الفصل الثامن عشر
نترك اشياء؛ لنلتقي باخرى، ونترك اخرى؛ لنلتقي بغيرها ة، تلك هي طبيعة الدنيا، نتبادل بها الادوار، كل منا يكمل دور من سبقه، وشيء يأخذ مكان الآخر، نتسابق للحصول على رغباتنا ورغم ذلك نتركها عند الفراق، تتملكنا الرغبة الجامحة والفضول والحماس المفرط لخوض؛ تجربة لم نعشها من قبل، وعندما نتمكن من عيشها ومعرفة تفاصيلها وخباياها، يموت حماسنا، وتدفن رغبتنا بها، وتكون اللامبالاة هي شعورنا الوحيد تجاهها.
ليس كل ما نتمناه ندركه، وليس كل ماندركه هو مانتمناه، لكن علينا تقبل اقدارنا بالرضا، ربما ما لا نتمناه هو خيراً يعوضنا عن خسارة ما نفقده.
رحلتنا بالحياة لا تنتهي برغبتنا، بل تنتهي فقط عندما ينهي قدرنا المكتوب وتغلق صفحات اعمارنا، ويؤذن لنا بالرحيل فتسلب ارواحنا بقدرة وطريقة لا يعملها سواه ومن اذاق الموت، فاجعل رحلتك تؤتي ثمارها قبل أن تتساقط اوراقها.
عندما قررت سهيلة الرحيل اعتقدت أن الحياة المرة قد أنتهت، وانها تقبل على سعادة لن تنتهي برفقة عشقها، لكن للاسف كان الاسوأ قادم وما مضى ليس سوى فقرات بسيطة ومبدأية لبداية عرض لم تراه في حياتها ولن تشاهد أحداثه سوى على منصة سحر آثر وعائلته.
دخل آثر غرفة سهيلة يتعجلها في القدوم، وجدها تبكي بشدة، فزع آثر من رؤيتها بهذا الوضع وظن أن هناك شيئاً قد حدث لم يعرفه، جلس جوارها وقال وهو يربت على كتفها:
-ما الامر يا سهيلة؟ ماذا هناك؟ لم تبكين هكذا؟!
اجابت سهيلة وبكائها لا يتوقف، وكأنها تتألم بشدة:
-لا شيء، لا شيء.
خرج آثر يستدعي شقيقته وقال:
-منال تعالي الى هنا.
عادت إليه باستغراب:
-ماذا هناك؟!
-انها سهيلة تبكي بشدة في غرفتها لا اعلم ماذا حدث؟
-لا تقلق ربما لانها ستغادر عائلتها، انه امر طبيعي، ساراها.
دخلت منال وآثر إلى غرفة سهيلة، جلست جوارها منال تضمها إليها وقالت:
-لم تبكين يا سهيلة؟ نحن ايضا عائلتك، هيا قومي معي واحتضني أمك، وودعي عائلتك، هيا قومي.
امسكت منال بيدها وذهبت بها إلى الداخل حيث كانت تجتمع جميع العائلة، كانت والدتها حينذاك تقف جوار الدرج تمسك بفرشاة تنظيف الارض، تستعد لتنظيف المنزل بعد رحيل سهيلة، لقد كانت سهيلة تحمل عنها الكثير والكثير من الاعباء المنزلية، والتي كانت تعتمد عليها كل الاعتماد عند خروجها من المنزل.
دخل منال إليها وهي تجر خلفها سهيلة من يدها، وقفت أمامها وقالت:
-هيا يا سهيلة احتضني أمك.
نظرت سهيلة إلى والدتها بنظرة وداع قاتلة، اخترقت قلب والدتها التي تشعر بها دون أن تتكلم، وقالت أنها بحزن شديد وهي تقدم عليها لتضمها:
-لم تبكين يا سهيلة؟ أنا سآتي إليك لحضور زفافكِ.
ضمتها إلى احضانها بشدة، علا صوت بكائهما حتى جعل جميع الحضور يبكون دون توقف، تلك المشاعر بين الام وابنتها التي لا يمكن لاحد منعها ولا تغييرها مهما فعل، انها مشاعر فطرية، فطر الله عليها قلب الام وقلب الابناء، مهما حدث من خلافات واختلافات تظل الابنة قطعة من روح امها، وتظل الام هي ملجأ الابنة الوحيد الذي تشعر بين احضانه بالامان والاطمئنان.
فرفقاً بامهاتكم اللاتي ارضعنكم، فلن تجدوا قلبا يحن عليكم سوى قلوبهن، ولن تشكوا لاحد دون خوف سوى لاحضانهن.
ظلت سهيلة تبكي بين زراعي امها وكأنها التصقت بها بغراء لاصق يصعب على الجميع فكه، حاولت زوجة خالها أن تبعدهن عن بعضهن، لكنها لم تسطيع، حتى التم اخوات سهيلة حولها يبكون بشدة وابعدوهما بصعوبة، سقطت والدة سهيلة جالسة على الدرج خلفها، لقد تعب قلبها وتألمت من فراق قرة عينها، كانت تتمنى في تلك اللحظة أن تمسك بيدها وتخبرها بأن لا ترحل، لكنه القدر والنصيب الذي لا يمنعه شيء.
اخرجوا سهيلة من المنزل بعد توديع عائلتها بالبكاء والالم، وقفت أمام المنزل وسط الجميع تستعد للذهاب، اقبلت على الدرج الرئيسي أمام المنزل، وفجأة تحاول تمالك نفسها عند رؤية والدها، خرج والدها من الباب الآخر لغرفة الضيوف الذي يطل على الشارع الرئيسي، ذهب إليها وأمسك بيدها واخذها خلفه إلى داخل الغرفة، جالسها وقال:
-اجلسي هنا يا سهيلة.
جلست سهيلة أمامه على الاريكة ووقف أمامها واضعا راحته اعلى رأسها، يقرأ الرقية الشرعية متمنيا من قلبه أن يحفظ الله ابنته في غيبتها ويردها إليه سالمة، بعدما انتهى من رقيتها قال بصوت باكِ:
-مصر تشبه البحر، ليس لها آخر ولا نهاية مرئية، من يمكنه العوم ينزل إليها ومن لا يمكنه لا يقدم على نزول شوارعها دون معرفة سابقة، انها جريئة وعميقة وقلابة كموج البحر، فاحذري منها كل الحذر، لا تذهبي إلى مكان وحدكِ، ولا تتعرفي الى احد وتدخليه إلى منزلك وتعلميه باسرارك، فهناك الكثير من النفاق والكذب لا يمكنك رؤيتهما بوضوح في البداية، تخبركِ إحداهم انها تحبك في وجهكِ، وعندما تعطيها ظهرك تقوم بطعنكِ دون تردد.
وفي نهاية نصائحة لابنته الغالية، قال كلمتان جعلتا سهيلة تعلم كم كانت ومازالت غالية على قلب والدها، وإنه كان يفعل كل شيء خوفا عليها ولاجل سلامتها من اى اذى، قال بصوت باكِ وعيناه تدمع:
-الاهم من كل ما قلته يا سهيلة هو نفسكِ، اعتني بنفسكِ جيداً، يمكننا تحمل اي خسارة الا خسارتكِ، كوني بأمان لاجلنا ولاجلكِ.
تلك الكلمات التي كانت كالسهام الحادة اقتلعت قلبها من موضعة، جعلتها تقول في خاطرها:
-ليتني لم أغضبك مني يوماً يا ابي، سامحني، اود أن احتضنك بشدة واقول لك أني لا اريد الرحيل، أمسك بيدي ولا تدعني اذهب، لكن فات الاوان وانا من اخترت طريقي، وعلي إكماله.
احتضنت والدها بشدة وخرجت إلى السيارة، صعدت إليها بصحبة رباب وشقيقتها الصغرى اسماء، وعائلة آثر، كان الجميع يقف على باب المنزل ليس هناك فرد منهم لا يبكي، واحمرت عيناهم من شدة البكاء، حتى الاطفال.
بالطبع هذا ما يحدث عندما يغادر شخصا يحبه الجميع، حتى الجيران كان الجميع يقف على نافذات منازلهم تراقب نظراتهم رحيلها، انها سهيلة الفتاة ذات الابتسامة البريئة، صاحبة الوجه البشوش والقلب الطيب، ذات الاخلاق الحسنة، التي كانت يتصارع عليها الجميع للحصول على رفقتها، تصارع عليها الشباب للحصول عليها مزوجة، تلك الضحكة التي كانت تملأ ارجاء المنازل عند قدومها إلى اي منهم.
غادرت سهيلة منزلها وشوارعها ومنطقتها ومدينتها باكملها، عندما صعدت سهيلة السارة وانطلقت بها، مرت السيارة بجوار مقابر العائلة، قرأت سهيلة الفاتحة على ارواح امواتنا وروح جدتها التي كانت تعشقها، التي تمنت أن تكون على قيد الحياة تشاركها فرحتها.
غادرت سهيلة موطنها، وعندما رأى والد آثر دموعها لم تتوقف، قال بسخرية:
-تلك هي دموع التماسيح، يا آثر لا تنخدع بها.
ضحكت سهيلة وحولت الامر لمزاح واجابت عليه بطريقة جعلته يحرج دون أن يلاحظ أحد فقالت:
-عمي أنك اليوم غادرت منزلك الذي نشأت فيه، لا تخجل من الطلب مني ان احتجت إلى شيء ما، لقد اصبحت اليوم مثل والدك.
ضحك الجميع على حديثها، ثم قالت مبتسمة:
-ماذا افعل؟! انتظرت سماعها منه لكنه لم يفعل، اخبرته انا بها وقمت بالواجب بدلاً منه.
ضحك آثر وقال:
-لم أكن اعلم أنك خفيفة الظل الى هذا الحد، يا لكِ من فتاة مشاكسة.
وصلوا إلى القاهرة بعد ساعات من السفر، ترجل الجميع أمام منزل عائلة آثر، وانزلوا اغراض سهيلة وحقائبها من السيارة، فقالت سهيلة:
-آثر لم لا نذهب الى شقتنا ومنزل هذه الأشياء هناك؛ حتى لا يضيع شيئاً منها؟!
قال آثر وهناك علامات للتوتر على وجهه لا تعلم سهيلة ما سببها:
-لا تقلقي ساضعها هنا، وننقلها لاحقاً على رواق من أمرنا.
تعجبت سهيلة من توتره وتغير ملامحه، ظلت تقف تنتظر ماذا سيحدث، وجدت أن اكرم ذهب ومنال وزوجة اكرم صعدوا إلى أعلى لمنزلهم، حتى أنهم لم يضيفوا السائق ومرافقه على شيء ما، طعام أو شراب كما اعتادت سهيلة أن يحدث ذلك في بلدتها، ولكن من اختفى ولم يجدوه في برهة من الزمن هو والده.
بعد نزول الجميع اختفى والد آثر ولم يجدوه، علمت سهيلة أن هذا ما يجعل آثر متوتر الى هذا الحد، لكن الغريب لم يتوفر آثر لغياب والده؟! أجل كانت الطريقة التي اختفي بها مثيرة للشك ولكن ليس هذا ما يجعله متوتراً الى هذا الحد، أخبرته منال شقيقته أن والده ذهب إلى عمله ومطبعته الخاصة بحجة أن هناك أناس يريدونه في عمل.
كان آثر يضرب كفا على كف وهو يقف بعيدا مع اكرم، كانت سهيلة تراقبه من بعيد، ثم اقترب منها وقال لها:
-هيا اصعدوا الى أعلى.
امسكت سهيلة بزراعه برفق وقالت:
-ما الأمر؟ انا لا اريد الصعود الى اعلى اريد الذهاب الى شقتي لاراها، وارى مابها.
-قال آثر بقلق:
-حسنا انتظري حتى قدوم محمد اخي، هو لديه مفاتيح الشقة.
-ولم محمد لديه مفاتيح شقتنا؟!
-كنت اتركها معه؛ لأن كان هناك عمال مازالوا يعملون بها، اصعدي الآن لا تقفي هكذا في وسط الشارع، اصعدي إلى منال، ساوافيك بعد قليل.
صعدت سهيلة ورباب وشقيقتها الصغرى اسماء إلى اعلى، وجدت منال جالسة تشرب الماء وفي الجهة الأخرى شهد زوجة أكرم تشرب الماء ايضاً، فقالت منال عند رؤيتهم أمام باب الشقة:
-ادخلوا تعالوا، يا شهد اجلبي زجات مياه من البراد.
قامت شهد تجلب المياه، جلست رباب وسهيلة واسماء، يتبادلون الحديث مع منال، فجلبت لهم صورا قديمة لها ولعائلتها وخطيبها الاول والثاني، وصور زفافها، ظلت سهيلة تشاهد الصور ويمزحون مع منال، لكن بالها منشغلا بآثر وقال لمنال:
-أين والدكِ يا منال؟ لقد اختفى فجأة هكذا! إلى أين ذهب؟
قالت منال ببرود:
-لديه عمل مستعجل في المطبعة، اتصل به زبون يريد شغل، وذهب إليه.
-هكذا دون أن يخبر أحد، لقد ظننت أنه ذهب للصلاة عندما ترجلنا من السيارة وكان اذان العصر قد رفع.
-اجل اجل لقد اخبرني أنه أدى صلاة العصر وذهب.
تعلمون أن سهيلة تعرف في قراءة لغة الجسد، علمت من تغيرات ملامح منال أن هناك خطب ما، فقالت لها:
-لم آثر متوتر الى هذا الحد؟ الا تعلمين ماذا هناك؟! لم يخبرني شيئاً.
-لا اعلم لم يخبرني، ربما لأنه يريد مال لأجل السائق كان يقول اكرم شيء عن هذا.
قالت سهيلة وكأنها حصلت على ما تريد من جوابها:
-اممممم حسنا ربما.
قامت سهيلة تتجه إلى نافذة المنزل وتتصل بآثر:
-أين انت يا آثر؟ لم كل هذا التأخير؟!
-انا قادم يا سهيلة فقط بضع دقائق واكون عندكِ.
-حسنا اريدك أن تجلب لي شيئاً من الصيدلية.
-ماذا تريدين؟!
سكتت سهيلة قليلاً من خجلها ثم أخبرته بأنها تشعر بمغص في بطنها، وليتها ما اخبرته، لقد زادت عليه الأمر، غضب أكثر مما كان وقال لها:
-حسنا اغلقي الخط الآن، ساجلبه لكِ.
-حسنا.
كان خطأ سهيلة هنا انها تحدث أمام منال وشهد عن الامر، أخبرتهم بما تشعر به وأنها ربما لن تستطيع إكمال ليلة دخلتها بسبب مرضها الشهري، قالت رباب:
-لا عليك يا سهيلة ليس بالأمر الصعب، لا ذنب لك في ذلك ربما تغيرت هرمونات جسدكِ؛ من شدة التوتر الذي مررتِ به في الفترة الماضية، عليك باحتساء السوائل الساخنة وستنقضي الفترة أقل من العادة.
قالت سهيلة بتوتر:
-حسنا لنذهب إذا إلى الشقة؛ حتى أبدل ملابسي وارتاح قليلاً، لكني جائعة جداً لا اعلم لم تأخر آثر كل هذا الوقت، ربما يجلب طعاماً لنا.
قالت منال بكل برود:
-ربما.
تعجبت سهيلة من جلستها هكذا دون مبالاة، فهم ضيوف لديها في منزلها وفي مناسبة سارة، كيف لا تقوم بواجب الضيافة، حتى أنها لم تعزم عليهم بكوب عصير، فقط تجلس وتنظر لما يدور حولها، غمزت رباب لسهيلة، وعملت سهيلة مقصدها، ظهرت بعض العلامات على وجهها فهمتها رباب، فهمت منها أنها لا تعلم ما هولاء البشر، حقا تتعجب من تصرفاتهم.
رفعت سهيلة هاتفها بانفعال وضيق تتصل بآثر:
-آثر اين انت كل هذا الوقت وتاركني هنا؟! انا لا اعلم ماذا تفعل حتى الآن؟ لقد مضت أكثر من ثلاث ساعات منذ قدومي.
-قادم يا سهيلة قادم.
-منذ أكثر من ساعة اخبرتني بذلك، اريد ان اذهب الى شقتي الآن من فضلك، أجلب لي ما أخبرتك به واصعد على الفور.
-حسنا هيا انا آتي إليكِ.
ليس كل ما نتمناه ندركه، وليس كل ماندركه هو مانتمناه، لكن علينا تقبل اقدارنا بالرضا، ربما ما لا نتمناه هو خيراً يعوضنا عن خسارة ما نفقده.
رحلتنا بالحياة لا تنتهي برغبتنا، بل تنتهي فقط عندما ينهي قدرنا المكتوب وتغلق صفحات اعمارنا، ويؤذن لنا بالرحيل فتسلب ارواحنا بقدرة وطريقة لا يعملها سواه ومن اذاق الموت، فاجعل رحلتك تؤتي ثمارها قبل أن تتساقط اوراقها.
عندما قررت سهيلة الرحيل اعتقدت أن الحياة المرة قد أنتهت، وانها تقبل على سعادة لن تنتهي برفقة عشقها، لكن للاسف كان الاسوأ قادم وما مضى ليس سوى فقرات بسيطة ومبدأية لبداية عرض لم تراه في حياتها ولن تشاهد أحداثه سوى على منصة سحر آثر وعائلته.
دخل آثر غرفة سهيلة يتعجلها في القدوم، وجدها تبكي بشدة، فزع آثر من رؤيتها بهذا الوضع وظن أن هناك شيئاً قد حدث لم يعرفه، جلس جوارها وقال وهو يربت على كتفها:
-ما الامر يا سهيلة؟ ماذا هناك؟ لم تبكين هكذا؟!
اجابت سهيلة وبكائها لا يتوقف، وكأنها تتألم بشدة:
-لا شيء، لا شيء.
خرج آثر يستدعي شقيقته وقال:
-منال تعالي الى هنا.
عادت إليه باستغراب:
-ماذا هناك؟!
-انها سهيلة تبكي بشدة في غرفتها لا اعلم ماذا حدث؟
-لا تقلق ربما لانها ستغادر عائلتها، انه امر طبيعي، ساراها.
دخلت منال وآثر إلى غرفة سهيلة، جلست جوارها منال تضمها إليها وقالت:
-لم تبكين يا سهيلة؟ نحن ايضا عائلتك، هيا قومي معي واحتضني أمك، وودعي عائلتك، هيا قومي.
امسكت منال بيدها وذهبت بها إلى الداخل حيث كانت تجتمع جميع العائلة، كانت والدتها حينذاك تقف جوار الدرج تمسك بفرشاة تنظيف الارض، تستعد لتنظيف المنزل بعد رحيل سهيلة، لقد كانت سهيلة تحمل عنها الكثير والكثير من الاعباء المنزلية، والتي كانت تعتمد عليها كل الاعتماد عند خروجها من المنزل.
دخل منال إليها وهي تجر خلفها سهيلة من يدها، وقفت أمامها وقالت:
-هيا يا سهيلة احتضني أمك.
نظرت سهيلة إلى والدتها بنظرة وداع قاتلة، اخترقت قلب والدتها التي تشعر بها دون أن تتكلم، وقالت أنها بحزن شديد وهي تقدم عليها لتضمها:
-لم تبكين يا سهيلة؟ أنا سآتي إليك لحضور زفافكِ.
ضمتها إلى احضانها بشدة، علا صوت بكائهما حتى جعل جميع الحضور يبكون دون توقف، تلك المشاعر بين الام وابنتها التي لا يمكن لاحد منعها ولا تغييرها مهما فعل، انها مشاعر فطرية، فطر الله عليها قلب الام وقلب الابناء، مهما حدث من خلافات واختلافات تظل الابنة قطعة من روح امها، وتظل الام هي ملجأ الابنة الوحيد الذي تشعر بين احضانه بالامان والاطمئنان.
فرفقاً بامهاتكم اللاتي ارضعنكم، فلن تجدوا قلبا يحن عليكم سوى قلوبهن، ولن تشكوا لاحد دون خوف سوى لاحضانهن.
ظلت سهيلة تبكي بين زراعي امها وكأنها التصقت بها بغراء لاصق يصعب على الجميع فكه، حاولت زوجة خالها أن تبعدهن عن بعضهن، لكنها لم تسطيع، حتى التم اخوات سهيلة حولها يبكون بشدة وابعدوهما بصعوبة، سقطت والدة سهيلة جالسة على الدرج خلفها، لقد تعب قلبها وتألمت من فراق قرة عينها، كانت تتمنى في تلك اللحظة أن تمسك بيدها وتخبرها بأن لا ترحل، لكنه القدر والنصيب الذي لا يمنعه شيء.
اخرجوا سهيلة من المنزل بعد توديع عائلتها بالبكاء والالم، وقفت أمام المنزل وسط الجميع تستعد للذهاب، اقبلت على الدرج الرئيسي أمام المنزل، وفجأة تحاول تمالك نفسها عند رؤية والدها، خرج والدها من الباب الآخر لغرفة الضيوف الذي يطل على الشارع الرئيسي، ذهب إليها وأمسك بيدها واخذها خلفه إلى داخل الغرفة، جالسها وقال:
-اجلسي هنا يا سهيلة.
جلست سهيلة أمامه على الاريكة ووقف أمامها واضعا راحته اعلى رأسها، يقرأ الرقية الشرعية متمنيا من قلبه أن يحفظ الله ابنته في غيبتها ويردها إليه سالمة، بعدما انتهى من رقيتها قال بصوت باكِ:
-مصر تشبه البحر، ليس لها آخر ولا نهاية مرئية، من يمكنه العوم ينزل إليها ومن لا يمكنه لا يقدم على نزول شوارعها دون معرفة سابقة، انها جريئة وعميقة وقلابة كموج البحر، فاحذري منها كل الحذر، لا تذهبي إلى مكان وحدكِ، ولا تتعرفي الى احد وتدخليه إلى منزلك وتعلميه باسرارك، فهناك الكثير من النفاق والكذب لا يمكنك رؤيتهما بوضوح في البداية، تخبركِ إحداهم انها تحبك في وجهكِ، وعندما تعطيها ظهرك تقوم بطعنكِ دون تردد.
وفي نهاية نصائحة لابنته الغالية، قال كلمتان جعلتا سهيلة تعلم كم كانت ومازالت غالية على قلب والدها، وإنه كان يفعل كل شيء خوفا عليها ولاجل سلامتها من اى اذى، قال بصوت باكِ وعيناه تدمع:
-الاهم من كل ما قلته يا سهيلة هو نفسكِ، اعتني بنفسكِ جيداً، يمكننا تحمل اي خسارة الا خسارتكِ، كوني بأمان لاجلنا ولاجلكِ.
تلك الكلمات التي كانت كالسهام الحادة اقتلعت قلبها من موضعة، جعلتها تقول في خاطرها:
-ليتني لم أغضبك مني يوماً يا ابي، سامحني، اود أن احتضنك بشدة واقول لك أني لا اريد الرحيل، أمسك بيدي ولا تدعني اذهب، لكن فات الاوان وانا من اخترت طريقي، وعلي إكماله.
احتضنت والدها بشدة وخرجت إلى السيارة، صعدت إليها بصحبة رباب وشقيقتها الصغرى اسماء، وعائلة آثر، كان الجميع يقف على باب المنزل ليس هناك فرد منهم لا يبكي، واحمرت عيناهم من شدة البكاء، حتى الاطفال.
بالطبع هذا ما يحدث عندما يغادر شخصا يحبه الجميع، حتى الجيران كان الجميع يقف على نافذات منازلهم تراقب نظراتهم رحيلها، انها سهيلة الفتاة ذات الابتسامة البريئة، صاحبة الوجه البشوش والقلب الطيب، ذات الاخلاق الحسنة، التي كانت يتصارع عليها الجميع للحصول على رفقتها، تصارع عليها الشباب للحصول عليها مزوجة، تلك الضحكة التي كانت تملأ ارجاء المنازل عند قدومها إلى اي منهم.
غادرت سهيلة منزلها وشوارعها ومنطقتها ومدينتها باكملها، عندما صعدت سهيلة السارة وانطلقت بها، مرت السيارة بجوار مقابر العائلة، قرأت سهيلة الفاتحة على ارواح امواتنا وروح جدتها التي كانت تعشقها، التي تمنت أن تكون على قيد الحياة تشاركها فرحتها.
غادرت سهيلة موطنها، وعندما رأى والد آثر دموعها لم تتوقف، قال بسخرية:
-تلك هي دموع التماسيح، يا آثر لا تنخدع بها.
ضحكت سهيلة وحولت الامر لمزاح واجابت عليه بطريقة جعلته يحرج دون أن يلاحظ أحد فقالت:
-عمي أنك اليوم غادرت منزلك الذي نشأت فيه، لا تخجل من الطلب مني ان احتجت إلى شيء ما، لقد اصبحت اليوم مثل والدك.
ضحك الجميع على حديثها، ثم قالت مبتسمة:
-ماذا افعل؟! انتظرت سماعها منه لكنه لم يفعل، اخبرته انا بها وقمت بالواجب بدلاً منه.
ضحك آثر وقال:
-لم أكن اعلم أنك خفيفة الظل الى هذا الحد، يا لكِ من فتاة مشاكسة.
وصلوا إلى القاهرة بعد ساعات من السفر، ترجل الجميع أمام منزل عائلة آثر، وانزلوا اغراض سهيلة وحقائبها من السيارة، فقالت سهيلة:
-آثر لم لا نذهب الى شقتنا ومنزل هذه الأشياء هناك؛ حتى لا يضيع شيئاً منها؟!
قال آثر وهناك علامات للتوتر على وجهه لا تعلم سهيلة ما سببها:
-لا تقلقي ساضعها هنا، وننقلها لاحقاً على رواق من أمرنا.
تعجبت سهيلة من توتره وتغير ملامحه، ظلت تقف تنتظر ماذا سيحدث، وجدت أن اكرم ذهب ومنال وزوجة اكرم صعدوا إلى أعلى لمنزلهم، حتى أنهم لم يضيفوا السائق ومرافقه على شيء ما، طعام أو شراب كما اعتادت سهيلة أن يحدث ذلك في بلدتها، ولكن من اختفى ولم يجدوه في برهة من الزمن هو والده.
بعد نزول الجميع اختفى والد آثر ولم يجدوه، علمت سهيلة أن هذا ما يجعل آثر متوتر الى هذا الحد، لكن الغريب لم يتوفر آثر لغياب والده؟! أجل كانت الطريقة التي اختفي بها مثيرة للشك ولكن ليس هذا ما يجعله متوتراً الى هذا الحد، أخبرته منال شقيقته أن والده ذهب إلى عمله ومطبعته الخاصة بحجة أن هناك أناس يريدونه في عمل.
كان آثر يضرب كفا على كف وهو يقف بعيدا مع اكرم، كانت سهيلة تراقبه من بعيد، ثم اقترب منها وقال لها:
-هيا اصعدوا الى أعلى.
امسكت سهيلة بزراعه برفق وقالت:
-ما الأمر؟ انا لا اريد الصعود الى اعلى اريد الذهاب الى شقتي لاراها، وارى مابها.
-قال آثر بقلق:
-حسنا انتظري حتى قدوم محمد اخي، هو لديه مفاتيح الشقة.
-ولم محمد لديه مفاتيح شقتنا؟!
-كنت اتركها معه؛ لأن كان هناك عمال مازالوا يعملون بها، اصعدي الآن لا تقفي هكذا في وسط الشارع، اصعدي إلى منال، ساوافيك بعد قليل.
صعدت سهيلة ورباب وشقيقتها الصغرى اسماء إلى اعلى، وجدت منال جالسة تشرب الماء وفي الجهة الأخرى شهد زوجة أكرم تشرب الماء ايضاً، فقالت منال عند رؤيتهم أمام باب الشقة:
-ادخلوا تعالوا، يا شهد اجلبي زجات مياه من البراد.
قامت شهد تجلب المياه، جلست رباب وسهيلة واسماء، يتبادلون الحديث مع منال، فجلبت لهم صورا قديمة لها ولعائلتها وخطيبها الاول والثاني، وصور زفافها، ظلت سهيلة تشاهد الصور ويمزحون مع منال، لكن بالها منشغلا بآثر وقال لمنال:
-أين والدكِ يا منال؟ لقد اختفى فجأة هكذا! إلى أين ذهب؟
قالت منال ببرود:
-لديه عمل مستعجل في المطبعة، اتصل به زبون يريد شغل، وذهب إليه.
-هكذا دون أن يخبر أحد، لقد ظننت أنه ذهب للصلاة عندما ترجلنا من السيارة وكان اذان العصر قد رفع.
-اجل اجل لقد اخبرني أنه أدى صلاة العصر وذهب.
تعلمون أن سهيلة تعرف في قراءة لغة الجسد، علمت من تغيرات ملامح منال أن هناك خطب ما، فقالت لها:
-لم آثر متوتر الى هذا الحد؟ الا تعلمين ماذا هناك؟! لم يخبرني شيئاً.
-لا اعلم لم يخبرني، ربما لأنه يريد مال لأجل السائق كان يقول اكرم شيء عن هذا.
قالت سهيلة وكأنها حصلت على ما تريد من جوابها:
-اممممم حسنا ربما.
قامت سهيلة تتجه إلى نافذة المنزل وتتصل بآثر:
-أين انت يا آثر؟ لم كل هذا التأخير؟!
-انا قادم يا سهيلة فقط بضع دقائق واكون عندكِ.
-حسنا اريدك أن تجلب لي شيئاً من الصيدلية.
-ماذا تريدين؟!
سكتت سهيلة قليلاً من خجلها ثم أخبرته بأنها تشعر بمغص في بطنها، وليتها ما اخبرته، لقد زادت عليه الأمر، غضب أكثر مما كان وقال لها:
-حسنا اغلقي الخط الآن، ساجلبه لكِ.
-حسنا.
كان خطأ سهيلة هنا انها تحدث أمام منال وشهد عن الامر، أخبرتهم بما تشعر به وأنها ربما لن تستطيع إكمال ليلة دخلتها بسبب مرضها الشهري، قالت رباب:
-لا عليك يا سهيلة ليس بالأمر الصعب، لا ذنب لك في ذلك ربما تغيرت هرمونات جسدكِ؛ من شدة التوتر الذي مررتِ به في الفترة الماضية، عليك باحتساء السوائل الساخنة وستنقضي الفترة أقل من العادة.
قالت سهيلة بتوتر:
-حسنا لنذهب إذا إلى الشقة؛ حتى أبدل ملابسي وارتاح قليلاً، لكني جائعة جداً لا اعلم لم تأخر آثر كل هذا الوقت، ربما يجلب طعاماً لنا.
قالت منال بكل برود:
-ربما.
تعجبت سهيلة من جلستها هكذا دون مبالاة، فهم ضيوف لديها في منزلها وفي مناسبة سارة، كيف لا تقوم بواجب الضيافة، حتى أنها لم تعزم عليهم بكوب عصير، فقط تجلس وتنظر لما يدور حولها، غمزت رباب لسهيلة، وعملت سهيلة مقصدها، ظهرت بعض العلامات على وجهها فهمتها رباب، فهمت منها أنها لا تعلم ما هولاء البشر، حقا تتعجب من تصرفاتهم.
رفعت سهيلة هاتفها بانفعال وضيق تتصل بآثر:
-آثر اين انت كل هذا الوقت وتاركني هنا؟! انا لا اعلم ماذا تفعل حتى الآن؟ لقد مضت أكثر من ثلاث ساعات منذ قدومي.
-قادم يا سهيلة قادم.
-منذ أكثر من ساعة اخبرتني بذلك، اريد ان اذهب الى شقتي الآن من فضلك، أجلب لي ما أخبرتك به واصعد على الفور.
-حسنا هيا انا آتي إليكِ.