الفصل الثالث

الفصل الثالث ....

المحنة منحة، قد لا نعلم حكمة وتدبير الله لأمورنا ولكننا نثق بأن فى باطنها الخير؛ حتى وإن أحزنتنا أحياناً .

يقف فى ورشته الخاصة التى يعمل بها كمهندس ميكانيكي بحلته الزرقاء المتسخة بعلامات الزيت .
يرفع أكمامه ليعمل على تصليح سيارة قد حضر بها صاحبها ليلة أمس، شعر بأن أحدهم يقف خارج المكان، فأتلفت نحو باب الورشة ف وجدها تقف أمامه بأستحياء بملابسها الفضفاضة السوداء ووجهها الرقيق الخجول .

خرج لها دون أى حديث منتظراً إياها لتبدأ، تحركت بهدوء من أمامه لتجلس فى مقعد خشبي عريض بجانب باب الورشة لتنظر نحو السيارات المارة أمامها فى الطريق، ف جلس بجوارها بعد أن أمسك ب قماشة صغيرة يمسح بها أثر الزيوت من كفوفه ينظر فى نفس اتجاه نظرها منتظراً منها ما جاءت لتخبره به .

ألتفت لها بعد أن سمع همسها بصوت ضعيف كأنه يريد أن يتأكد مما سمعه، فسألها بصوت مهزوز :
_قولتى إيه ؟

أنقبض قلبها وتوترت بخجل مصاحب بغصة فى قلبها ولكنها ردت :
_ بقولك موافقة على طلبك، لكن ليا شروط .

أعتدل فى جلسته ليحثها على إكمال ما تقوله .

أخذت نفساً عميقاً يعبر عن مدى ثقل ما تريد قوله و ما يربكها أكثر نظرات عينيه المسلطة عليها.

_ أنا عايزاك تعرف إن عمرى ما كنت هوافق على طلبك ده ولا هوافق عليك ولا على أى راجل تانى، من بعد الله يرحمه ما راح .

شعر بغصة وألم فى قلبه بمجرد ذكر زوجها المتوفى منذ عام، ألم لفراقه الحزين .

أكملت بعد هرب دموعها تلقائياً لوجنتيها:
_لكن علشان أمى أتوفت بعده وسابتنى هى كمان وأنا بقيت لوحدى أنا وابنى مالك وعلشان المنطقة اللى ساكنين فيها مش بترحم حد وعلشان أنت أكتر حد هتخاف على ابن أخوك وهتحميه .. ف أنا وافقت، كان ممكن أرفضك زى ما رفضت غيرك لكن، لكن مش هقدر أواجه دا كله لوحدى، أنا عندى يقين إن ربنا معايا وهيقوينى على كل حاجة، لكن أنا خايفه لأن لوحدى مش هقدر.

هز رأسه بتفهم منتظراً سماع شروطها لقبول الزواج منه، من أخ زوجها المتوفى .

_ أنت إنسان مستقر وعندك زوجة وعندك بنتين ف دى برضو كانت مشكلة كبيرة بالنسبالى علشان أكيد سمر مراتك مش هتقبل أكون زوجتك، أنا مش عايزه غير حمايتك وأن الناس تعرف بس إن بقي ليا راجل، هى مستورة معايا الحمد لله، المحل الصغير اللى تحت البيت عندى مكفينى أنا ومالك وزيادة، ف أنا عايزة سند وحماية وورقة أحطها فى عين أى حد يلسن عليا، لكن ... لكن زوج وزوجة وحياة طبيعية ف أنا أسفة مش هقدر على كده ومش هوافق عليه، أنت أكيد عندك زوجتك وبيتك ف مش ناقصك حاجة، ف ده كل اللى عايزة أقوله .

سادت دقائق من الصمت بين الأثنين فى نفس وضعهم ينظران نحو السيارت المارة أمامهما فى الطريق لكن تلك المرة هى التى تنتظر رده، فنظر يزيد إليها متفهماً مقصدها، ليتحدث بنبرة هادئة عكس ما يعصف ب قلبه من أعاصير .

_ أنا فاهم أنتى عايزة تقولى إيه ومستوعب اللى بتقوليه وده حقك، لكن قبل أى حاجة لازم تعرفى أن طلبي للجواز هو نفسه ردك دلوقت، أنا عارف أنك مقطوعة من شجرة وعارف أنك وحيده فى الدنيا وعلشان كده كل ما حد يحب يتقدملك كان بيجيلي أنا الأول، سواء كنت ببلغك بيه أو برفضه من بره، أما بالنسبة لسمر ف أنا هتكلم معاها وهى كده كده مش بتختلط بحد ولا هتختلط بيكى، فمتقلقيش من حاجة .

وقفت أمامه بعد أن سمعت ما قاله وقالت :
_ تمام، شوف ناوى نكتب إمتى إن شاء الله وأنت عارف إنى معنديش شهود فهتقوم أنت بالليلة كلها .

_ تمام .

_ أنا همشي بقي علشان سايبة مالك مع أم عمر جارتى .

_ تمام .

تحركت من أمامه لتعود لوجهتها التى أخبرته بها ف نادى بأسمها مرة أخرى .

_ سارة .

_ نعم ؟

_ جهزى نفسك الليلة بعد المغرب، هعدى عليكي نروح نخلص.

أبتلعت ريقها بتوتر وأكتفت بهز رأسها بإيجاب وألتفتت ومشت .

أما هو فظل ينظر فى أثرها بحرب داخلية قائمة بين قلبه وعقله، إعصار قوى منذ سنوات يعصف به ولا أحد يشعر بألمه .

بعد يوم من سفر مصطفى وياسين، تجلس ورد برفقة والدتها فى غرفتها يتحدثان ويضحكان عن أمور يعرفونها .
ف دخلت مدبرة المنزل بعد أن إستأذنت .

_ ست ريحان، فى ظابط تحت وكان عايز حضرتك والست ورد .

__ظابط؟

_ قعدينى على الكرسي يا ورد ويلا ننزله.

نزلت ورد برفقة والدتها إلى الضابط .
_ خير يا حضرة الظابط ؟

_ مدام ريحان هو مصطفى باشا سافر أمبارح لدولة أوروبية؟

_أه يا فندم سافر أمبارح .

تحدث الضابط بتردد .
_ طيب سفارة مصر هناك مع الأسف بلغتنا أن عربية مصطفى باشا أتعرضت لحادث أمبارح أخر اليوم، وأنهم أتأكدوا هنا من الهويات وأن كان معاه فردين، مصطفى باشا فى العناية وفرد من اللى معاه فيه كسور بالغة لكن حالته مش بنفس صعوبة مصطفى باشا والفرد التانى مع الأسف مقدروش يلحقوه .

زادت خفقات قلبها سريعاً، ألم يعتصره وخوف ملأ خلاياها، صدمة لم تستوعبها ولم تفق منها سوى على صوت والدتها وهى تحدث الضابط .

_ أنت بتقول إيه ؟ مصطفى كلمنى أمبارح أول ما وصل وكان كويس جداً فى حاجة غلط حصلت أكيد مصطفى كويس أنا عارفه .

_ لا بابي كويس هو بخير ومين معاه اللى مات؟ مين معاه ؟

بكاء هستيرى وخوف حل محل الأمان الذى عاشوه منذ قليل .

_أنا عايزه أروحله يا مامي أنا هسافر .

_ طيب بعد أذنك يا فندم ولو فى أى أخبار هبلغ حضرتك .

كانت ريحان تمسك بهاتفها تحاول الأتصال بزوجها لكن دون جدوى.

_طيب أنا بكلمه مش بيجمع خالص .

_أنا بلغت حضرتك أنها كانت حادثة عربية ف وارد جداً الموبايلات تكون حصلها حاجة، عموماً لو فى أى خبر هنبلغكم بعد إذنك .

هرولت ورد باكية إلى غرفتها تلملم أشيائها على عجل كأنها ستسافر إلى مكان فى مصر وليس إلى إحدى الدول الأوروبية.

دخلت والدتها تكبت بكائها لتحاول تهدئتها حتى لا تسوء حالتها أكثر .

_ورد ممكن تهدى علشان نعرف هنتصرف إزاى ؟
_أنا لازم أسافر دلوقت .

_هتسافرى دلوقت إزاى ؟ الله يرضي عنك أصبرى لغاية ما نشوف هو فين وإيه اللى حصل أنا مش هقدر أتصرف هنا لوحدى وخالتك مسافرة مش هتعرف تجيلي بسهولة (بكت) فكرك إنى مش هموت وأطمن عليه؟ أبوكى لو جراله حاجه أنا هحصله والله .

شعرت ورد بحزن والدتها وقلة حيلتها ف جلست على الأرض أمامها.
_ أنا خايفة يا ماما والله ومش عارفه أعمل إيه ؟ ومحدش قال مين التانى اللى اتوفى معاه وياسين سافر معاه .

أنتبهت ريحان لما تقوله ورد فردت بأمل :
_ ياسين، أكيد كريمة مامته زمانها عارفه أى خبر .

_صح، طيب لو مكانتش تعرف يبقي إيه العمل ؟

_ مفيش حل غير أننا نكلم منذر .

_ عمى ؟ أكيد لأ أنتى عارفه أن بابا وهو مش متفقين .

_ مفيش حل غير كده دا أخوه وأكتر حد المفروض يسافر حتى لو هتسافرى معاه علشان أبقي مطمنه عليكى.


عند المأذون فى المساء، يجلس يزيد برفقة أثنين من رفاقه كشهود ومعه سارة تحتضن ابنها مالك البالغ من العمر عامين فقط .
بعد أتمام العقود، وخروجهم وذهاب الشهود، ظلت سارة مع مالك برفقة عمه يزيد .. وزوجها .
_ دلوقت المفروض إيه هيحصل ؟

كانت مترددة فى سؤالها .

_ هوصلك بيتك وأول ما أستلم القسيمة هجيبهالك إن شاء الله، متقلقيش أنا فاهم طلبك كويس وموافقك عليه .
_ تمام، يلا بينا علشان مالك نام .
_تمام، هاتيه أشيله .

تم عقد القران بينهما على سنة الله ورسوله ليبدأوا مرحلة جديدة فى حياتهما، لا تدرى هى مدى صواب تلك الخطوة أما هو فيعلم تماماً كيف ستكون عاقبه أموره .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي