3إتهام

شعرت بقبضة تعتصر قلبي ، الحزن يخيم على الأجواء. وها نحن ، محتشدون نقوم بالمراسم الجنائزية لدفن ما عثروا عليه من بقايا جسد لوسيا.

تلك كانت أول مرة أرى فيها الدموع بعيني أبي ، وكأن عمره قد تضاعف في ليلة وضحاها ، وما به من وهن يدل على مدى ألمه لفقدانها.

نظرات اللوم بمقلتيه موجهة إلي كأصابع الإتهام ، أرتميت بين ذراعي أمي التي هرمت أثر هذه الفاجعة ، فأحضانها ملجأي الذي أشعر فيه بالأمان.

ولكن لم الآن ينتابني إحساس بالبرودة والجفاء ؟!

ترى هل تلومني هي الأخرى على موت لوسيا ؟!

لم تقولها بالكلمات ولكن نظراتها توحي بالكثير.

ألقيتُ نظرةً عابرة باتجاه نيكولاي ، وأنا أخشى من أن أرى نفس النظرات اللائمة بعينيه ، ولكنه بدا منفصلاً عما حوله ينعي خسارة قلبه.

أنفض الجمع بعد أن قام أبي بإضرام النيران في التابوت العائم على وجه الماء الذي يحوي رفاة شقيقتي.

قادتني قدماي إلى حيث مكان وقوف نيكولاي ، كان شارداً ، فبسطتُ يدي بتوجس أربتُ على كتفه كي ألفت انتباهه.

شعور بالغيرة غزى نواجزي عندما رأيت دموعه المنهمرة على وجنتيه ، أردتُ أن أخبره بحقيقتها فهي لا تستحق هذه الدموع ، ولكنني تراجعتُ باللحظة الأخيرة ، لا يجوز الخوض في سيرة الأموات لقد رحلت ودُفِن سرها معها.

تمتمتُ أقول بمواساة :
- هون عليك نيك، الحزن يولد كبيراً ويختفي شيئاً فشيء.

أجابني بصوتٍ متحشرج :
- كيف لكِ أن تشعري بما في قلبي ؟! من المؤكد أنكِ سعيدة لموتها.

كلماته السامة وقعت على رأسي كدلو ماء بارد ، ثُرت أقول بجفاء :
- لم جميعكم تروني بكل هذه البشاعة ؟! لست شريرة إلى هذا الحد نيك.

- لقد حزنت كثيراً لموتها ، بالنهاية هي شقيقتي ، اختلفنا أم اتفقنا فالدم رابط بيننا.

لانت نظراته ، وعلى ما يبدو أن أبي لم يخبره بما حدث ، فبالرغم من أنه يحملني العبأ الأكبر ، إلا أنه يشعر بالذنب ، فإذا صدقني حينها وبادر بالتصرف ، لكانت لوسيا بيننا الآن.

عقب نيكولاي يقول بأسى :
- آهٍ صوفيا، ها هنا وجع قاتل.

قالها وهو يشير إلى صدره جهة اليسار، يلقي بحمل رأسه إلى كتفي انهيار تام، تجمدتُ في مكاني ، ولا أعلم ما يتوجب علي فعله ، ولكنني وجدتُ نفسي أربت على ظهره بمواساة ، حضن تمنيته ولم أكن أعلم أنه حينما يقدم على فعلها سيكون بلحظة ضعفٍ يبحث عن داعم.

شعرتُ بأعين تختلس النظر إلينا ، وبريقها يضوي في الظلام ، ولكنني لم أتبين صاحبهما ، وما إن أمعنتُ النظر في هذا الاتجاه اختفى صاحب الجسد في عتمة الليل.

مرت أيام الحداد ، وشعرتُ باختلاف معاملة أمي لي ولكنني أرجأت السبب كونها لازالت حزينة على وفاة لوسيا.

أيام وأسابيع ولَّت ، وتقلصت المسافة بيني وبين نيكولاي ، العلاقة بيننا أخذت طابع الصداقة نخرج سوياً للصيد ، نقضي أوقات ممتعة في السمر وأصبح التعامل بيننا أكثر سلاسة ، شرارة العشق بداخلي انطفأت وما كنت أُكنَّه له تحوّل إلى شعورٍ آخر.

وذات ليلة بعد أن أنهيتُ نوبة حراستي على خزائن القطيع ، وجدت أبي يقتحم علي خيمتي ، يشيح بيده في وجهي ، يهدر قائلاً بحدة :
- هااي أنتِ ؟! هناك عجز بأموال الخزينة، وهذه المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا في قطيعنا ، ومتى ؟! في نوبة حراسة ابنة القائد !!

- أريد تفسيراً لما حدث ، أين اختفت تلك الأموال ؟

وقبل أن أتفوه بكلمة وجدت أمي ، وخلفها ماريا التي أشارت لي بإتهام تقول :
- لقد رأيتها تتسلل إلى خيمتها في وقت نوبة الحراسة تحمل بيدها كيس من القماش وهي تتلفت حولها كاللصوص، لابد وأنها قد أخفته في مكان ما هنا.

انقض أبي يقبض على خصلات شعري بقوة ، يقول بغيظ من بين شفاهه المزمومة ، وقد استعرت عينيه بغضب جحيمي :
- هل ما تقوله ماريا صحيح ؟!

بمجرد أن نظرتُ بوجه ماريا علمت أنه فخ قد نُصِبت شباكه بإحكام ، وأن هناك من دس الأموال هنا للإيقاع بي وغالبا ماريا هي الفاعلة ، ولكن لِمَ فعلت ذلك ؟!
أجبته وأنا أوقن بأن ما سأقوله لن يغير من الأمر شيئاً :
- إنها كاذبة ، أنا لم أترك نوبة حراستي ، سوى لقضاء حاجتي وكانت مرة واحدة ، ولم أذهب إلى خيمتي على الإطلاق.

- لقد قلت أنها أول مرة تحدث فيها سرقة من خزائن الأموال ، ولكنها لم تكن مرتي الأولى لأتولى نوبة الحراسة.

- هناك شيء خاطئ فلو أردت أن أختلس سيكون ذلك في نفس الليلة التي أقوم فيها بالحراسة ؟! .

- على ما أعتقد لا يوجد من هو بالغباء ليفعل ذلك!!

خفف من عزم قبضته على شعري ، ودب الأمل بداخلي ، ولكن سرعان ما وئدته تلك الحرباء وهي تقول بتهكم :
- تمثيل متقن تعتمدين فيه اللعب على مشاعر الأبوة ، ولكن يا قائد إذا علم أفراد القطيع أنك تساهلت كونها ابنتك ستعم الفوضى ويشيع الانقلاب ، ونحن نثق في عدالتك وأنك ستقيم الحد على السارق.

ومن ثم عاودت النظر إلي تقول بضغينة لا أعلم سببها :
- الفيصل في هذه الواقعة هي الأموال ، إن ضُبِطت هنا ، فلا مجال للشك في أنكِ الفاعلة.

اشعلت تلك الواشية النار في الرماد، وعلا صوت أبي يستدعي الحرس ، يأمرهم بتفتيش الخيمة ، ولم يكد ينهي عبارته حتى قلبوها رأساً على عقب ، وإذا بأحدهم يهتف :
- انظر سيدي ؟! لقد وجدت هذا الكيس أسفل الفراش وبداخله الأموال.

قبضةٌ من يدي أبي استماتت على ذراعي، وهو يسحبني خلفه بطريقة مهينة إلى خارج الخيمة تزامناً مع ابتسامة شامتة ارتسمت على ثغر ماريا.

صاح أبي بقوة :
- هناك قوانين وُضِعت منذ قديم الأزل تُجَرِّم السرقة في قطيعنا ، والكل على عِلم بها ، وأنا لن أتهاون في تطبيقها حتى لو كان السارق هي ابنتي.

نظرتُ إلى أمي أتوسلها في أن تتدخل ولكنها أطرقت رأسها بخزي ، حتى صديقي نيكولاي لم يجرؤ على مخالفة أوامر القائد ، فحولتُ بصري إلى أبي أُناشده :
- أرجوك أبي، صدقني ... أنا لم أفعلها ... لست سارقة ... لِم قد أفعل ذلك وأنا ابنة القائد ويلسون ؟!

وكان رده : - اخرسي أيتها السارقة ، لا أريد سماع صوتك ثانية.

قالها وهو يهوي بكفه العريض على وجهي، يصدر أمراً إلى الحرس :
- ألقوها في غياهب السجن حتى تتم محاكمتها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي