4

من قال أن الاحلام سهلة المنال، وكل ما يرغب به الانسان يدركه، على العكس قد تتغير الأمور والمفاهيم بحسب المكان والزمن.

وطبيعة البشر قابلة لتفاوض على أي شيء مهما كان ثمينة وفي الحقيقة لا يوجد خطوط حمراء إن ما كل شيء مباح وجائر، لكن الجميع يختبئ خلف عباءة الحدود التي يدعيها ظاهراً بين الناس.

بعد ان عرض عاصم الزواج على ديمة بطريقة هوليوودية ورومانسية كما تحب هي وافقت دون تردد بل كانت في غاية السعادة بهذه الخطوة.

وكانت الخطوة التالية هي تعرفه على عائلتها، ولم يكن لدى العائلة رأي تفرضه على ديمة، فهي فتاة ذات شخصية قوية تختار ما تشاء.

إلا أن الأمر من أجل المظهر الخارجي فقط لكن الحقيقة غير ذلك.

اخبرت ديمة عائلتها بقدوم عاصم وأنها حددت له موعد في مساء يوم السبت للحضور.

وعلى هذا النحو عملت العائلة واستعدت لاستقبال العريس الذي اختارته ابنتهم كي يكون شريكها.

أما في بيت عاصم كان الحال مختلف بعض الشيء، بينما هو يقف في غرفته يعد ربطة العنق ذات اللون الخمري وأضاف ساعة بلون فضي تتناسب مع بدلته الأنيقة، وكالمسة أخيرة أضف رشة من العطر الفاخر.

أما ميرا قد كانت تجلس على سريرها مكورة نفسها، لا ترغب برؤيته عند انتهاءه من الإستعداد، وهي تدعو وترجو أن لا يتم الأمر كما هو يريد.

بعد كل تلك التجهزات سمعت صوت خطوات أبيها يقترب من باب غرفتها، لم تحرك ساكن بل بقيت على حالها.

فتح عاصم باب الغرفة على ابنته وقال لها: ألم تعدلي عن رأيك؟

لم تجبه ميرا أبدا ولا بكلمة، فهم حينها أنها لازالت ترفض الأمر برمته.

قال لها عاصم: حسنا إذا، سأذهب وحدي وسوف أحاول أن لا أتاخر.

اقترب منها بهدوء وطبع قبلة على جبين ميرا، وهي بدون ردة فعل حتى لو كانت بسيطة.

خرج الأب وأغلق الباب، وما إن سمعت ميرا الصوت حتى انهارت باكية أفكار كثيرة تراودها وتجول في رأسها.

لم تكن تتمنى أن يصل الحال بهم إلى هنا، ولا ترغب بوجود أمراة أخرى مع والدها، لكنها تقف مكتوفة الأيدي غير قادرة على إبعادها أو منعها.

أما عاصم فقد انطلق وفي جيبه قد وضع خاتم ذهبي مزين بحجرة ألماس بحجم كبير كانت رائعة وبراقة أيضاً.

كل ما يفكر فيه هو حبيبته وكيف سوف يكون اللقاء وما هي الخطوة الأولى بعد هذا.

قام بتشغيل أغنية اعتاد سماعها مع ديمة في كل لقاء، وكأنه مراهق عشريني، لم يعيش في الحياة شيء بعد.

أما في بيت ديمة الأجواء هادئة أعدت والدتها بعض أصناف الضيافة من حلويات وفواكه، بينما كانت ديمة تستعد وقد ارتدت فستان بلون زهري طويل وتفاصيل ناعمة جداً جعلت من أنوثتها طاغية.

ولم تنسى الإضافات البسيطة فوضعت بعض الكحل في عينيها وأحمر شفاه بلون وردي أيضاً أضافة لاطلالتها سحر خاص.

كل شيء قد تم والتحضيرات على أكمل وجه، وقد تمترتيب الأمور كما يجب.

وفي تلك اللحظة قرع جرس الباب علمت ديمة بأنه قد وصل طلبت من أخيها أن يفتح الباب له ويدخل إلى الصالة.

على عجلة قامت بتحضير القهوة ودخلت هي تحمل بين يديها القهوة التي أعدتها.

ألقت التحية على عاصم وقدمت له ولعائلتها القهوة ثم جلست في مكان مقابل لعاصم.

وهو ينظر إليها وكأنه يراها للمرة الأولى، كانت أنوثتها قد انفجرت في وجهه وهو غير قادر على ضبط نظراته المليئة بالاعجاب.

ثم تنحنح والدها وسأله: تفضل دعنا نتكلم عن الأمر الذي جئت لأجله إلى هنا.

رد عليه عاصم بعد أن أخذ نظرة مطولة إلى ديمة قائلا: لقد جئت طالب يد ابنتك ديمة للزواج.

سأله الأب: حدثني عن نفسك وحياتك وبعض التفاصيل.

أجاب عاصم: لقد كنت متزوج في السابق ولدي فتاة واحدة تبلغ من العمر خمسة عشر عام الآن.

ثم أضاف أعمل على تأسيس شركة لأدوات البناء و المواد الخاصة في رصف الطرق.

أجاب والد ديمة: هذا عمل جيد، ولكن ما هو سبب انفصالك عن زوجتك؟

بعد أن صمت لبرهة من الوقت قال له عاصم: كان بيننا تراكمات وأمور كثيرة وأخرها أنها لا ترغب بالانجاب المزيد من الأطفال رغم علمها برغبتي الشديدة لهذا الأمر.

نظرت ديمة إلى والدها بطريقة توحي له بأن يكف عن طرح مثل تلك الاسئلة، وفهم الأب المسكين مراد ابنته وغايتها.

فقال له: حسنا يا بني، لما لم تأتي ابنتك معك كي نتعرف عليها؟

تنحنح عاصم قليلاً وأجابه: إنها فتاة صغيرة، ومتعلقة بي كثيراً، لذا هي ترفض هذا الأمر، لكنها سوف تتقبله بتأكيد في ما بعد لا داعي للقلق.

تنهد الأب وقال: كما تشاء يا بني، دعنا نسأل ديمة ما رأيها في الأمر.

ثم وجه الحديث لبنته وقال: ما رأيك يا ابنتي؟

بكل ثقة ودون أي تفكير قالت له ديمة: أنا موافقة يا أبي.

لم يكن لدى الاب ما يقوله أو يقترحه فقال: إن كان الأمر كذلك فلا مانع عندي أيضاً.

اتفق عاصم مع العائلة على بعض التفاصيل والأمور المهمة المتعلقة بترتيبات الزفاف.

لكن المفاجأة كانت بأن ديمة لا ترغب بأن يكون هناك حفلة كبيرة وضخمة كما تتمنى جميع الفتيات.

على العكس لقد قالت محدثة عاصم: اكتفيت بك ولا يهمني أحد.

رد عليها عاصم بحب: إذا سيكون هناك حفلة بسيطة في المنزل يحضرها الأهل والأصدقاء المقربين فقط.

وافقت ديمة وعائلتها، وانصرف عاصم إلى بيته سعيد بما جرى وأنه يحقق ما يريد.

أما ميرا لم تكف عن بكائها، بل تورمت عيناها من شدة البكاء والنحيب وهي تفكر بأنها قد خسرت والدها بعد ان تركتها أمها.

هذا ما زاد من وحشتها أكثر وضياعها، وبعد ان عاد عاصم إلى بيته ادعت ميرا النوم كي لا تضطر إلى الحديث معه وهي في حالها تلك.

أشرقت الشمس على منزل ميرا لكن قلبها لا يزال حالك السواد من فيض حزنها.

حضر والدها الفطور كما جرت العادة، وجلست هي بمكان بعيد عنه لم تكن هكذا من قبل، وكأنها تركت مكان ليجلس أحدهم بين ميرا ووالدها.

لم يفهم عاصم رسالة ابنته فسألها: لما جلست هناك يا بنتي؟

رد عليه بنبرة خيبة: سيكون هذا الكرسي لأحدهم في وقت قريب أليس كذلك؟

هنا اتضحت الفكرة لعاصم وعلم أنه تقصد ديمة، لبتسم في وجهها وجلس جانبها ممسك يدها وقال: هذا المكان لابنتي حبيتي لا يمكن أن يكون لأحد آخر.

لم ترد بأي كلمة إنما أشاحت بوجهها عنه، وسحبت كف يدها الصغير من بين يديه.

وكانت تلك إشارة كافية لعاصم كي يعلم ما هو مدى الحزن المتربع على عرش قلب تلك المسكينة.

نهض عاصم عائد إلى مكانه وقال لها: لقد تم الإتفاق بيني وبين عائلة ديمة في الأمس، ستجري الأمور بشكل بسيط وهادئ لن يكون هناك كثير من المدعوين ولا حفلة ضخمة كما كنت أريد.

لم تبدي ميرا أي اهتمام لما سمعته من والدها على العكس، تناولت بعض اللقيمات بشكل سريع، ثم نهضت من مكانها وقالت له: لقد تأخرت سوف اذهب للمدرسة.

أما في بيت ريان قد كان يجلس مع صديقه ياسر يكملون تناول المعكرونة، والتي أعجبته كثير ببعض الإضافات الجديدة كالفطر و الذرة.

لم يكن ياسر معتاد على مثل تلك النكهات، فسأل ريان وهو ياكل بنهم: ومن أين جئت بهذه الأفكار المبتكرة؟

ضحك ريان وقال: أين الابتكار إنه مجرد صحن من المعكرونة.

رد عليه ياسر وقد امتلى فمه بالطعام: إذا بقيت أنا اطهو المعكرونة لمئة عام قادمة لن يخطر في بالي إضافة مثل هذه المكونات.

رد عليه ريان وقال: كُل كُل يا رجل ولا تشغل نفسك في هذه الأشياء.

وبعد مدة من الوقت قال ياسر لصديقه: لقد تذكرت أمر مهم.

سأله ريان: وما هو؟

ابتلع ياسر اللقمة وقال: لقد وجدت عمل جيد في أحد الفنادق الفخمة.

رد عليه قائلا: هذه فرصة جيدة لا تضيعها.

أكمل ياسر كلامه وقال: هناك عدد شاغر إن كنت تريد الإنضمام دعنا نذهب للعمل معا في ذلك المجال.

شرد ريان لبرهة يفكر فيما إذا كان الأمر مناسب له أم لا وإن كان يستطيع الذهاب وأجاب: حسنا، سوف انضم إليك واذهب إلى هناك.

قال ياسر: هذا الفندق هو الأفخم في المدينة، وتقام فيه حفلات للناس من الطبقة المخملية، ويكون هناك بعض البقشيش الإضافي من الزبائن.

ضحك ريان وقال: الآن علمت سبب هذا الحماس الزائد لديك.

قال ياسر: ولما لا فأنا احتاج لمثل هذه الإضافات حتى أقوم بدخار بعض الأموال، لعلي أجد فتاة تقبل الزواج بي ذات يوم.

بالعودة لمراهقة ميرا ..

بعد أن تم تلك التجهيزات الخاصة بزفاف عاصم وديمة بشكل تام، حدد يوم لإحضار ها إلى بيته بشكل رسمي.

ومع اقتراب الموعد المحدد كانت الحال تسوء بين عاصم وابنته، رغم كل محاولاته للسيطرة على الوضع إلا أن جميع تلك المحاولات بأت بالفشل الذريع.

ودون أن يشعر كان عاصم يقصر في حق ميرا ويبتعد عنها شيء فشيء، وهذا اكثر ما كان يحزنها.

وفي الليلة التي سبقت يوم الزفاف، دخلت ميرا غرفة والدها جلست معه وقالت له: أبي هل أنت متأكد من هذه الخطوة التي قد أقدمت عليها؟

لم يفهم عاصم سؤال ابنته فقال لها: ماذا تقصدين يا ابنتي؟!

تنهدت ميرا وقالت: أبي أنا أرى تلك المرأة تمكر بك فقط، تريد أن تصل إلى مالك وثروتك، لم أرى منها حب أو رغبة في الحياة معك.

ضحك عاصم من كلام ابنته وقال لها يخفف عنها: أصبحت الفتاة هي من تعطي النصائح لوالدها.

واقترب منها يحتضنها وقال: لا عليك يا ابنتي، انا متأكدة من أن ديمة تحبني فعلاً، ونحن قد اتفقنا على أن نكمل بقية حياتنا مع بعض.

أيقنت ميرا بأن لا جدوى ولا فائدة من تلك المحاولات البائسة لاقناع والدها، لقد أغمض عيناه عن كل تصرفات تلك الفتاة ولم يعد يرى سواها.

لكن من جانب آخر كانت ميرا متأكدة بأن تلك الخدع البصرية لن تدوم طويلاً، وزوالها سوف يكون قريب.

قالت ميرا لوالدها والحزن يعتلي وجهها: أتمنى أن لا أراك نادما في يوم من الأيام على مثل هذا القرار ، عندها سوف يكون حزن أبلغ وجرح قلبي أعمق.

قال الأب لابنته: لا عليك يا غاليتي، كل الأمور تحت سيطرة والدك، أم أنك لم تعدي تريني بطل كما كنت تقزلين في طفولتك.

ضحكت ميرا وقالت: بلى، أنت بطلي يا أبي.

ثم تمنت لوالدها ليلة سعيدة، وغادرت غرفته عادئدة إلى وسادتها تعانقها كما تفعل في كل ليلة.

يتبع ..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي