجِب أن تلقي القبض على الجاني من أجلي.
-لا تقلقي حبيبتي، محمد سوف يقبض على الجاني
من أجلك.
اندهشت وعَلَا حاجبها من جواب آسر!
-ماذا تعني بحديثك؟ هل ستترك الجاني يهرب
بفعلته بلا عقاب؟
-آسر قرر تقديم طلب نقل لإدارة أخرى فور انتهاء
الإجازة؛ حتى يستطيع أن يصبح دائماً بجوارك.
قالها محمد، وهو ينظر نحوهما، في حين هتفت ريم بدهشة واستنكار: هل هذا صحيح يا آسر؟ مَنْ طلب
منك هذا؟ هل تظن أنني طفلة لا تقوى على حماية ورعاية طفلها؟ أنا أرفض هذا القرار.

غادرت الغرفة، وتركتهما وهي تتحدث بكلمات غير مفهومة؛ نظر محمد لآسر ليسأله عن قراره، ألا أنه
أشاح بنظره بعيداً متجاهلاً نظراته.
-تأخر الوقت، الساعة تجاوزت الواحدة صباحاً، اخلد للنوم الآن، وغداً سوف أخبرك بقراري، أرجو لك أحلاما سعيدة، تصبح بخير.
ظل آسر يفكر إلى أن اهتدى لقرار، قرر أن يبلغه لهما في الصباح الباكر.

في الصباح الباكر جلس ثلاثتهم لتناول وجبة الفطور، أعدت ريم الطاولة بوجه عابس، داعب آسر أرنبة أنفها، وهتف مازحا: العبس لا يليق بكِ، فهذا الوجه
الملائكي خُلق للابتسام فقط.
حاولت الاعتراض ومناقشته إلا أنه همس بأذنها
بكلمات جعلتها تحتضنه بشدة، ثم توجهت إلى
غرفتها، وعادت تحمل معها صندوقا خاصا بها.
جلست متكئة على الأريكة، وقامت بتفريغ محتويات الصندوق الذي يحتوي على العديد من الصور الخاصة بها، ومنها صور جمعتها مع الفنانة سوزي سالم..
نظر محمد لآسر بغير فهمٍ فأومأ له أن انتظر قليلا،
لتبدأ ريم بقص ما تعرفه عن سوزي:
-هذه الصورة جمعتني معها في حفل أقيم منذ
عامين بإحدى الحفلات الخيرية قبل زواجنا، كانت
يومها محط أنظار الجميع دخلت متأبطة ذراع زوجها رجل الأعمال الشهير فايز الألفي في زهو وتفاخر كطاووس فرح بألوان ريشه، فجال بين الحضور يتفاخر بها، وبجمالها الأخَّاذ، كانت تعلم مدى غيرته، وبالرغم من ذلك تجاهلت جميع نظراته المحذرة، ظلت ترقص مع كل من طلب يدها للرقص من الحضور، التقطت
الصور التذكارية مع الجميع؛ كانت عيونه تطلق شزراً نحوها، لكنها كانت سيدة قوية، كانت ضحكاتها
المجلجلة تجعله يستشيط غضباً، لدرجة أنه تقدم
نحوها، وقام بجذبها من ذراعها، ونهرها على
أفعالها، ثم صفعها، وغادر الحفل، ولم يهز كل ما
حدث ثقتها، بل أكملت حفلها بدون أي اعتبار
لغضبه أو مغادرته، استمر الحفل إلى الساعة الرابعة فجرًا وقتها قامت هنادي بإيصالها فقد تركتهم
وغادرت في تمام الساعة الحادية عشر، في اليوم التالي أخبرتني هنادي أنها قامت بإيصالها لتجد فايز
يجلس في انتظارها، وعلامات الغضب ترتسم على
ملامحه.
حمل آسر الصورة ليتمعن بملامح فايز، فبرغم كبر سنه إلا أنه يمتلك جسدا رياضيا كشاب في العشرين من
عمره، سأله محمد:
-كيف يحتفظ بشبابه هكذا فلا أثر للزمن على ملامحه؟
-إنه سحر المال يا صديقي.
قالها آسر، وهو يطلب من زوجته إكمال ما تعرفه عن سوزي، فاستطردت متابعة حديثها:
-بعد هذه الحفلة استمرت الخلافات بينها وبين فايز؛ فهي لطالما كرهت القيود وما فعله كان أمرا
محظورا بالنسبة لها، فقد تطاول عليها بالضرب
وقام
بإهانتها في أكثر من حفلة حتى قامت بطلب الطلاق والانفصال عنه.
تمعن آسر بالصورة، وهو يسأل نفسه: ما قصتك يا
فايز؟ ولمَ تزوجتها برغم أن فارق العمر بينكما كبير؟
غادوا معا إلى القاهرة، أثناء الطريق أخبره محمد
بكل التفاصيل التي عرفها عن الحادثة، استمع له آسر بانتباه، وكأنه يسجل كل معلومة ويقوم بتحليلها،
اتصل بوالدة زوجته ليطلب منها مرافقة ريم والمكوث معها لحين عودته، ردت ريم:
-لمَ كل هذا القلق؟ أنا بخير، وأستطيع العناية بحالي وبطفلي جيدا.
-أعلم ذلك، ولكن دعيها تأتي لكِ ليطمئن قلبي،
وأتابع عملي ببالٍ صافٍ.
ردَّ محمد: آسر معه حق؛ فلابد من وجود أي شخص
بجانبك، من رأيي اطلبي من هنادي مرافقك، وأنا
سوف أعمل على مرافقتك معها، وآسر يتولى
القضية؛ فهو كفء ويستطيع حلها وحده.
ضحكا على تعلق محمد بهنادي الذي لا يعرف عنها شيئا سوى صورتها واسمها الأول فقط ،وكل هذا
من ساعة واحدة فقط.. بدا على ملامح محمد الغضب بسبب ضحكاتهما، لكزت ريم آسر حتى يصمت، فكتم ضحكاته بصعوبة لدرجة أن وجهه اختنق وتحول
كالبندورة، سعل على إثرها عدة مرات، ظل وجه محمد عابسا طوال الطريق، بعدما فشلت كافة محاولات
ريم لجعله يبتسم، بعد عدة ساعات وصلوا إلى منزل
آسر، تركتهم ريم وصعدت بينما اتجها معا إلى قسم الشرطة لمتابعة القضية..
قرأ آسر أقوال الحارسين، وجه كلماته إلى محمد،
بينما يتابع قراءة المتبقي من المحضر:
-أريد نرجس وشقيق القتيلة، اطلب من المعمل الجنائي تسريع إخراج التقرير.
-تمام.
خرج محمد ومعه قوة لإحضار شقيق سوزي، بينما فؤاد خرج لإحضار نرجس كما طلب آسر..
داخل أحد الأحياء الشعبية وقف محمد يتابع أصابع
الفتي الصغير، وهو يشير نحو منزل يقع بنهاية
الشارع على اليسار: هذا والده الذي يجلس أمام
الباب.
قالها ثم غادر لمتابعة اللعب بالكرة مع أقرانه، اتجه محمد ومن معه نحو المنزل المنشود
للبحث عن صابر، وجد محمد رجلا نحيفا، عظام وجهه بارزة، حفر الزمان على وجهه أخاديد، محني الظهر،
ملابسه رثة، مَن يراه يظنه خرج للتو من داخل أحد
القبور المجاورة لمنزله، يحمل بين يديه إناءً زجاجيا
كبيرا
بداخله خرطوم ومياه عكره يعلوه موقد صغير من
الصلصال، عليه بعض الفحم المشتعل، سأله محمد:
-هل أنت والد سوزي سالم؟
لم يعره الرجل انتباها، وأكمل تنفيس دخان نارجيلته، عاود السؤال مرة أخرى بصوت أعلى ظنا منه أن سمعه ضعيف، رفع عينيه رامقا إياه بنظرة غاضبة:
-لا ترفع صوتك، لقد سمعت سؤالك.
حدجه محمد بنظرة غضب كادت تحرقه في موضعه
ليجيب عليه بنفس الحدة:
-قف وأنت تحدثني، هل أنت والد سوزي؟
-لا يوجد أحد هنا بهذا الاسم.
-أين صابر ابنك؟
-لا أعلم.
قالها ثم دلف إلى داخل المنزل مغلقا الباب خلفه، ما فعله جعل محمد يستشيط غضبا، كيف لهذا الرجل
أن يعامله بهذا التجاهل، على الرصيف المقابل لهذا المنزل، كان صبي مقهى المعلم حسني يتابع ما
يحدث، فأسرع نحو محمد الذي همَّ بكسر الباب
لتأديب هذا الرجل الخرف: دعك منه يا باشا، فهو كبير السن، وأصبح عقله خفيفا وبالأخص بعد هروب ابنته، هو والد سوزي سالم لكن من بعد هروبها تبرأ منها، وأخبر الجميع أن سنية ابنته ماتت.
-هل تعلم أين صابر ابنه؟
-الشيخ صابر يصلي العصر بجامع السيدة زينب، ثم
يحضر بعده درس الدين.
جلس محمد على أحد الكراسي ليسمع من الفتى
باقي قصة سنية..
-ما اسمك؟
-(مصطفى)
وضع محمد يده على كتفه، ثم سأله: أخبرني بكل شيء تعرفه يا مصطفى عن هذه الأسرة وعن ابنتهم
سوزي.
قبل أن يخبره الفتى بما يعرف استدعاه أحد الزبائن،
غادر لمباشرة عمله قبل أن يوبخه صاحب المقهى،
لبى طلب الزبون، ولكن قبل أن يعود إلى الضابط
ليخبره بما يعرف وجد صابر يدخل إلى الحارة،
فأشار لمحمد أنه مَن يبحث عنه، في لمح البصر كان صابر داخل سيارة الشرطة، وغادر الحي كله، بجانب
الباب الخشبي للمقهى كان أحدهم يتابع ما يحدث، ويسجل كل شيء بعيون كالصقر، نادى على
مصطفى فأقبل ملبياً: أوامرك.
أخرج من الجاكت الخاص به ورقة مالية من فئة
الخمسين جنيه، ثم قدمها له، ابتسم في وجهه ليخبره: لحظات وأحضر لك باقي المبلغ.
-لا، هذه الورقة ملك لك.
قبل مصطفى الخمسين جنيها، ثم وضعها داخل
مريلته البيضاء ليسأله: كيف أخدمك؟
-أريد أن أعرف قصة سوزي كاملة.
نظر نحوه مصطفى ببعض الريبة، لكنه فهم نظرته،
فقال مفسراً:
-لا داعي للخوف أو القلق، أنا عصام أمين الصحفي،
أعمل بجريدة الأمل، وأريد إجراء حوار صحفي عن
سوزي؛
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي