11111111111

تسير بتردد، كلما تقدمت إلى الأمام خطوة، تراجعت إلى الخلف خطوات، لا تُصدق بأن السنوات قد مرت على عجل بذلك الشكل، ولم تشعر بمرورها، أخذت مع رحيلها الكثير أمانها واستقرارها، لم تر السعادة قط في غياب عائلتها، فقد كبرت وسط أخواتها، وإن أخبرهم كل شيء بأنها ليست بأختهم، فهي عاشت في كنف والدهم بعد رحيل أبيها، وأصبح كل شيء تحت طوعه، الوصي الوحيد عليها رغم أنف أقاربها الذين لم يرحمونها، ورفعوا العديد من القضايا للشكوى على العم إبراهيم، وذهبت بسببهم معه إلى المحاكم، من قضية إلى آخرى ينتقلون، ولا تكف المصائب عن النزول فوق رؤوسهم، من شكوى الطبيب والتشكيك في نزاهة المحامي، والوصية ليست بحقيقية، فقد قبض الثمن، واقع مرير أخذوا يتجرعون منه بسببها، ورغم ذلك لم يتخلوا عنها قط، ووقفوا جوارها؛ لم تجد منهم شكوى أو تذمرًا حتى جاءت الأفعى، فضت مجالسهم وزعزعزت أواصرهم، فألقوا بها خارجًا، وحين وقف جوارها محمد كاد أن يُقتل، ويشاهد إبراهيم وأحمد بدم بارد قتال فتحي مع محمد، وكأن البقاء للأقوى، واليوم اضطرت إلى العودة، فأخوهم في حاجة ماسة إليه، وإن لم تتحرك عواطفهم لأجلها، قد تثور لمن هو من دمهم.
- من الذي جاء بكِ إلى هنا؟
ينهرها المتحدث في حدة، يزجرها في غضب، فهو لم يتوقع مجيئها قط، ولا يترك لها فرصة للحديث قط؛ لتُكمل قائلة:
- مخربة البيوت ومدمرة العلاقات تقف الآن في بيتي، وااااقرفاه، ينتابني شعور بالاشمئزاز، فماذا تفعلين هنا بعد ما فرقتِ شمل العائلة؟
سهيلة في استنكار:
- هل أنا من فرقته حقًا؟، لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف بإمكانك أن تقولي ذلك؟، تتحدثين بالشيء وتفعلين عكسه.
تضع الأخرى يدها على فمها، وكأن سهيلة قد قذفتها بالسباب، وتسخر منها قائلة:
- حرام عليكِ تقذفين غيرك بأفعالك، وأنتِ تعلمين بأنني لم أفعل ذلك، وحدك من شوهتِ كل جميل منذ قدومك يا عزة.
انتفخت أوداجها، ونفثت النيران من عينيها كالتنين، فهي تكره ذلك الاسم كثيرًا، الاسم الذي لطالما ناداها به أهل القرية، يسخرون منها، فقد كانت سيئة السمعة، تحاول فرد شباكها على الرجال، لا تترك أحد في حاله، تدمر حياة النساء من حولها الواحدة تلو الأخرى بغير رحمة، فأطلقوا عليها ذلك الاسم الذي هو من العزة، ينادونها به في اشمئزاز، أو لعله كان اسمها الحقيقي، ونادوها به لنفس السبب، فطريقتهم كانت مُستفزة للغاية، وهي تستحقها، كأقل شيء تحصد به أفعالها.
قلم ساخن ينزل على وجهها، ضربتها في عنف واضح، الغل يتقد في عينيها، تمقتها بشدة هي وكل أفراد عائلتها، وصرحت لها بذلك حتى الذي تُسميه بالسيد، وتنسب اسمها إليه، تسمرت سهيلة في مكانها من وقع الصدمة، لم تتخيل بأنها قد تتجرأ عليها بذلك الشكل، تنظر إليها في استنكار، فبمَّ أخطأت كي تضربها هكذا؟، أ لمَّ تكتف بذلك الأذى الذي بثته كالسم في عقول الجميع؟، ولم ترحم أحدًا أبدًا، لتلتصق بهم المعاناة، فقد التفت الأفعى حول أجسادهم، وما من سبيل للنجاة أمامهم، إلا أن سهيلة استطاعت معرفة نقطة ضعفها، فنفذ الأمل إلى قلبها، ولو كان ضغيفًا.
- اخرجي من هنا.
تمسكها من ذراعها، وتقوم بدفعها إلى الخارج، لا تطيق وجودها أبدًا، تتمنى لو تدفنها حية بعد ما قالته، فقد فتحت الباب أمام الذكريات السيئة، تتدافع على عقلها بلا رحمة، وكادت حقًا أن تقتلها تلك الوقعة حيث شُجت رأسها، وسالت منها الدماء، تمتزج بالطين من حولها، الذي لُطخ وجهها به من قبل حين اكتشف حيلها أهل القرية.
- اخرجي من هنا أيتها الس.. ، لا تعودي إلى هنا ثانية.
يُعرض المشهد أمامها، وكأن الزمان قد انتقل بها، يعود بها إلى الماضي، الذي لا يكف عن اللحاق بها، فعلت كل ذلك لأجله، كانت تتعمد إثارة غيرته؛ إلا أنها لعنة لا تنزل بإنسان إلا وتودي بهلاكه، كانت البداية لعبة، ولكنها ما لبثت أن فقدت أغلى ما تملك، استطاع أحدهم نزع براءتها بقسوة، لم تتخيلها قط، ولم يوقفه أبدًا أي من صرخاتها، وتوقف الزمان والمكان، فلم يعد أحد يسمعها، ومن بعدها أخذت عهد على نفسها بالانتقام من كل الرجال، التودد إليهم وإيقاعهم في شباكها، ثم أخذ كل ما يملكونه كما حدث معها، لم تكن تملك سوى كرامتها التي وإن كانت لا قيمة لها بالنسبة لها، إلا أن الشيء الذي فقدته كان هو الكرامة بالنسبة لها، تتذكر آخر ضحاياها.
- أنا أحبك يا جميلة، لا تتركني أرجوك، فقد تخليت عن كل شيء لأجلك، تركت زوجتي وابني، ورغم عدم توقف زوجتي عن إيذاء نفسها، إلا أنني ضحيت بكل ذلك لأجلك.
-وما خرج من شفتيك، وما عشناه، أ كل هذا كان خدعة؟، أ تريدين أن تصيبنني بالجنون؟
- يا ليتك تُجن كي تتركني في حالي.
قالتها باستخفاف، لتسقط كلماتها عليه كالصاعقة، ما أسرعها عجلة الأيام حين تدور، ولا يترك الزمن أحد دون أن يتذوق من نفس الشعور الذي أوصله إلى غيره، هذه الكلمات ليست بغريبة عليه، رُدت إليه نفس إجابته، فقد أخبر زوجته بذلك من قبل، والآن هي تُعالج في إحدى المصحات العقلية.
انقض عليها عاصم كالنمر الجريح، يريد الظفر بفريسته؛ بل الاقتصاص منها، فقد كان السبب في كل ما حدث بحياته، كسر قلب زوجته، وتركها شبه حية، لا تقوى على البقاء دونه كحاله الآن.
- لا، لن أتركك تعيشين من بعدي، وتدمرين بيوت أخرين مثلي
- ابتعد عني يا عاصم.
- سأقتلك.
- ارحمني، سأموت بين يديك.
- ولمَّ أنتِ لم ترحمينني؟
- سامحني يا عاصم أرجوك، فأنا جميلة حبيبتك.
- لست بجميلة، ولن أبقى على حياتك ولو للحظة واحدة، لن يمر الأمر مرور الكرام، سأنتقم منك على كل ما فعلتيه بي، سممت عقلي ضد زوجتي، وتخليت عن ابني؛ تدمرت عائلتي عن بكرة أبيها، ولم يبق لي من أحد، فقد أخذته جدته، وذهبت به بعيدًا، وزوجتي حالتها تزداد سوءًا.
يضغط عاصم بكل قوته على رقبتها، يريد أن ينزع روحها، انتقامًا له ولغيره؛ ليأتي الجيران، وينقذونها من بين يديه في اللحظة الأخيرة، وأخذوه إلى الشرطة التي لم تلبث أن حولته على إحدى المصحة النفسية التي بها زوجته، أخذ يلح على الشرطي أن يسمح له، يتوسله من بين دموعه، ولكون الرجل لا يبكي إلا لعظيم، فهم حاجته، وأرسل العسكري معه؛ ليبقى هناك إلى الأبد.
- البقاء لله، فاضت روحها الطاهرة إلى الرحيم بها.
- ما هذا الذي تقوله؟، ضحى زوجتي بخير، وستعود إلي، ليس بإمكانها العيش من دوني.
الطبيب في آسف:
- نعم، هذا صحيح، لم تكن تكف عن ترديد اسمك بين صرخاتها، وحتى آخر لحظة ماتت وهي تذكرك، ولكنك مع الآسف تأخرت كثيرًا.
سقط عاصم أرضًا، لا تقوى قدميه على حمله، وتحولت دموعه إلى ضحكات، وأخذ يقفز هنا وهناك، انعكست عليه الصدمة بعكس المتوقع، ليدخل في حالة نفسية شديدة جدا، ويقترب من الجنون، تتكرر القصة ثانية، ويتم حجزه في نفس الغرفة التي شهدت أنينها، والندم يعتصره من الداخل، وحاول إنهاء حياته أكثر من مرة، ولكون الموت عزيزًا، لم يقترب منه أبدًا، فتزداد معاناته أكثر، يريد اللحاق بها حتى نفذ الأمل إلى قلبه عند رؤيتها.
بعد مرور عدة أشهر على وفاة ضحى، ذهبت والدتها إلى المستشفى، تخرج من مخبئها، وتأتي لأخذ مقتنياتها، لم يحضر عاصم جنازة زوجته، ولكن ما أن رأى والدتها أثناء ذهابه مع الممرض، ركض خلفها،
خر بين قدميها، والدموع تُغرق وجنتيه، ونظرات الندم المغلفة بالحزن تفوح من نبرته، وتنطلق من عينيه، يحاول أن يعتذر منها، لتُحدجه بنظرة نارية، وهي تقول له في غضب:
- وهل اعتذاري هذا سيعيد إلي ابنتي؟، كانت وردة رائعة، ووحدك من أذبلتها حتى فقدت حياتها.
تُبعده عنها في قسوة، وهي تقول:
- ابتعد عني، وإياكِ محاولة اللحاق بي.
- أعلم بأنني أخطأت، وإن فعلتِ بي أكثر من ذلك، فلن ألومك قط؟، أرجوك أخبريني، أين هو ابني؟، أريد أن أراه ولو لمرة واحدة.
- لم يعد ابنك، فقد أخبرته بأنك متِ كأمه، وما من داعٍ لفتح دفاتر قديمة، ونبش الجراح، اذهب في طريقك، ودعني أربيه كما تمنت والدته - رحمة الله عليها- ألا يكفيك أنك قد حرمتني منها.
ـ أرجوك يا سيدة سميرة, ارحمي حالة أب عاجز, فقد كل سبل الحياة, وينادي الموت في كل لحظة, ولا يستجيب, فيا ليتني أنا من مت, وبقيت ضحى معك.
كان عاصم في حالة لا يُحسد عليها أبدًا, أصبحت الحياة أكبر عقاب له, ولا يجد سبيلًا للتخلص منها, رفضه الموت كحال الكثيرين ممن ظنوا بأن الانتحار حلًا, ووفتهم لم يحن بعد, لا يتوقفون عن ايذاء أنفسهم بشتى الطرق, ويظنون في ذلك النجاة, وهو الجحيم بأبشع صوره, فلا أحد يعرف ما الذي سينتظرهم بعد تلك الفعلة, إلا أنه ليس بخير, فلمَّ يُغضب المرء ربه بذلك الشكل؟, وهو سبحانه وتعالى من أودع تلك الروح في داخلك, لتصونها وتحافظ على الأمانة.
يبكي عاصم بين يديها, ويثشبث بها كالطفل الصغير بأمه, وهو يقول:
ـ أتوسل إليكِ, أخبريني بمكانه, دعيني أراه, ولو لمرة واحدة.
ـ ابتعد عني, لا, لن أخبرك, والآن أقول لك بأن قلبي قد ارتاح الآن, وأنا أراك في نفس المكان الذي أودى بها حبك إليه, لم أتخيل استجابة دعوتي بهذه السرعة.
عاصم في ألم:
ـ معك حق, وإن دعوت علي بأكثر من ذلك, فليستجب الله دعائك, اللهم آمين, فأنا حطام بالية, لا قيمة لي, ولم يعد هناك ما يربطني بذلك الحياة سوى هو, فترفقي أرجوك بي, وأخبريني أين هو؟
ـ في أحلامك يا عاصم, لا, لن أخبرك بحق تلك الصرخات والآنات التي كانت هذه المستشفى خير شاهدة عليهم, لم تكف ابنتي عن ترديد اسمك وسط معاناتها على أمل أن ترأف بحالها, وتأتي لأخذها من هنا, إلا أنك لم تأت أبدًا, لتخسر حياتها بسببك, ويتيم ابنها بعد رحيلها.
ـ أ ليس بحرام عليكِ أن تجعليه يتيمًا, وأبيه موجود؟
لم تُجبه السيدة سميرة, وكأن الشر قد انتقل إليها من خلالها, فهناك سر آخر أخفته عن الجميع, وكان يجب عليه كشفه بعد عودة الغائب, ولكن لكونها لم تعد تثق به, لم تجرؤ على فعل ذلك, تنظر هنا وهناك في قلق, تخشى أن يراها أحد, ووخاصة بعد ما استطاعت الهرب منه, استدعت له الممرضون ورجال الأمن, فكبلوه من خلفها, فهي لم تأت إلى المستشفى لأخذ مقتنيات ابنتها, بل لرؤيتها هي, تنزل الدموع بحرارة من عينيها, وهي تنظر إليها, كالجثة الهامدة تبدو أمامها, فاقدة للحياة, وما من معالم على وجودها سوى تلك النبضات الضعيفة التي تسري في جسدها, فقد قامت بنقلها إلى غرفة أخرى, واتفقت مع الطبيب على قول ذلك له, وإشاعة خبر موتها, تتذكر ما حدث بالتفصيل.
يعود كريم من الحضانة, وهو يبكي, فقد ناداه أصدقائه هناك بابن المجنونة, ورغم كونه لا يفهم معناه بعد, إلا أن طريقتهم كانت قاسية, يسخرون منه دون رحمة, وهذا الأمر قد تناهي إلى سمعهم من والديهم, طار الخبر في الهواء كالريح, يُعكر الأجواء من حوله, أصبح ذلك الأمر يلحق بهم أينما ذهبوا, وتضرر الكثير من أقاربهم بسببه, فاضطرت والدتها إلى فعل ذلك, والغصة تفتك بقلبها, ولكن ما من خيار آخر أمامها, ابنتها لا تتحسن, والبشر لا يرحمون, ألا يكفيهم سوء حالتها, لتُعاني الأمرين معهما, ولا تجد للراحة سبيلًا قط حتى هداها عقلها إلى ذلك الخيار.
ينهض كريم من فراشه, يعود بنا إلى واقعه الأليم, يتذكر كيف كانت حالة أمه حين رآها, وكذب جدته عليه طوال تلك السنوات, كانت تخشى عليه كما قالت, ولكنه كبر قبل أوانه, فهناك أمور لا تُخفي, ولا بد للغبار أن ينكشف عنها, فتصبح جلية للعين, يعمل كريم ليل نهار لتوفير علاج والدته, يعز عليه فراقها, فقد عاش معها لفترة حين أوهمت الجميع فيها بأنها تحسنت, وحاولت فيها الانتحار للمرة الخامسة, فوقف أمام جدته, يُريد أن يُعيد أمه إلى المصحة ثانية.
ـ وكلام الناس يا كريم, لن تستطيع يا بني أن تحتمله, أقسم لك, فأنا ما زلت أتذكر تلك المرة التي عدت فيها منهارًا, تبكي بحرقة على ما قاله الأولاد عن والدتك, وهما صغار, فكيف سيكون حالك أمام الكبار؟
ـ سأقف قبالتهم يا جدتي لأجل أمي, فساعديني أرجوك لنأخذها إلى المستشفى.
جدته في حدة:
ـ ستكتمل أمك العلاج هنا يا كريم, وهذا الأمر نهائي, لن أذهب بها إلى هناك.
ـ إذن سأقوم بأخذها انا يا جدتي.
ـ وأنا سأمنعك, أو بمعنى أدق سيحول دون ذلك المال, لن يسمحوا لك بإدخالها دون دفع المال, لن يفرق معهم حالتهم, فكم من مستشفيات خاصة أغلقت أبوابها أمام المرضى في سبيل المال.
كريم في تحد:
ـ سأخذها يا جدتي, وسترين, لن أتخلى عنها أبدًا, وسأهبها الحياة التي أنتِ كأمها, تريدين أن تتخلي عن دورك, سأساندها أنا, فهي من وهبتني الحياة.
يعمل كريم ليل ونهار, وبالفعل أدخلها إلى المستشفى, وأرسل إلى والده برسالة عبر إحدى التطبيقات الالكترونية, يقول له فيها أقسى الكلمات, فقد قام بخداعه, لم تمت أمه عند ولادته كما أوهمه معهم, وكان هو السبب الرئيسي في حرمانه منها.
وقع مضمون الرسالة عليه كالصاعقة, ضحى لم تمت, وكريم الآن أصبح يعرف الحقيقة, يعيد رأسه إلى الوراء, يستند على الكرسي خلفه, ويعود معه الزمان إلى الوراء, تلك اللحظة التي كان يتوسل فيها السيدة سميرة, وكيف بدأ بعدها يتعرض لجلسات كهربائية؟, صرخاته المتتاليية التي تُشبه العويل, وآهاته المتقطعة, فقد خارت قواه, وهُزم كليةُ, وأصبح نسخة لا تشبهه, حياة لم يتخيلها, أو يظن بوجودها يومًا, لتهديه مفتاح النجاه منها إحدى الممرضات, يبدو بأنها مُعجبة به.
تقول له في حب:
ـ حرام عليك نفسك, حاول أن تهدأ أرجوك, فقلبي لا يحتمل رؤيتك وهم يقيدونك, ولأكون صادقة هناك من قامت بالدفع لهم لأجل ذلك.
هو في ضعف:
ـ لا فارق لدي, فالأمر بالنسبة لي سواء, أنا أريد الموت.
فاقتربت منه الممرضة, وهمست له:
ـ حتى وإن أخبرتك بأنني أحبك.
ليبعدها عنها في عنف واضح, وشرار الغضب يتطاير من عينيه, فقد أصبح الحب يُمثل له الدمار في أبشع صوره, لتقول له في حدة:
ـ حتى وإن أخبرتك بأن السيدة سميرة من تفعل ذلك لأجل إبعادك عن حفيدها, فهي لا تكف عن المجيء إلى المستشفى.
يسألها في استنكار:
- ولمَّ تأت وقد ماتت ضحى.
- لأجل الانتقام منك، أ لمَّ أخبرك بما تفعله لإبعادك عن ابنك.
ينظر إليها عاصم في قلق، ويقول لها في تردد:
- هل أنتِ حقا تحبينني؟
هي في ثقة:
- بالطبع، نعم، ألا ترى نظرات الحب في عيناي لأجلك، ويتمزق فؤادي من الداخل عند سماع صرخاتك، فأفق مما تفعله، وحاول لأجلي، أنا أحبك.
مَّثل عاصم الحب عليها، وطلب منها إثبات على حبها بذلك الأمر الذي أخبرها به، وذهبت على الفور؛ لتلبي طلبه كي تؤكد له بأنها صادقة معه، وتحبه حقًا.
جاء الموعد المنتظر الذي تحفظه نهي، تراقب الطريق، وتدفع للسائق الكثير من الأموال كي يلحق بها، واستطاعت معرفة عنوانها، لتعود وهي تحمل له الأخبار السارة، تعطيه العنوان بكل حب، فتفتح منافذ الأمل في قلبه، يتبدل حاله، ويبدأ في التحسن، وتتودد الممرضة نهى إلى الممرضين المرتشين، فيتوقفوا عن صعقه بالصدمات الكهربائية لأجلها، ويتفاجأ الأطباء بتحسن حالته، ويسمحون له بالخروج بعد مرور بضع أشهر، لتبكي نهي عند توديعه قائلة:
- يعز علي فراقك، ولكن هذا كان أمر متوقعًا، ولكوني أحبك، لن أمنعك من الرحيل، فالحب هو عنوان التضحية.
ينظر لها عاصم في استغراب، فهذا النوع من الحب، لم يعهده في حياته من قبل، ليشعر هذه المرة بصدقها، فقد انتقل من حب امتلاك ضحى له، إلى حب زائف من تلك الفتاة التي لا يعرف ماهية حقيقتها، لتبتسم له الحياة في نهاية المطاف بذلك النوع من الحب، ولكنه لم يكن على استعداد لها؛ ليتركها مع دموعها كما فعل ذلك من قبل مع ضحى، حدد هدف جيدًا، وعقد العزم على الذهاب إليها.
- كريم حبيبي، تعال إلى هنا، أنا بابا حبيبك.
ذهب عاصم إلى الروضة التي بها ابنه، ينادي عليه وهو يجلس وحده، فيرتعب كريم وهو يجيبه قائلًا:
- أبي مات، أنت شبح، أنقذوني تعالوا إلى هنا.
يصرخ كريم دون توقف، فيلتم الجمع حوله بداية من الأطفال حتى الإداريين هناك، ينظرون لوالده في استنكار، فقد أخبرتهم السيدة سميرة بوفاته مع زوجته في حادث، فمن الذين حضروا تشييعهم، ليُصدق الجميع ما تقول عملت جنازة لهم؛ ولكن الكذب لا يدوم، لا بد من يوم تنكشف فيه الحقيقة، وإن كان على قيد الحياة، فهل زوجته المجنونة حية هي الأخرى؟؛ ليُجيبهم في ألم قائلًا:
- لا والله، لقد سبقتني إلى الدار الآخرة، وإني لأرجو الله أن يجمعني في القريب العاجل بها.
الآن يريد لقائها، ما أقساها الحياة حين نشتاق لمن رحلوا، والندم يعتصر قلوبنا، فهم لن يعرفوا قط بأننا نتعذب في غيابهم، وهكذا هو الفراق، لا يترك أحدًا دون أنين، فلكل منا نصيبه من المعاناة والألم.
فَبَرك لهم عاصم حكاية؛ كي لا يكشف كذبها أمام صغيره والحضور، يكفيه من الجرم ما فعله بوالدته، لن ينتقل إلى جدته إذن، ليقول لهم في تأثر:
- لقد فقدت السيطرة على عجلة القيادة بينما هي تجلس بين ذراعي، ولم أشعر بأي شيء بعدها..
توقف للحظات، يُغالب عبرات الدموع، وهو يتذكر ما أخبره الطبيب به، صرخت باسمه حتى لحظاتها الأخيرة، ليُكمل قائلا:
- وبعد ذلك حين استيقظت فوجئت بنفسي في مكان مهجور، يبدو بأنه حين انقلبت السيارة وقعت خارجها، وبقيت هي بالداخل، وحدث ما أنتم تعرفونه.
لم يقو على المواصلة أمام ابنه، وخاصة أن السيدة سميرة قد أتقنت صنع الحكاية، ولحسن الحظ لم تُخبره بما فعله؛ ليرتمي في حضنه وهو يبكي لعودة أبيه، وفراق أمه، فالآن لم يعد يتيمًا كما أخبروه.

في المستشفى
تباعد نور بين مقلتيها بصعوبة، تُجاهد لفتح عينيها، ولكن يبدو بأن تأثير المهدأ ما زال حاضرًا، فلا تستطيع، لتستسلم له ثانية، ولكن رغم ذلك كانت تشعر باقتراب أنفاسه، فهو يجلس بين يديها، لم يفارق جوارها قط، توقفت الحياة بالنسبة إليه خارجًا، وأصبح كل ما يعنيه جوارها، ليقول لها في آسف، حين رأى محاولاتها:
- ارتاحي يا حبيبتي، لا ترهقي نفسك، فأنا هنا معكِ.
ترن كلماته في أذنيها كالسيمفونية، فتطرب لها سمعًا، وتستجيب لأمره، فهو هنا معها، لا يفرق معها إذن أي شيء، سرحت للحظات، لتنفصل عن كل ما يؤرقها، إلا أنها ما لبثت أن عادت إلى واقعها حين تناهي إلى سمعها ذلك الصوت، فانتفض إبراهيم، وذهب به إلى الخارج، يقول له الآخر في حدة:
- أين الإيجار؟، تأخرت كثيرًا، وبعض الملاليم التي كانت تأتيني من هذه الفتاة، لم تكون تكفيني، ولولا تدخلك بالأمر، لألقيت بذلك الأثاث خارجًا.
ارتدت تلك الكلمات في صدرها، فكم أحب والدها ذلك الشخص، وكان كالخادم تحت يديه، يتولى شئون سكانه، ويفعل كل شيء في غيابه، فبلغ منه العشم مبلغه حتى ضربه في مقتل حين قام بطرده، لا يرأف بحالته وقصر ذات يده كأخوته، فهم وإن لم يكبر معهم، إلا أنه أحبهم من أعماقه، فوصل به الحال إلى هنا، لتُردد ابنته في ألم قائلة:
- ومن العشم ما قتل.
ينهض كريم من فراشه على عجل، متجهًا إلى المستشفى، فيبدو وأن شيئًا ما بداخله قد تحرك لأجلها، لا يعرف ما هو، ولم يتبين الشعور بعد، ولكنه يبدو مؤثرًا، استطاع أن ينتشله من وسط الذكريات السيئة التي لا تتوقف عن الإطاحة بعقله، حدث تلو الأخر يحضر خلال ذاكرته، ويبقى هو فاقد الإرادة أمامه، يتركها تفتك به كيف تشاء، فما من أمل يحيا لأجله، يتذكر تلك الرسالة التي جاءت بوالده في ساعات معدودة، فقد سافر إلى الخارج مع تلك الممرضة التي تزوجها بعد رؤيته في الروضة، لم يكن في حال جيد للدخول في صراع مع السيدة سميرة، يتركه في أمانتها، ولكون كريم علم بوجوده، لم تفتح فاهها، وانصاعت للوضع الحالي كحاله هو، يتصل به بين الحين والآخر حتى مرت السنوات، وهو يظن والده ملاكًا، وما لبثت تلك النظرة أن سقطت من عينيه حين اضطرت جدته إلى كشف الحقيقة، فابنتها تريد رؤية فلذة كبدها، وعلى الفور استجابت لها، فهي تعرف ماهية الشعور، ليُصدم في والده، ويتحول الحب إلى كره شديد، لم تحصد والدته من الحب سوى الأنين، حُرم منها طوال تلك السنوات، وحين رآها لم تكن بحالة جيدة، ترجوه من بين دموعها أن يأخذها معه، ليقول لها في حب:
- عودي معي يا أمي، أنا والله أفتقدك في كل لحظة، فكوني بخير لأجلي أرجوك.
سمح لها الطبيب بعد تحذيره الشديد للسيدة سميرة، وجاء عاصم إلى المستشفى على عجل، لا يصدق ما يراه بعينيه، زوجته ما زلت على قيد الحياة، وحين أوشك على الاقتراب، وقفت السيدة سميرة قبالته، تحول بينها وبينه، تزجره في غضب قائلة:
- إياكِ والقدوم إلى هنا ثانية، اذهب في طريقك ودعنا وشأننا، يكفينا ما رأينا منك، ولم يعد القلب والله يحتمل صدمة أخرى.
تحرمه من زوجته وابنه، ويا لقسوة الحياة في غيابهما؛ ليعود عاصم أدراجه، ويختفى من أمام ناظريها إلى حيث أتى.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي