4هروب

صوفيا
اللعنة !!
كرهت الظلام وتعاقب الليالي الباردة ، وكذلك تلك الجدران المقيتة التي تحاوطني ، أجلس في قبو موحش وهذا هو سجني اللعين ، سحبتني دوامة الأفكار وأنا أتذكر ما عايشته خلال عامين من العزلة بعدما أُدينت زوراً واتُهِمت بالسرقة.

أيامي الأولى هنا كانت بالنسبة لي دهوراً لا تفنى ، تعذيب وضرب وحرمان ، جسدي ممزقٌ بالسوط ، ويديّ مكبلتين بأصفادٍ حديدية.

أجلس منزوية في إحدى أركان تلك الزنزانة التي أُلقيتُ فيها دون محاكمة ، وگأنهم كانوا بانتظار حدثٍ ملفقٍ كهذا.

نحف جسدي من شدة الجوع ، فكل ما كنت أقتاته هو وجبة واحدة على مدار يومين أو ثلاثة ، أستمع إلى صوت أحشائي وهي تتقلص ، فلقد تأخر الحارس في إمدادي بما يجعلني بالكاد على قيد الحياة ، أي حياة ؟!
فما أنا به لا يمت للآدمية بِصلة !!

ما عادت مدامعي تذرف مائها ؛ ربما لأنني اعتدت الظلم والجور ، حتى أنني صرت أكثر قوة وصلابة ، ما عاد التعذيب هاجسي ، إذ بدا گأنيسي في الليالي القارصة ، وحمية سوطهم تمدني بالدفء ، تعلمت الصمود أمام سُبلهم السادية في التعذيب.

وبينما كنت شاردة بذكرياتي المؤلمة استمعت إلى صوت خافت يناديني من خارج الزنزانة.

ابتسمت ببؤس ، فمن عساه أن يكون ؟!
حتماً إنه نيكولاي.
استقمت بوهن أجر أقدامي باتجاه بوابة القبو ، أنظر من بين القضبان الحديدية ، فرأيته يتلفت حوله كمن قتل قتيلاً لتوه ، إنه الوحيد الذي كان يتردد علي بين الحين والآخر ، وفيما عداه فأنا بطي النسيان ، دوماً ما كان يسأل عن أحوالي ، وعمَّ ينقصني ، ولولاه لكنتُ قد أنهيتُ حياتي بيدي.
إنه الأمل الذي جعلني أتحمل كل هذا العذاب.

اقترب نيكولاي من الباب الحديدي الخاص بالزنزانة ، وانحنى قليلا يهمس بأذني :
- "اسمعيني جيداً ، لدي خطة للهروب من هنا ، لقد خرج القائد في مهمة استكشافية ، وأخذ معه عدداً كبيراً من أفراد القطيع ، ولا يوجد سوى حارس واحد بالخارج ، هل أنت مستعدة للهروب ؟"

نظرت إليه بلهفةٍ ، وأجبته بحماس :
- "بالطبع ، أنا على أتم الاستعداد".

ارتسمت على ثغره تلك الابتسامة المطمئنة ، يقول :
- " حسناً ، إليك ما سأفعله........ "

مر أقل من ساعة ، وبدأ نيكولاي في تنفيذ خطته ، ويبدو أنه دس شيء ما بطعام الحارس.

ثوانٍ واستمعت إلى صوت ارتطام جسد أحدهم بالأرض ، تزامناً مع صرير مفصلات باب الزنزانة العتيق وإذا به يُفتح ، ونيكولاي يطل برأسه من خلفه ، يحثني بإشارة من يده على التقدم إلى الخارج.

أجفلتُ ، عندما وضع ثوباً ما على جسدي ، كان فضفاضاً ذو غطاء رأس ، شيء ما أقرب إلى عباءة السحرة ، وهو يقول :
- "لا تخلعي عنك هذه البردة حتى تبتعدي عن هنا ، وتصبحي بمأمن".

أومأتُ إليه بطاعة ، وسيرنا نتسلل في غسق الليل حتى أصبحنا بمنأى عن أعين الحراس القليلين الذين ظلوا يحرسون مخيم القطيع بالجبل في غياب قائدهم.

بعد مسافة كبيرة قطعناها عدواً ، نتجنب الربى حتى لا يلمحنا أحدهم ، توقف نيكولاي ، وكلانا يلهث بأنفاس متقطعة ، ومن ثم قال :
- "مرحى صوفيا ، أنت طليقة الآن ، ابتعدي قدر استطاعتكِ ، ولا تنظري خلفكِ ، إذا عثر عليكِ أي من أفراد القطيع ، سيُعد هذا حكماً بالإعدام مشمولاً بالنفاذ".

أومأتُ إليه بالإيجاب وإذا برياح عتية تهب من جهة الشرق حصرت تلك العباءة وثوبي البالي الذي ارتديه أسفلها إلى منتصف فخذي ، وظهر ذاك الوشم الذي لمحه نيكولاي ، فسألني بريبة زاوياً ما بين حاجبيه بإمعان :
- "غريب!! من أين لكِ بشيء كهذا ؟!"

أجبتُ سؤاله بآخر :
- "ماذا تقصد؟!"

لم يجيبني بالكلمات وإنما رفع يساره يُمزِّع ثوبه من أعلى كتفه الأيمن ، وإذا بوشم مماثل لخاصتي يحتل ذراعه.

دهشة اعترت كلانا ولا تفسير لدى أياً منا ولا وقت لإيجاد حلٍ لهذا اللغز ؛ إذ علا بالأرجاء صوت البوق كإشارة لاقتراب من رحلوا للاستكشاف.

ضممتُ نيكولاي بقوة ، وشكرته من أعماق قلبي ، ومكثت بين ذراعيه لأطول فترة ممكنة ، وأنا أذرف الدموع ، وفكرة أنني لن أره مجدداً جعلتني أرغب بالتشبث به وأرجوه ألا يفعل، فهو أماني.

ركضتُ مرغمةً إلى المجهول بقلبٍ تلاشى من قاموسه معنى الخوف، فلن يحدث لي أسوأ مما قد كان.

بعد مرور بضعة أسابيع، وأنا أتنقل من مكان إلى آخر هاربة، بدأتُ أشعر بالتعب والإرهاق ؛ فقد كنتُ أقضي الليل وسط البراري ، أو في البيوت المهجورة ، أتسلل متسترة بعباءة نيكولاي إلى أي من أسواق القرى التي كنت أمر بها لأبتاع ما أقتاته.

ليالٍ هجرني فيها النوم ، وإذا ما غلبني النعاس كنت أنتفض من مرقدي مذعورة ، كلما تهيأ لي بمنامي أنني وقعت بأيديهم مرة أخرى.

أيام متشابهة وليالٍ طوال، وفي أمسية وبينما كنت أتجول دون هدى، لاح لي ضوءٌ في الأفق البعيد.

تبعتُ الضوء بجسدٍ خائر من شدة الإنهاك، وإذا بي وسط قرية صاخبة ، علمت من أحاديث المارة أن هناك حدث جلل ، فالجميع يحتفلون بزواج زعيم قطيعهم.

الجوقة تعزف ألحاناً منمقة على قارعة الطريق وهناك ألواح خشبية مرتصة أرضاً كحلبة للرقص تتوسط سوق القرية ، الجميع سعداء ؛ إذ كان الاحتفال حماسي مليء بالبهجة.

شهقت بتفاجئ وأحدهم يقبض على معصمي يجذبني معه إلى المساحة المخصصة للرقص ، وبالرغم مما بي من إرهاق ، إلا أنني وجدت نفسي انسجم مع الأجواء وأنا أتابع شريكي الغريب وأقلد خطواته وأجاريه.

مر بعض الوقت وبعدها تابعت سيري وسط الزحام ، ومن ثم عاودني الإحساس بالجوع الشديد . فأنا لم أتذوق الطعام منذ أكثر من ثلاث ليال ؛ إذ قد نفذ المال الذي بحوزتي.

سرت بين الناس وعيني مصوبة على الخبز المعروض أمام أحد البائعين . كان الخبز طازجًا وذهبيًا ، وينبعث منه رائحة شهية.

كان البائع مشغول بالحديث مع أحد الزبائن ، فلم ينتبه إلي. مددت يدي بسرعة وأخذت قطعة من الخبز خلسة . ثم سرت بعيداً ، دون أن يلاحظني أحد.

أعلم أن ما فعلته كان خاطئاً ، لكن لم يكن أمامي خيار آخر . فالجوع وحش كاسر.
شعرت بالأسف على نفسي ، لأنني أصبحت في النهاية سارقة ، تهمة أُلصِقت بي زوراً في الماضي أما الآن صرت مثلما ادَّعوا.

ابتسامة ساخرة علت ثغري ، وأنا أقضم أول قطعة من الخبز ، وعيناي تتفقد كل ما يدور من حولي بانبهار ، فأهل هذه القرية يختلفون تماماً عن قطيعنا ، آمنين ووجوهم تشع بالحياة.

زفرت بضيق عندما شعرتُ بأن هناك من يراقبني . توقفت خطاي ، وأنا اتلفت حولي بحثًا عن هذا الشخص إلى أن وقعت عيناي عليه ، كان يحدق بي بعمق ، مما أشعرني بالارتباك.

سبة نابية تمتمت بها عندما تسللت إلى رئتي تلك الرائحة التي ما إن التقطتها حتى تعرفت على صاحبها.
أجل ، إنه الألفا ألكساندر ، وأنا مَن أتيت إلى هنا ، أنا الآن بعقر دارهم ، المارقة وسط قطيع القمر الأحمر.

دون إرادة أغمضت عيني ، وأنا أسحب أكبر قدر من الهواء المحمل بعبقه ، وإذا بكلمات غير مفهومة صدرت عن ذئبتي ألورا لم أفسر منها إلا القليل وكان من بينها ، "رفيق"

تبِِعتها تهمس بصوت واضح في عقلي ، قائلة بحماس :
- "إنه وسيم للغاية وتلك الهيئة الملكية والزي الرسمي يعطيانه هيبة ووقار . لقد سرقت عينيه من البحر زرقته ، وأكثر ما يعجبني ذاك الشعر الأسود الكث الذي يغطي ياقة لباسه ... واو يبدو شرساً كقراصنة الكاريبي"

الأفكار الماجنة باتت تتدفق بكثرة مشتتة انتباهي بسبب ذئبتي التي لم أكن أعلم أنها منحرفة إلى هذا الحد.

همست ألورا عبر الرابط :
- " أحب تلك اللحية الخفيفة إنها تكسبه المزيد من الجاذبية ، أما تلك الشفاه الغليظة فأنا متأكدة أنها جيدة في التقبيل ، ويديه ذات الساعدين البارزة أوردتها فأنا على يقين تام بأن لها منافع كثيرة".

اتسعت عيناي للحظة وأنا ابتلع بإثارة ، وفي الحال قضيتُ على آمال ألورا الحالمة في الارتباط برفيق القمر.

زمجرت آمرها :
- "اصمتي أيتها المنحرفة ، وكُفي عن بث تلك الأفكار اللعينة بعقلي ، مخبولة أنت إذا ظننتي أنه يستقبلنا ، نحن روجرز وهو سليل العائلة المالكة".

تراجعتُ خطوة إلى الخلف ، وأنا استعد للهرب وكأنه مصيري المحتوم ،
أجفلت لوهلة وأنا أجده أمامي مباشرة ، يتأملني بنظرات وقحة ، راسماً على ثغره تلك الابتسامة اللعينة التي جعلت الحرارة تدفق إلى أوردتي ، يسألني وزرقتيه تخترق أعماقي :
- "ما اسمك يا جميلة؟"
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي