6

لم تكن تلك الليلة سوى بداية لحقيقة ديمة المزيفة، التي تخفيها خلف قناع من الغش والابتسامة الرقيقة.

أما عاصم لم يكن يدري أن القدر يحضر له ما يشفي به قلب ميادة تلك المرأة المسكينة التي طلقها بدون ذنب يذكر.

وها قد بدأت الأمور تسير نحو ما يجب أن يكون، كانت ليلة هادئة رومنسية بين العروسين.

مضت عليهما بسرعة، أما ميرا لم تشعر بشيء لقد نامت فورا وصولها من شدة التعب.

حتى انها لم تكن قادرة على التفكير، واستسلمت للنوم منذ اللحظة الأولى.


في الصباح كان الأمر متوتر أيضاً بين ديمة وميرا والاب يحاول تحسين الحال بينهما وتلطيف الأجواء كي تكون السعادة في قلب الجميع وهو يرغب في تفادي المشاكل.

وتدريجيا عادت الحياة والروتين إلى طبيعة البيت، ميرا تحاول أن تنشغل بدراستها كما جرت العادة.

وعاصم يذهب لعمله ويراقب كل امور الشركة، وديمة التي بقيت سيدة المنزل الأولى.

وهي الزوجة اللطيفة الجيدة التي يستحق هذا المكان وبجدارة.

تتظاهر بحب زوجها الفائض وبأنها تهتم له كثير وبكل تفاصيله، ولا يغيب عن بالها ابنته ميرا.

أما ميرا كانت شديدة البرود معها ولا يعجبها كل محاولاتها للتقرب منها.

غير أن ميرا كانت وحيدة لا أصدقاء ولا أخوة حتى أن علاقتها بوالدها بدأت تقل بشكل تلقائي فهو حريص على ديمة، ويرغب بأن يكون زوج مثالي.

مر شهر أو ربما أكثر من هذا بقليل على زواج عاصم، وفي أحد الأيام وكان يوم جمعة، وقد اعتاد أن يعود للمنزل ظهر ليتناول الطعام مع عائلته.

وكما جرت العادة كانت ديمة في انتظاره حين سمعت صوت الباب قد فُتح ذهبت لتراه ، عانقته وهي تقول له: أهلا بك حبيبي.

ثم طبعت قبلة على خده، لم بادلها التصرف كما اعتادت، استغربت ديمة حال زوجها.

فسألت وهي تتبع خطواته إلى صالة البيت: هل كل شيء على ما يرام يا عاصم؟

أومأ رأسه قائلاً: نعم لا تشغلي بالك.

لكنها لاحظت عليه بعض آثار التعب فقالت: وما سبب حالك هذا؟

رد عليها: أظن أنه بسبب الاجهاد في العمل والارهاق ليس إلا.

ربتت على كتفه وقالت: حسنا يا عزيزي، سوف أقوم بسكب الطعام كل شيء جاهز.

سألها عاصم: ماذا حضرتي اليوم؟

ردت عليه ديمة بحماسة: إنه طبق إيطالي معكرونة مع السمك.

تأفف عاصم وقال لها: ألم تكفي عن اختراع هذه الأطباق؟

أجابت ضاحكة: في جعبتي الكثير.

ثم انطلقت نحو مطبخها لتضع الطعام لزوجها، بينما هو ذهب إلى ميرا يناديها كي تكون حاضر معهم على السفرة.

طرق باب الغرفة ودخل ليجدها تجلس بقرب النافذة تقرأ رواية "شمس المغيب".

كان الأب سعيد بأهتمام ابنته بالقراءة والمطالعة، جلس بجانبها يطمئن عنها ويسأل عن دراستها


لاحظت ميرا التعب على وجه أبيها لقد كان شاحبا فسألته مستغربة: هل أنت بخير يا والدي؟

تنهد الأب وقال: لا أدري يا بنتي، لدي شعور بالألم غريب، من حوالي الأسبوع.

استنكرت ميرا الأمر وقالت: منذ أسبوع ولم تقل شيء؟!

ثم أضافت هي: ألم أطلب منك مئات المرات أن لا تفرط في نفسك ولا في صحتك؟

تابعت ميرا كلامها دون أن تسمح لوالدها بمقاطعة ما تريد أن تقول له: يجب عليك الذهاب إلى الطبيب.

أجاب عاصم: لا تبالغي يا ابنتي، إنه أمر بسيط للغاية.

وقبل أن تجيبه ميرا، كانت ديمة تقرع الباب ثم قالت: الطعام جاهز هيا بنا لا تدعوه يبرد .

ربت الأب على قدم ابنته وهو يقول لها: هيا يا ميرا نكمل هذا الحديث بعد تناولنا الطعام.

ثم نهضت ميرا مع والدها، وديمة تطالع ما يجري بغيظ تكتمه دون أي أشارة او تصرف.

وجلسوا جميعهم حول الطاولة يتناولون الطعام، وهم يسمعون شرح من ديمة عن هذا الطبق العجيب.

لم يكن شكله محفز للتذوق لكن لا يوجد بديل أخر لهذا وعليهم أن يتذوقوا.

وما إن بدأوا بتناول طعامهم حتى شعر عاصم بأن حاله يزداد سوء أكثر فأكثر.

لكنه حاول بأنه في حال جيد ولم يتغير شيء، لم يمضى الكثير من الوقت حتى تغير حال المسكين.

وظهر بحال مريب، أصبح وجهه أصفر ولم يعد قادر على التنفس، ليس هذا فقط بل فقد وعيه فجأة.

تدل رأسه على الطاولة دون حركة، وما إن رأت ميرا والدها بهذا الحال حتى صرخت بصوت تقشعر له الأبدان: بااابااا.

انتفضت ديمة وميرا تحاولان إنقاذ حياة عاصم، لكنه كان بدون حركة، اتصلت ديمة على الفور بالاسعاف.

وما هي إلا دقائق حتى وصل الإسعاف إلى البيت تم وضعه على النقالة وانطلق المسعفون به إلى السيارة بسرعة.

لم يكن حال ميرا أفضل كانت منهارة تماماً، قالت لها ديمة: تعال معي سوف نتبعهم بالسيارة.

وعلى الفور خرجوا يركضون إلى السيارة يتبعون سيارة الإسعاف.

لم يكن المستشفى بعيداً عنهم، إنما كان على مقربة إلى حد ما.

إلى قسم الطوارئ دخل عاصم فاقد للوعي، خلفه ميرا تبكي وتصرخ أبي، أجبني.

لم يكن ليسمعها، ثم جاء أحد الممرضين وأبعدها حتى يتمكنوا من نفله إلى غرفة يستطيعون أن يفحصوه فيها.

في تلك الغرفة كانت عاصم ممدد على السير جسد بلا روح لا حول له ولا قوة.

وميرا تنحب في الخارج وكأنها لن تراه مرة أخرى، وديمة تشعر بأن يداها قد ربطت من الخوف والتوتر.

بدأ الأطباء عملهم وهم يحاولون أن يعيدوا عاصم إلى وعيه.

لكنه دخل في غيبوبة، ووضعه كان حرج بعض الشيء يحتاج إلى المراقبة.

خرج الطبيب من الغرفة لتركض ميرا نحوه تسأله بصوت باكي متقطع: أرجوك أن تخبرني كيف حال والدي الآن؟

قال الطبيب لها: أهدئي قليل، فعلنا كل ما بوسعنا.

توقفت حدقتا ميرا عن الحركة وقالت: ماذا تعني بهذا.

أجابها: والدك قد دخل في غيبوبة، وقمنا بأعطاءه الأدوية اللازم ونحن ننتظر حتى يستعيد وعيه.

ثم أكمل قائلاً: ادعي لأجله، لا يسعنا فعل شيء الآن.

تركها طبيب وعاد إلى عمله، وهي تقف وحده مكسورة القلب هشة الجناح، وفجأة وقعت عينها على ديمة، ما جعلها تنتفض مرة اخرى.

اقترب نحوها تدفعها بكلتا يديها نحو الباب وهي تصرخ بشكل هستري: أنت من فعل هذا أنت السبب، اغربي عن وجهي لا أريد أن أراك هنا.

حاول الناس المتواجدون في المكان ابعاد ميرا عن ديمة، وهي تصرخ دون أن يفهم أحدهم ما هو السبب الكامن وراء هذه الحالة التي عي بها.

حتى ديمة نفسها لم تكن مدركة لما يجري بعد، ولم تكن تعلم ما هو سبب اتهام ميرا لها.

تسألها متعجبة: ما الذي تقولينه! ماذا فعلت أنا؟ لقد حدث كل شيء أمام عينيك.

صرخت ميرا وهي تتهمها قائلة: أنت تريدين التخلص منه، هيا قولي ماذا وضعتي له في طعامه، أيتها المجرمة الوضيعة.

وبينما هي تتكلم سقطت ميرا على الأرض مغشي عليها، من فرط الحال الذي وصلت إليه.

حملها أحد الحاضرين إلى الغرفة وقام أحد أفراد الطاقم الطبي ببعض الاسعافات الأولية لها.

وأعطها إبرة مهدء للحال التي هي عليه حتى تنام لبعض الوقت لعلها تستعيد رشدها.


لم تكن ميرا تعلم بأن ما حدث لوالدها هو البداية فقط، ولم يكن عارض صحي، إنما هو نذير لاشياء معقدة ومؤلمة أكثر.

ومن هذه الأشياء سوف يكتشف محيطه الحقيقي وأن المصائب هي من تكشف حقيقة النفوس وطبيعتها.


مرت ساعتين على نوم ميرا، بدأت تصحوا بشكل تدريجي، لقد كانت تشعر وكأنها تحطمت بمطرقة، جسدها كله يؤلمها، من أطراف أصابعها حتى رأسها.

دخلت أحدى الممرضات لترى وضعها فوجدت تستيقظ وتستعيد وعيها.

حاولت أن تكلمها، وتتحدث معها، لكن ميرا كانت قد نسيت ما سبب وصولها إلى هنا.

وبعد دقائق قصيرة بدأت تتذكر وحاولت النهوض لكن الممرضة منعتها وقالت لها: عليك أن تهدئي قليلاً الآن، كل شيء سوف يكون بخير لا تقلقي.

قالت ميرا بصوت منهك: أبي؟ كيف حاله!

ردت عليه الممرضة وقالت: بعد قليل سوف يأتي الطبيب ليرى حالتك هذه، وبعدها يجيبك عن سؤال حول وضع أبيك.

وبعد فترة وجيزة حضر الطبيب ليتفقد حال ميرا، وكمان كان من المتوقع فورا سألته عن حال والدها.

أجاب الطبيب: دعيني أخبرك شيء وضعك الآن غير مستقر، ويبدو أنك تعرضتي لصدمة عصبية نتيجة الأمر الذي حدث لوالدك.

ثم قال الطيبيب يكمل كلامه: ولا أعتقد أن والدك سوف يكون سعيداً بهذا عندما يستيقظ.

قاطعته ميرا قائلة: يعني أنه لازال في غيبوبته.

أومأ الطبيب رأسه وقال: أجل إنه كذلك ولم يستيقظ بعض، لكن من المحتمل أن يستيقظ في الغد.

أكمل بالقول: قمنا بأعطائه أدوية متعددة وهي أيضاً تساعده على النوم.

لكن من المهم جداً أن يخضع لتحليلات متعددة كي نعرف السبب الرئيسي لما حدث معه.

عندما سمعت ميرا كلمة سبب تذكرت ديمة، فسألت: تلك المرأة التي كانت معي أين هي الآن؟

أجابت الممرضة إنها تقف أمام الباب عند غرفة والدك.

تنهدت ميرا من شدة غيظها منها، وقالت: لما لا تذهب أكره وجودها.

تمنى الطبيب لها الشفاء وقال انت الآن بحال أفضل يمكنك الخروج ولكن عليك الحفاظ على هدوءك وأن تضبطي أعصابك وأن لا تنفعلي مرة اخرى.

هزت ميرا رأسها موافقة وقالت حسنا حضرة الطبيب سوف أفعل ذلك.

وما إن هم الطبيب للخروج حتى قاطعه سؤال ميرا: هل يمكنني رؤية والدي؟

ابتسم الطبيب قائلا: بالطبع يمكنك فعل هذا.

شكرته ميرا على تعاونه معها وعلى قبوله لطلبها، مع بعض التعليمات التي وجهتها لها الممرضة ..

يتبع ..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي