في حماية الراعي

"أوف تلك القهوة طعمها سئ حقا!"

لأول مرة منذ سنوات يرحل من المنزل قبل تحضير طعام الفطور له ثم إيقاظ معاذ لتناوله معه قبل رحيله إلى العمل، اليوم لم تكن لديه شهية لتناول الطعام، لذا رحل بدون أن يفطر، لا ينكر أن قلبه خانه وحاول أن يطمئن على حالة أخيه، استرق النظر إليه بينما هو نائم على فراش صنعه على الأرض بدلا من فراشه الخاص الذي يعلم هو سبب عدم رغبته في النوم عليه.

لن يستطيع العمل بتلك الطريقة، رغم عدم رغبته في رؤية هارون اليوم لكن ذلك الأمر الملح الذي يرغب في محادثته عنه يدفعه لمحاولة الوصول إليه والتحدث معه، بتأفف وضيق رفع سماعة الهاتف الأرضي أمامه، حادث المساعدة الخاصة به، أخبرها بنبرة جادة:

"من فضلك أستاذة هدى هلا طلبت مكتب المهندس هارون وطلبت منه ملاقاتي في المكتب الآن!"

أجابت المساعدة قائلة بنبرة هادئة:

"تحت أمرك سيدي، سوف اتصل بمساعدته على الفور وابلغها بتلك التعليمات"

اخفض السماعة مغلقا الهاتف دون انتظار مزيدا من الحديث مع مساعدته، فهو ليست لديه الرغبة في تبادل الحديث مع أي أحد!

"اللعنة"

لقد تذكر للتو أنه كان عليه محادثة رجوة على الهاتف قبل رحيله، وهو قد نسى ذلك حقا، تطلع نحو هاتفه المحمول الذي أمامه على سطح مكتبه الخاص، أمسك به بيده ثم تطلع نحو شاشته، لقد أصبحت الساعة الآن الثانية عشرا ظهرا، لابد أنها قد استيقظت من نومها و يتسنى له التحدث معها.

بهدوء شديد بحث عن رقمها، قام بالاتصال بها، أنصت إلى رنين الانتظار لعدة ثوان حتى آتاه صوتها ضعيف ورقيق وكأنها كانت تبكي منذ قليل! رغما عنه وجد نفسه يتأثر بصوتها ذاك بينما هي تقول:

"مرحبا موسى، هل تريد شيئا الآن؟!"

"هل كنت تبكين منذ قليل؟!"

لقد فاجأ نفسه قبل أن يفاجأها بذلك السؤال، فلم تعهد به مهتما بها، لكنها سرعان ما رسمت على وجهها ابتسامة عذبة، فهي باتت تعلم حقيقة كل شيء، وسؤاله الذي يبدو منه القلق حول مشاعرها ما هو إلا دليل على أنه مازال هناك شيء قابع في خفايا قلبه لها!

بنبرة هادئة مطمئنة قالت:

"لقد كنت أشعر بالضيق قليلا، لكنني الآن بعد سماع صوتك نسيت ما يضايقني حقا!"

هل هو يحلم؟! هل تلك رجوة التي تحادثه أم فتاة أخرى! هو جعلها تشعر بخير الآن! جعلها سعيدة! لابد أنها تظن أنه أحدا آخر!

الأمر الذي دفعه ليقول بنبرة جادة، قائلا لها بنبرة يشوبها الضيق:

"أنه أنا موسى الراعي الذي يحادثك رجوة وليس أحدا آخر!"

"وأنا أجل أيضا أعلم جيدا أنك أنت الراعي وليس أحدا آخر"

اللعنة هي فاجأته مرة أخرى، أكدت معرفتها بهويته، ثم أطلقت أشهى ضحكة هو سمعها يوما، رنين صوت غاب عنه لسنوات جعل دقات قلبه تتصاعد وتيرتها في ثوان، تنحنح بصوت عال، أخبرها بنبرة جادة، محاولا أن يبدو متماسكا أمامها:

"لقد كان من المفترض أن احادثك مبكرا عن ذاك الموعد، لكن هناك عمل قد أخذ الكثير من وقتي! كما تعلمين أنني سألتك عن أية ضمانة تريدين إياها قبل المضي قدما في تلك الخطبة، فهل تخبرينني ماذا تريدين مني فعله؟!"

تنهيدة حانية خرجت منها، أجابته بنبرة هادئة بينما ترسم على وجهها ابتسامة حنونة:

"لا أريد أي ضمانات، فأنا سأكون خطيبة لموسى الراعي! أي ضمانة قد أريد بعد! أليست تلك بضمانة كبرى! أن أكون بجانبك و في حمايتك يا راعي! لا تخف موسى، لن اطالبك بشئ صدقني!"

تلك ليست رجوة، هناك شيء ما لا يعلمه حدث له، لو كان الوقت يسمح له لكان ذهب إليها وتحدث معها وجها لوجه، لكن مع الأسف وقته مشغول للغاية اليوم، لا يهم سوف يكون هناك لقاء بينهما على أية حال، ربما يأخذها لتناول العشاء بالخارج اليوم بعد قراءة الفاتحة.

"حسنا رجوة، أراك في المساء إن شاء الله"

"مع السلامة موسى"

وكانت تلك أجمل موسى هو سمعها في حياته، اللعنة على تلك الرجوة التي تزعزع ثباته بأفعالها تلك، هل يسبها الآن أم يطلب منها أن تردد اسمه مرة أخرى فأخرى بعدها حتى ينتشي قلبه!


"أحم، أحم، هل جئت في وقت غير مناسب أم ماذا يا راعي؟!"

سبة بذيئة كادت تخرج من فمه بينما يغلق المكالمة مع رجوة، مشاهدا هارون يقف أمامه مكتفا يديه، ناظرا نحوه بسخرية، يتشدق بتلك الكلمات الساخرة، استقام واقفا من جلسته، رافعا سبابته في وجه هارون بينما يحذره بنبرة مغتاظة:

"اللعنة عليك يا هارون، كفاك سخرية و تهكم، لا تجرؤ على التفوه بأي كلام سافر حول خطيبتي رجوة، أنا أحذرك من ذلك"

"ماذا، خطيبتك رجوة؟! منذ متى ذلك الأمر! كيف لا أعلم شيئاً عنه! هيا أخبرني يا صديقي!"

لقد فوجئ حقا من تلك الأخبار حول خطبة صديقه المقرب موسى بابنة خالته، تلك التي طالما أخبره عنها انها مجرد ابنة خال لا أكثر من ذلك ولا يفكر بها سوى كذلك، حتى أنه شهد على شجارهما سويا عدة مرات الأمر الذي جعل ذلك محال أن يحدث، لكن على ما يبدو أنه ما فكر به خلاف ذلك، وما حدث ما يعني أن الراعي كان يخفي عليه شيئ ما!

هل فكر الراعي أنه قد يغازل ابنة خاله فقرر الزواج منها خوفا عليه منه، لا ينكر أنها قد ذكرها عدة مرات بقصد الممازحة لا أكثر لكن على ما يبدو أن موسى قد أخذ الأمر على نحو جاد و ها هو يخطب الفتاة ويريد الزواج منها.

رغم أنه تفاجأ من كلمات صديقه تلك إلا أنه هنأه قالا بنبرة حانية:

"رغم أنك نذلا كبير يا صديقي لكن هذا لا يعني أنني لن أهنئك بخطبتك تلك، أتمنى لك زواج مديد، سوف ابتاع لك هدية بكل تأكيد أنت و
عروسك الجميلة"

"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ها قد بدأنا في قلة الأدب، احفظ لسانك يا هارون وإلا قطعته لك! ثم ليس هناك من داع لجلب هدية لنا، تستطيع تقديمها في حفلة الخطبة الذي سوف يتم بعدة عدة أيام بإذن الله"

لقد أراد أن يكون حازما مع هارون في حديثه حتى لا يعطيه الفرصة في التمادي في المزاح عن خطبته لرجوة وسبب ذلك، ثم أن هناك أمر طلب يد أخته زاد لمعاذ والذي لابد أن يتم في أقرب وقت، ومن الأفضل أن يكون بعد حفل خطبته بقليل.

ما بال موسى اليوم حازما؟! تبدو عليه علامات الغضب، أهذا ما يبدو عليه وجوه الخاطبين، أعوذ بالله من ذلك! هو لن يفعلها يوما! يخطب فتاة ثم يتزوج منها، يتلظى في نار القلق والشجارات التافهة.

بنبرة ساخرة هو قال:

"اهدئ يا رجل، أنا لم أقل فقط سوى أنها جميلة! إلا إذا كنت تراها غير جميلة فهذا أمر يعود لك وليس لي!"

"أنت لن تكف عن ذلك حقا لن تفعل! اصمت يا هارون وإلا سوف اجعلك تصمت رغما عنك، ثم هناك أمر ما أريد أن أتحدث به معك، أنه عن شقيقتك زاد وعن أخي معاذ!

لقد حدثني معاذ منذ فترة عن رغبته في التقدم للزواج من زاد، كنت قد ارجئت الحديث في الأمر حتى انتهي من خطبتي أنا لكنه عاد يصر علي في التحدث معك عن الأمر خاصة أنه سوف يخوض بطولة دولية لصالح البلاد في الولايات المتحدة بعد شهر من الآن ويريد أن يصطحب زاد معه في تلك الرحلة.

لم أرى ضير في ذلك، لذا قررت مفاتحتك في أمر زواجهما، بالطبع سوف نأتي لطلب يد زاد في بيتها كما تقول الأصول لكنني أحببت أن أعطي لك فرصة للتحدث مع زاد عن الأمر ومعرفة رأيها عنه"

لقد فوجئ حقا من حديث موسى ذاك، لقد علم بالطبع عن مشاعر معاذ الواضحة نحو زاد، والتي تحاول تجاهله كثيرا سعيا وراء موسى، لكنه كان غير راضي عن ملاحقتها لموسى بالتأكيد لذا أمر خطبة موسى وطلب معاذ ليدها لربما يكونا دافعا قويا لها للكف عن تلك الأحلام الطفولية واغتنام الفرصة بالاقتران برجل مثل معاذ والذي يعده هو شقيقا أصغر له، لطالما شجعه في مبارياته تلك وذهب لحضور الكثير منها مؤازرة له، معاذ لا تشوبه شائبة حقا، و لو كان الأمر بيده لوافق على الفور و جلب المأذون لعقد قرانهما الآن!

ابتسامة مرحة ظهرت على ملامح وجهه بينما يقول بصوت فرح:

"أخيرا قد فعلها معاذ حقا، لقد ظننت أن شعري سوف يشتعل به الشيب قبل أن يفعلها ذلك الرجل، سوف أخبر زاد بالطبع واسألها عن رأيها كما يقول الشرع، رغم أنني وددت لو كنت أنا من أملك القرار، فمعاذ رجل يشتد به الظهر، يكفيه كونه أخيك يا راعي"

ابتسامة زائفة رسمت على وجه موسى، فذلك المديح لم يكن يستحقه أخيه بكل تأكيد، آه لو علم هارون بما حدث لما كان كلمة واحدة من ذلك بل كان لعنه وسبه بأقبح السبات!

حاول أن يبدو سعيدا هو الأخر حينما قال:

"أنا أيضا سعيدا بذلك كثيرا، أن نصبح أنا وأنت نسباء يا صديقي رغم تخوفي الشديد من كونك ستصبح خالا لأولاد أنا عمهم، لعلمي الكبير بالاخلاق التي سوف تورثها لهم يا هارون العاصي"

ضحكات عالية أطلقها موسى بعد حديثه ذاك مع هارون والذي رسم على وجهه ملامح الضيق، لكنه سرعان من ازالها مطلقا العنان لضحكاته المجلحلة مع موسى، لأنه يعلم تمام العلم أنه محقا في تخوفه ذاك!

نهاية الفصل.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي