3

شكره ياسر، ثم غادر ريان المنزل مسرعا وعندما نهض من فراشه وجد بعض النقود التي تركها له صديقه، حدث ياسر نفسه وقال بامتنان: يا له من رجل نبيل.

رغم أن وضع ريان المادي كان شحيح لكنه لم ينسى صديقه المسكين أبدا وكان دائما ما يفعل مثل تلك الأمور باستمرار ويقوم بمساعدته بقدر ما يستطيع.


وفي سوق السمك حيث كان ريان قد وصل، وبدأ عمله بكل حب ونشاط يتجول هنا وهناك وهو يتحدث مع الناس يمازحهم يضحك معهم، لقد كان محبوب من كل الأشخاص الذين يعرفونه بحس الدعابة التي يمتلكها.

لقد كان العمل مضني جدآ، لكنه لم يتوقف حتى انتهت كل الأعمال المترتبة عليه تحدث من الرجل المسؤول عن عمله وأخذ اجرته المتفق عليها.

وبعد ذلك غادر المكان يمشي وحيدا في أرجاء المدينة بشوارعها العريضة المليئة بكل أشكال الإضاءة والانوار، وهو منبهر بجمال الأزقة وكأنه يراها للمرة الأولى، ويقول: يا لسحر هذه المدينة وجمالها.

وفي إحدى الزوايا لاحظ وجود عازف على الكمان، وهو يحب تلك الآلة جدا و يجد العزف عليها، لكنه لا يستطيع إقتناء واحدة في الوقت الحالي لديه أولويات.

اقترب منه وبدأ يغني مع اللحن الذي يعزفه ذلك الشاب بصوت منخفض ويرفعه تدريجياً، لقد كان أداء مبهر جعل الكثير من المارة يقفون ليشاهدوا صاحب الصوت الشجي ونظرات الإعجاب تلفه من كل حدب وصوب

وهو يغمض عينيه غارق في بحر تلك الكلمات والموسيقا، مرت في مخيلته صورة تلك الفتاة الحسناء التي رأها قبل أيام.

بمجرد مرور صورتها في مخيلته تجعله يبتسم دون شعور، وكأنه يتمنى أن يجدها بين الحاضرين.

وما إن انتهى العرض حتى صفق له جميع الحضور بحرارة وعلت أصوات الصفير والإعجاب بذلك الأداء الملفت، ليعود إلى واقعه بعد ذلك الخيال الذي كاد يظنه حقيقة.

ثم أمسك ريان القبعة السوداء التي كانت على رأسه ودار بين الناس يجمع ما أرادوا التبرع به بعد ذلك العرض ويتكلم معهم بعبارة شكر لطيفة.

وبعد أن انتهى وانصرفت الناس، قدم الأموال لذلك الشاب صاحب الكمان.

لكن الشاب رفض ذلك وقال: يجب أن تأخذ نصف هذا المبلغ.

رد عليه ريان مستغرباً: لماذا؟

قال الشاب العازف: لو لم تكن هنا لما جمعت تلك الأموال، وتفاعلك الرائع مع العزف لما كانت اجتمعت هذه الحشود لسماع ما كنت أقوم به.

ضحك ريان وقال: لا تبالغ يا رجل، لكن إذا كنت تريد هذا حقا فلا بأس في ذلك.

وأخد نصيبه من المال ثم ودع الشاب منصرفا ليكمل طريقه، لكن سؤال الشاب قاطعه حين سأله: هل ترغب في العمل معي في هذا المجال؟

قال ريان: هل تريد أن نلتقي ونقدم عرضاً للناس؟

أومأ الشاب رأسه وقال: نعم كما فعلنا لتو، أنا موجود هنا بشكل يومي منذ مدة ولمست الفرق عند قدومك.

نالت تلك الفكرة إعجاب ريان ووافق عليها دون تردد، وقال: لا مانع لي في هذا، لذا سوف أعمل على تنظيم وقت عملي ومن ثم نلتقي في هذا المكان غدا.

عاد ريان إلى منزله سعيد بعد ذلك العرض والعمل الذي ظهر له فجأة دون أي مجهود وهو يحب مثل تلك الأمور، فهو يحب الموسيقا أيضاً.

وبالإضافة الى أنها تعود عليه بمردود مادي جيد الذي يحتاج إليه كي يتحسن حاله أكثر، لم يكن ليشعر أنه منهك أو مرغم على العمل، بل كانت فرصة مناسبة لتفريغ ما يجول في داخله بطريقة تعود عليه بالنفع.

لاحظ صديقه تلك السعادة، فسأله بنبرة متهكمة : ما سر ذلك السرور المتربع على وجهك؟ هل حصلت على قبلة مجانية من إحدى الفتيات أو قابلت حاكم المدينة؟

رد عليه ريان ساخراً بعد أن فهم تلميحه وقال: ومن تلك الفتاة التي تقبل بأن تُقبل شاب فقير مثلي؟ جميعهن يبحثن عن ثري بعيون زرقاء وشعر ذهبي، بالإضافة إلى أن رائحة الأسماك المنبعثة مني كأنها غاز سام.

تنهد ياسر وقال لصديقه: ما قلته كان صحيحاً، لم يعد يعجب الفتيات أحد من طبقتنا، ولسى لنا رجاء في هذا.

ثم أكمل قائلا: لم استطيع أن انال إعجاب أي فتاة هنا منذ قدومي رغم محاولاتي البائسة لإقناع إحداهن.

ضحك ريان وقال: ما كل هذا التشاؤم اعتقد بأن الفتاة التي ستكون من نصيبك هي في انتظارك، أما الآن سوف أعد لك طبق من المعكرونة بطريقة أيطالية أفضل من جميع النساء.

رد عليه ياسر غير أبه بقدراته: اعلم هذا، دعني اتذوق من ثم أقرر إن كان ذلك فعلاً.

همّ ريان إلى المطبخ وهو يدندن بعض الأغاني التي يحفظها من تراث بلده وما نشأ عليه، وفي رأسه يمر شريط تواجده بين الناس والغناء أمامهم.

أما ياسر فقد كان يمسك تلك الجريدة وهو يحاول أن يجد عمل له لعله يتمكن من الحصول على بعض الأموال، مهما كان نوعه أو ما هيته لا مشكلة، كل ما يفكر فيه هو قوت يومه.

في مكان آخر كانت ميرا وأبيها يستعدان للقاء شركائهم الجدد في الشركة، لم تكن ميرا ترغب في ذلك ولا تشعر بأي حماسة لكنها مجبرة من أجل أبيها.

لم تكن مجبرة كرهاً له لا بل كانت محبة لوالدها تعتني به وتهتم بتفاصيله كي يبقى سعيداً بوضع نفسي مستقر، تخشى عليه من الغضب.

والد ميرا هو عائلتها ولا يوجد لديها أي أفراد آخرين، لم تتمكن والدتها من إنجاب إخوة لها بعد أن تعرضت لمرض خطير أصابها بالعقم بعد ولادتها لطفلتها الوحيدة ميرا.

رغم محاولتها للعلاج والسعي من أجل تحقيق حلم الأمومة مرة أخرى، لكنها بأت بالفشل، لم يكن الأمر بسيط أبدا، رغم كل الحزن الذي كانت تعيش إلا أن أحد لم يرحمها.

حتى زوجها عاصم كان دائما ما يلقي كلمات تجرحها وتؤذي مشاعرها في خضم هذا الموضوع، لم يكن يؤمن بأنها حكمة إلهية لسبب ما.

وكان دائما ما يتهمها بأنها هي لا ترغب بالانجاب مزيد من الأطفال منه بسبب مشاكلهم المتراكمة، وخياناته المتكررة.

رغم كل المحاولات لكن أي منها لم ينجح وبقيت ميرا بدون أخوة أبدا بل كانت تعيش حياة غير اجتماعية بعيدة عن الإحتكاك مع الأطفال، ما جعلها تتعلق بوالديها فقط.

رغم أن عاصم كان زوج فظ غليظ القلب، لا يحترم زوجته إلا أنه كان أب حنون، يهتم بطفلته وكل ما يدور حولها حتى أنه كان يختار لها ملابس الأعياد والحفلات المدرسية.

وكان تصرفه هذا لسببين الأول حبه الشديد لابنته الوحيدة، والثاني لزيدة تهميش زوجته ميادة، فهو يراها عديمة النفع فأي شيء.

والأمر يعود لبداية زواجهما الذي كان بالإكراه كي يرضى والداه عنه لا أكثر، بينما هو كان قد أحب فتاة ولم يتمكن من إقناع عائلته بها، وقاموا باختيار ميادة له.

بتلك الخطوة دمر حياة حبيبته التي تخلى عنها ولم يكن رجل كي يواجه أحد من أجلها وكان ذلك خيراً لها وأفضل من الحياة مع شخص شكله يوحي بأنه رجل لكنه لا يمتلك من صفات الرجولة شيء.

وتلك المسكينة ميادة التي كانت شماعة لتعليق عيوبه ونقاط ضعفه ونقصه عليها.

وبين هذه وتلك كانت ميرا التي أيضاً تمت التضحية بها وبحياتها دون أن يشعر بها أحد حتى هي لم تكن تشعر بأنها تفتقد نفسها.

وبعد مدة من تلك الأمور التي تراكمت بين الزوجين أمام ابنتهما الوحيدة، لذا قرر والد ميرا الإنفصال عنها لعله يجد امرأة بديلة والذريعة التي تحدث بها أنه يريد إمرأة تنجب له أطفال.

لكن القدر شاء أمر أخر لا يشبه تلك الأحلام المراد تحقيقها، وفرض على الجميع ما يريده هو.

بعد سنة من انفصال عاصم والد ميرا عن زوجته ميادة أو ربما يزيد تعرف على فتاة آخرى كانت صغيرة في الس تدعى ديمة، تصغره بسنوات عشرة، وهي في مطلع الثلاثينات، جميلة إلى حد ما لكن ما أثر قلب عصام حينها حديثها الرقيق وكلماتها المرتبة.

تعرفوا على بعضهم واصبحوا اقرب وأمضوا معا بعض الاشهر قبل أن يقرر عاصم الزواج منها لقد كان يراها الزوجة المستقبلية التي تعوضه عن كل شيء، وتسد جميع الثغرات والاشياء السيئة الناقصة في حياته، وبالفعل هذا ما حدث تقدم لخطبتها بعد تفكير حزم أمره.

لكن الغريب في الأمر هذه المرة أنه لم يعد يهتم لسماع رأي أي أحد بل كان كل ما يهمه حينها هو رغباته وما يراه مناسب فقط.

رغم معارضة شديدة من ابنته ميرا على هذا الموضوع آلتي كانت تبلغ حينها خمس عشر عام فقط، حيث استخدمت الكثير من طرق الضغط على والدها، لكن من دون جدوى أو أي فائدة لقد كان قد اتخذ القرار وانتهى الأمر، لم يعد قابل لنقاش.

لكن الأب الحنون لم يكترث بل كان مصر على قراره ومصمم على تنفيذه مهما كلفه الثمن، أما ديمة تلك الفتاة التي كانت تنتظر عرض مثل هذا لم تتردد أبدا بل كانت سعيدة للغاية.

رغم معرفتها بأن ابنته الوحيدة لا ترغب في وجودها قريبة من حياتهم، لم يكن هذا الأمر يعني لها، على العكس تماما هي من تمنت تلك اللحظة وانتظرتها بفارغ الصبر

بعد أن سعت طيلة تلك الفترة لإيقاع والد ميرا في شباك حبها ولم تدخر أي طريقة في سبيل ذلك وكلامها المعسول واهتمامها المفرط به كان أقوى السبل وانحجها.

فهي تعلم كم هو رجل ثري وتمكنت من قلبه ببعض الكلمات الرومنسية، كانت ديمة تراه كطفل صغير يحتاج للرعاية والحب، وبعد ذلك سوف يقوم بتنفيذ كل طلباتها.

رغم الفارق بينهم بعدد السنين لكنها لم تكترث بل كانت تفكر كيف تستفيد منه بأقصى درجة ممكنة دون أن تخسر شيء.

بعد أن تخلى عنها حبيبها السابق أو كما تقول هي"الاكس" لأسباب واهية يفتعلها الشباب بعد ضمان قلب الفتاة واخلاصها له.

قال لها حينها ذلك الشاب: لو كان يوجد أحد أخر قد نظر إليك لما بقيتي معي ووافقتي على البقاء بقربي.

وأكمل قائلاً: جميع الفتيات اللاتي عرفتهن كن يبادلنا الحب بالخيانة، أو يرفضن بسبب تقصير مادي قد يحدث.

كان الكلام ذلك قاسي على ديمة وسبب لها غضب شديد بعد ما سمعت منه.

وكلامه الذي جرحها وأهانها أعطاها دافع لتكون كما قال وادعى، وتغيرت ديمة وأصبحت تبحث عن أولئك الاشخاص الذين يسهل الإيقاع بهم في سبيل المال والتسلية لبعض الوقت معا ثم يذهب كل منهم في طريقه.

وواحد من تلك الأهداف التي اقتنصتها كان عاصم والد ميرا.

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي