2

إسمي ريان، لدي أحلام وطموحات ويتعلق على عاتقي آمال عائلتي التي رحلت وامنياتها.


هنا ندخل إلى ذلك الدفتر المليئ بالذكريات التي دونها ريان عن نفسه وسنواته الماضية، ونقرأ بعيني جيهان وهي قد جمعت كل تركيزها وحواسها في تلك الكلمات وكأنها تعيش معه في تلك اللحظات.

قبل عدة سنوات..

كان ريان يفتح ذراعيه إلى سماء مغمض عيناه وكأنه يحتضن قطرات المطر المتساقطة بغزارة لتداعب وجنتيه

ارتمت على وجهه بعضها لتجعله بارد مثلها لكن الشغف الذي يحيا في داخله أقوى منها ونيرانه تجعلها تذوب من العزيمة.

بينما هو يستمتع بتلك الأجواء الهادئة بعيد عن ضوضاء الناس وضجيجهم.

لكن هناك من اخترق سكونه وكانت فتاة قد اقتربت من مكانه بعد نزولها من تلك السيارة الفاخرة جدا، يبدو عليها من النظرة الأولى أنها من أصحاب النفوذ والطبقة المخملية.

قد ارتدت عباءتها الطويلة الواصلة إلى الأرض ووضعت على كتفيها شال من الفرو الأبيض الناصع وكأنه صنع من دب قطبي.


لاحظت الفتاة المترفة، وجود ذلك الشاب لكنها لم تكترث له لقد كانت على عجلة من أمرها فهي تخشى فساد ملابسها أو اتساخها.

دخلت إلى المكان وهي تتأفف من تلك الامطار المتساقطة بغزارة.

وجلست في للمكان الذي اعتادت الجلوس به كي تجتمع مع تلك العرافة التي تحدثها عن برجها وأحواله الفلكية، وتساعدها في تغير بعض المجريات في حياتها حسب اعتقادها.

فهي تؤمن وبشدة بأنها قادرة على فرض ما تشاء في مستقبلها أو رفضه، ولا تعتقد بوجود القدر والأمر المقسوم.


بينما هي تنتظر وصول تلك المرأة، حيث عادت بها ذاكرتها إلى بعض التمنيات التي كانت تحلم بها وتحققت، وهي تأمل الآن أن يتم هذا الأمر مرة آخرى.

وبعد دقائق وصلت تلك المرأة المنتظرة، نهضت الفتاة من مكانها ترحب بها.

وجلست مقابل لها، ثم قالت تلك العرافة الطاعنة في السن، والتي شققت التجاعيد وجهها، وجفف الزمن يداها حتى ظهرت أوردتها وكأنها جبال قالحة.

بصوت خشن متقطع قالت لها: ماذا تريدين هذه المرة يا ميرا؟


ابتسمت ميرا ابتسامة رقيقة دون أن تفرج شفتاها، ثم قالت: أولا أريد أن أقدم لك شكراً كبيراً على تحقيق طلبي الاخير منك.

ضحكت تلك العرافة بمكر وقالت: أنت تعرفين أن كل أمر أقدم على تسويته لا يصعب عليّ، أنا السيدة ديالا.


ثم أكملت كلامها وقالت: ماذا تريدين هذه المرة؟



شردت قليلاً في طلبها ميرا ورجاءها أن يتحقق ما تريد، ثم قالت بنبرة مترددة: في الأيام القادمة سوف تأتي عائلة من أثرياء المدينة لتعرف على أبي، وقد علمت بأنه لديهم شاب مقبل على الزواج.

تنهدت ميرا بيأس وقالت وانزلت عيناها إلى الأسفل: رجائي لك أن لا يعجب ذلك الشاب بي، ولا يكون مناسب لنقاش مع أبي أنا لا أرغب بهذا، فأنت تعلمين بأنني لا استطيع رفض أي طلب من طلباته.

ثم قالت تكمل مرادها: ساعديني أن يتحقق ما أريد وما يجول في خاطري، وأنا سوف أقدم لك ما تريدينه كما هو الحال في كل مرة.

وأمضت ديالا بعض الدقائق في التأمل بهذا الطلب الذي تريده تلك الفتاة الثرية، فهي تراها كنز ثمين لا يمكن التفريط به.

تنهدت ديالا وقالت: حسنا، دعيني أنظر في ما ينتظرك أثناء الفترة القادمة.

ثم أخرجت ديالا من جيبها منديلا أسود عليه بعض النقوشات، بالإضافة إلى بعض الأحجار بأشكال مختلفة.

وضعتها على الأرض وبدأت ترتب تلك الأحجار بطرق مختلفة، ثم تجمعها مرة أخرى وتعيد ترتيبها، وهي تردد بعض الهمهمات والكلمات الغير مفهومة.

وميرا تطالع تلك المرأة وكأنها تحاول قراءة تعابير وجه ديالا لعلها تستطيع تخمين ما يجري لاحقاً.

إلا أن ديالا كانت قادرة على ضبط تصرفاتها كما تريد وبشكل تام.

وبعد مرور دقائق قالت ديالا: امممم، سوف أحاول مساعدتك في تحقيق هذا الأمر لكن..

وقبل أن تكمل قاطعتها ميرا وقالت: ما هو المقابل هذه المرة؟

بنبرة مليئة بالمكر والخبث قالت لها ديالا: عليكي أن تعطيني بعض الأسهم من الشركة التي يمتلكها والدك

استغربت ميرا هذا الأمر وقالت لها: لقد متنعت عن أمور كثيرة قد طلبتها من قبل وحصلتي على أشياء باهظة الثمن، لكن هذا أمر كبير.

لم تنطق ديالا أي شيء للوهلة الأولى ثم قالت لها: وهل هذه الأسهم أثمن من مستقبلك؟ ألا تخشين على نفسك من الارتباط بشخص لا تعرفيه وتفضلين الاموال!

ساد الصمت في الإرجاء لبعض الوقت ثم قاطعها سؤال ديالا: إذا تجدين نفسك أرخص من تلك النقود.

شعرت ميرا بالغيظ من كلماتها الجارحة، هي لا تقارن نفسها بالمال أو الممتلكات، لكنها تفكر ماذا يمكنها أن تفعل؟ و ما هي الحجة التي قد تقنع والدها بها.

لم يكن لدى ميرا أي خيار آخر، لذا وافقت على هذا الطلب الغريب، وقالت: حسنا، أعدك أنني سوف أفعل ما بوسعي كي تحصلي على نصيب من الأسهم في الشركة

قالت ديالا: وأنا سوف أساهم في إبعاد ذلك الشاب عنك.

سُرت ميرا بهذا وقالت لها: اتفقنا إذن.

ثم نهضت من مكانها كي تعود إلى البيت قبل أن يلاحظ والدها غيابها، وما إن خطت عدة خطوات.

قاطعتها كلمات ديالا وهي تقول: لا تنسى الإتفاق القديم بيننا.

عادت ذاكرة ميرا إلى قبل سنة من الآن حين اتفقت مع ديالا بأن أي وعد تقطعه ميرا لها عليها تنفيذه مهما كان، وإن لم تفعل فسوف تحل عليها لعنة كتبتها ديالا عليها.


تابعت ميرا سيرها مبتعدة عن المرأة، وبعد خروجها من المكان الذي كانت تتحدث فيه معها، خرج ريان من خلف أحد الجدران الكبير، وقد كان يسترق للسمع لها ولكل ما قالته هي والعرافة.

ثم ضحك ساخراً، وقال: حتى الأثرياء يعانون في حياتهم لسنا وحدنا في هذه الحالة، لكن كل منا على قدر ما يمتلك.

وتابع بنظره خطواتها المبتعدة حتى غابت عن عينه تماماً، ثم أسند نفسه على الجدار الكبير وقد امتلئت عيناه بنظرات الإعجاب بتلك الفتاة الثرية.

لكن في نفسه تساؤل عن كيفية إقناع تلك الفتاة بأن ما تفعله غير صحيح! وما تلك المرأة إلى دجالة تحاول استغلال ضعفها وأموالها.

وهو شارد الذهن يحدق في الفراغ، جاء الشخص المسؤول عن عمله وقال له بنبرة حادة: لما لم تنتهي حتى الآن عليك إزالة تلك الأوراق المتساقطة على الطريق.

انتفض ريان وقال له: بتأكيد يا سيدي سوف أفعل كل ما طلبته في خلال عشرون دقيقة.

قال المسؤول له: انتهي من عملك وقم بالحاق بزملائك لقد حان وقت الغذاء، أو أنك تحرم منه في حال تأخرك، ولن أسمح لك باللهو وتمرير الوقت دون جهد وعمل.


قال ريان مستعجلا: لا، لا أرجوك يا سيدي سأفعل ذلك في الحال.

وهذا ما قام بفعله ريان انطلق نحو الجرافة والأدوات التي كان يعمل بها ويزيل فيها الأوراق المتناثرة معلنة بداية الخريف.

لكن هناك أحد لم يغيب عن باله أبدا بل ترافقت صورته في رأس أدهم طوال الوقت من اليوم، لقد كانت "ميرا"

وهو يقوم بأعماله اليومية وغيرها من تفاصيل حياتها، كل ما حاول أن يشغل نفسه عن التفكير فيها، عادت إلى أول الذاكرة وتربعت على عرش مخيلته دون أن تغيب ابدا.

أنهى ريان عمله في ذلك اليوم بعد عناء طويل، والكثير من الشرود والتفكير بتلك الفتاة التي سرقت لبه، غابت الشمس وحل المساء وعاد إلى منزله الصغير في عشوائيات المدينة.

لم يكن بيتا بل كان عبارة عن غرفة واحدة فقط يتقاسمها مع أحد أصدقائه الذي هاجر معه من بلاده أيضا بعد أن فقد عائلته وزوجته في الحرب التي كانت تدور هناك قبل عدة أعوام.

المكان بارد والإضاءة خافتة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، لم يكن المكان الذي يسكن فيه ريان يشبه لندن أبدا.

الجميع يعرف تلك المدينة الساحرة بجمالها والراقي الطاغي الذي فيها، إلا أن لمدينة الضباب أسرار أيضا لا يعرفها سوى أولئك الاشخاص الذين يقيمون خلف الجدران الكبيرة ولا يراهم أحد.

لم تكن حياة ريان في تلك المدينة سهلة أو بتلك الرفاهية التي قد يتخيلها الجميع، لقد كانت مليئة بالتحديات والكثير من الأمور المعقدة .

لم يكن ريان يملك أي شهادة جامعية تؤهله للعمل في مكان جيد، أو الحصول على مبلغ مالي كبير مقابل أعماله.


إنما كان يعمل في أي شيء قد يجده في طريقه، الحساة المعيشية كانت باهظة الثمن، غير أن العمل الواحد لا يكفي، لكنه طموح محب للحياة يهوى الموسيقا.

لذا كان ريان يضطر للعمل في عدة أشياء ولساعات طويلة، وهو دائما ما يقول بأنه تلميذ الحياة.

في إحدى المرات عمل في مخبز لصناعة الحلويات الانكليزية، ولم يستمر طويلاً، لذا قرر تجربة شيء آخر فقام بالعمل كسائق حافلة لنقل مواد الأغذية بين المصانع.

لكنه لم يطيل هناك أيضا لم يكن يجيد اللغة بشكل متقن أو كافي، وهذا يضعه في مواقف محرجة في كل مرة مع المسؤول عن العمل.

وينتهي به المطاف مطرود من الخدمة، ويتكرر الأمر بين الحين والآخر، رغم أنه حاول كثيرا لكن الأمر لم يجدي نفعا، وبقي الحال كما هو.


في ذات صباح كان يهم للخروج من المنزل باكراً، لكن صديقه ياسر قد شعر به قبل خروجه فنهض من الفراش وقال له: ألا يزال الوقت باكراً لخروجك إلى العمل؟ لما هذه الضجة؟

رد عليه ريان وهو يحكم اغلاق حزامه: لا لدي عمل اليوم في سوق سمك ويجب أن أصل كي أقوم بتفريغ البضاعة، ولا أريد التأخر كما تجري العادة

قال ياسر له: حسنا، اتمنى لك يوم جيد، لكن كون هادئ ولا توقع نفسك في مشادات مع أحدهم كما تفعل في كل مرة

قاطعه ريان فهو لا يحب سماع تلك التوجيهات التي لن يكترث لها أصلا، وقال: لقد تناولت الفطور، وحضرت لك بعض الاشياء.

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي