الفصل التاسع عشر مقابر
صرخت أنا وأركان بالآن ذاته ما أن تقابلت عيوننا.
مباشرة قمت بالقفز إلى أسفل المكتب بعد أن ألتقطت صندوق زجاجي حتى أدفاع به عن نفسي إذ حاول ذلك العفريت الأقتراب مني.
"أنه ليس حقيقيا. أنه ليس حقيقيا. أنه مجرد وهم." تمتمت وأنا أنكمش حول نفسي بخوف.
"أنا حقيقي." رد الخيال وهو يقوم بتحسس جسده، يتأكد من كونه حقيقيا أيضا.
"بل هو حقيقي." صحت من جديد أرمي عليه الصندوق لكن تسديدتي كانت خاطئة مثل العادة وهو قد نجح في تجنبها.
"ما الذي أفعله هنا؟" تساءل صائحا يتجنب ضربتي. ثم بدأ بتمرير عيونه في المكان.
"لم أنا بغرفتك؟"
بدأت بالبحث عن هاتفي في جيوب سروالي قبل أن أتذكر تركته على جانب الآخر من السرير حتى اشحن بطاريته.
"بل أنا من يجب عليه أن يطرح هذا السؤال. مالذي تفعله هنا؟ وكيف خرجت من اللوحة؟" تساءلت بنبرة لم أخفي الارتباك منها وأنا أسترق النظر له من الأسفل.
"أأنت سحر؟" همست من جديد بتفاجئ مجيبة نفسي وأنا أضع يداي على فمي.
"إذ أنتِ سبب شعوري بالألم! أساسا أنتِ غرابي. الغراب المشؤوم الذي جلب لي النحاس منذ رؤيته." تحدث وهو يشير ناحيتي بحنق.
"لم قمت بتغيير اللوحة؟ هل تعلمين مقدر الألم الذي شعرت به عند خروجي بسببك تغيرك للمكان؟ ماذا أن كان أحد غيرك في أرجاء ورأني أخرج منها؟ لم تستمرين دوما بتوريطي؟" ظل يتحدث بعصبية وهو ينظر لي بحدة مما جعلني أبقى ثابتة في مكاني.
"بل أنت من يجب عليه التفسير هنا. ما الذي قد يجعل شخصا يخرج من لوحة؟"
"أظنني أجبتك سابقا. أنا سحر." تحدث وهو يسير مقترب من باغيير التي أرتبكت لظهوره أيضا بتلك الطريقة.
"أنت عفريت!" همست وأنا أزحف حتى أخرج من أسفل المكتب.
"عليك أن تخرج من غرفتي سريعا!" أضفت وأنا أبقى واقفة على ركبتاي.
"أنت من أحضرتني إلى هنا وتطلبين مني الخروج؟" سخر وهو ينحني للجلوس أمام باغيير التي أنتصبت أذانها تحذير له حتى لا يقترب أكثر.
"كيف حالك يا صغيرة؟ لم تبدين خائفة؟ أنها ليست أول مرة تشاهدينني فيها أخرج بهذه الطريقة لم الخوف إذ؟" حاول التودد من باغيير وهو يحدثها بنبرة لطيفة.
هل قال للتو أنه خارج بالسابق أمامها بهذه الطريقة؟
لهذا كنت مطمئنة له بالسابق؟
رمشت عديد المرات بعدم تصديق.
"هل أنت طبيعي؟"
"هل تريني كذلك؟" رد هازئا وهو يشير على اللوحة.
"سأورطك عند ماما." هددته أفتح فمي مستعدة لصراخ.
"ألم تخرج منذ ساعتين من أجل حضور إجتماع طارئ لأنه حصل أزمة في أحد فروع البعيدة لشركتها؟" قاطعني فور يمنعني عن فعل الغباء الذي كنت أخطط له.
كان يقوم بملاعبة باغيير بعد أن نجح أخيرا في تهدئتها لا ينظر لي.
"كيف تعلم كل شيء حيالنا؟" تساءلت بتردد.
استقمت واقفة وأنا أشعر بالخوف بسببه مع ذلك كانت هنالك أفكار كثيرة تذكرني أن أركان شخص جيد، مهم فعلت له ومهما ضربته هو لم يحاول مرة رد الإذية كما أنه قد سبق وأنقذني عدة مرات، مرة من ستيف ومرة من لوسيو والبارحة من رجاله.
هو نبيل، هكذا قال لوسيو أيضا.
جلست على حافة السرير بعد تفكير طويل وأنا أبقى عيوني ثابتة على ظهره.
"أستطيع سماع كل ما يدور في منزلكم من كلام حينما أكون داخلها. وكأنني فرد منكم." قال وهو يشير على اللوحة بكلامه.
"لهذا علمت قصتي مع بيرلي؟ أخبرني من سمعته يتحدث عنها في هذا المنزل؟" اندفعت أسأله مباشرة بنبرة حادة أتواعد داخلي بالجحيم لمن تجرأ وذكر اسم تلك الساقطة في منزلي.
"أمك والمدعو براد." رد وهو يتسمر بمداعبة باغيير التي أستلقت على ظهرها تمد له بطنها.
"أمي وبراد؟" همست من أسفل أنفاسي بغرابة.
"أجل، وحسب ما أذكر حدث ذلك في اليوم الذي تشاجرت فيه مع أمك لأنها ذكرت سيرة صديقتك الجديدة، يومها أيضا ظننتي أن براد الواشي وطردته."
رمشت غير مصدقة لدقة المعلومات التي يمتلكها وكأنه حقا كان حاضر معنا يومها.
َ"بعد أن صعدت إلى الأعلى ظلت تتحدث عن بيرلي أمامه وذكرت كل ما حدث معك ومعها بالتفصيل."
تجاهلت جل ما كان يتفوه به وتجاهلت كوني أردت الإتصال بماما ولم أهتم حتى بتلك الفاسقة بيرلي لأني أدركت أن هنالك شيء أهم من كل ذلك.
"كيف تستطيع سمعنا؟" تساءلت بدهشة وأنا أجمع حواجبي بحيرة من أمري.
"أخبرتك أن كل أصوات المنزل تصلني عن طريق اللوحة، أنها مثل بوابة بين قصري ومنزلكم." تحدث وهو يتسمر باللعب مع باغيير.
"قصرك؟"
"أجل. أعيش في ذلك القصر المتواجد في صورة بين المقابر وعلى الهاوية."
"هل أستطيع الدخول إلى اللوحة معك؟" سألت مباشرة بحماس ما أن ذكر كلمة مقابر.
أحد أحلامي هو نبش في قبر ميت وتحليل عظامه وجثته.
"لا تستطيعين. أنا الوحيد الذي بمقدوره الخروج والدخول منها. أستطيع الخروج منها عندما يحين منتصف الليل، أتسكع في عالمكم وعند ظهور أول خيط للشمس تحديداً أعود مباشرة إلى عالمي حتى ولو لم أرغب بذلك."
رفعت حاجباي بدهشة وأنا أدفع شعري إلى خلف أذني.
"أخبرني كيف تخرج منها؟ وما هو عالمك؟ أهو موازي لخاصتنا؟ وهل متأكد كونك لست بعفريت؟" أندفعت بالسؤال بحماسة.
"أنها أسرار لا تستطيعين استيعابها ميلانو."
"كيف تخبرنني أنني لا أستطيع استيعابها في حين أنني صدقتك على الفور؟"
"أليس لأنك رأيتني بعيناك أخرج منها؟"
"ذلك ليس مبرر!"
"بل هو كذلك. أنا أشعر بالجوع أريد أن أكل. كما أريد لاصقة وأدوية هنالك جرح عميق في بطني لا أعلم من أين حصلت عليه." ظل يثرثر وهو يتوجه بإتجاه مكتبي، بإتجاهي.
بلعت ريقي بتوتر وأنا أراه يقف بقربي يقوم بتفتيش مكتبي.
"مالذي كنت تفعلينه قبل مجيئي؟" تساءل ما أن لمح المكبرة.
"ما هذه؟" اضاف حينما وضع عينه على العدسة.
"أنها عينة. قشرة للون قد أخذته من لوحة حتى أدرسه." أجبته على الفور وأنا أتراجع إلى الخلف أترك بيني وبينه مسافة لا بأس بها.
"تبا." همس من بين أنفاسه وهو يبتعد ويعتدل في وقفته يستند بيديه على خشب المكتب بينما يتنفس بقوة مغمض العينين.
"هل تنوين قتلي ميلانو؟ لم تدفعينني دوما إلى كرهك؟" سأل من بين أسنانه بسخط وقد فتح عينيه فجأة ينظر لي.
"مالذي فعلته لك أيها الأحمق؟ هل استوعبت أنني قذفت عليك صندوق زجاجي بوقت متأخر؟" سخرت أعقد يداي ناحية صدري.
"أنتِ تقودينني إلى الجنون!" تحدث وهو يسير سريعا بإتجاه اللوحة.
"إيذاها من الخارج يعني إيذائي جسديا، وأن أختفت هي يعني موتي!" تحدث وهو يضغط على فكه بقوة كمن يحاول تمالك أعصابه وهو يقوم بتفقد اللوحة.
"ونزعت عنها الغلاف الشفاف؟ فهمت الآن لم شعرت بالألم شديد على غير العادة حينما خرجت!" تكلم وهو يطلق تنهيدة ضجرة ومستسلمة في نهاية.
"أنت حقا تكرهينني وتنوين قتلي." تحدث وهو يتجول بعيونه في أرجاء.
"لا أفهم أي شيئا مما قلته لتو. كيف للوحة أن تؤثر عليك هكذا؟"
"كيف لي أن أعيش وسط لوحة؟" رد عليا هازئا وهو يتجه ناحية الواقي الذي كان ملقى على الكنبة.
"منطقي." تمتمت.
"ما ذلك الضوء الذي ظهر عند خروجك؟"
"ذلك لأنك نزعت الواقي. الواقي يمنع اللوحة من أن تنير عند خروجي. لكنك نزعته ببساطة. كما في كل مرة تنقلين اللوحة أشعر بالألم عند الخروج لأن المكان حديث، وحينما تنزعين الغلاف الشفاف عنها يصبح الوجع أشد لأني أعلق بيني عالمي وعالمكم."
كان يلف الواقي حول اللوحة من شديد.
"لدي مهمة جديدة غدا وهي نقل لوحة إلى مكان أخر." تحدثت بنبرة شمتة وألف فكرة شريرة قد تسكعت في عقلي الآن.
"لتحاولي فعل ذلك وحينها سأقوم بفضحك في كل مكان." رد بهدوء وقد أنتهى من إعادة الورق لكنه فجأة قد تأوه بألم ممسك ببطنه.
"هل أنت بخير؟" تساءلت مباشرة بقلق أعتدل واقفة في مكاني.
"بسببك." همس وهو يقوم بأبعاد يده ليظهر لي قميصه الذي تلطخ قليلا بالدماء.
شعرت بالندم والأسف تجاهه لكني لم أرغب بأظهار ذلك.
تماسكت أمامه وأبديت معالم باردة.
"تعال. سأقوم بمدواتك." تحدثت وأنا أخطو تجاه الحمام حتى أحضر علبة الأسعافات.
"منذ متى أصبحت ممرضة؟" سخر وقد سمعت صوت خطواته تقترب من الحمام.
"هل تظن تعقيم ولف ضمادة يحتاج إلى ممرضة أيها العبقري؟" سألته استخفاف وأنا أخرج علبة الإسعافات من الدرج ومن ثم قمت بأغلاقه.
"لكن ما أعتدته منك هو الأذية وليس العلاج." سخر مجددا مما دفعني لتسديد نظرة كارهة له.
كان قد عاد أدراجه حينما خرجت ودهب للأستلقاء على سريري مما دفع باغيير القفز إلى جانبه حتى تنام بقربه.
"بالمناسبة لقد قلت لباغيير أنها ليست أول مرة تشاهدك فيها وأنت تخرج بتلك الطريقة، هل رأتك في أول يوم خرجت فيه؟" سألت وأنا أسحب كرسي المكتب لأجلس مقابلة إياه.
"أنهض." أمرته وأنا أفتح علبة الإسعافات.
"حينما خرجت لأول مرة قد قابلتني هي." تحدث بابتسامة وهو يعتدل جالسا ثم رفع قميصه جزيئا يظهر مكان إصابته.
كان عميق كما قال، لكنه ليس بصغير.
شعرت بالذنب يزداد أكثر داخلي.
"لكنها لم تفعل لي أي شيء، بل قادتني إلى المطبخ ووقفت قرب الثلاجة وحينها علمت أنها تريد أن أحضر لها شيء ما منه. كانت تريد العسل ولا تعلم كيفية فتح البرطمان فمددتها له بعد أن سكبته في صحن." تحدث بفخر يظن أنه قام بعمل بطولي.
السخيف لا يعلم أنه هكذا يقوم بضرها.
"تبا! ألهذا أحبتك سريعا؟" تساءلت بتفاجئ وأنا أرفع وجهي له ليبتسم بأتساع وهو يهز رأسه.
أحمق!
"لا تخبرني أنك أيضا من فتحت باب المستودع لها لتمنحها عسل ديونيسوس؟"
" أجل."
"أيها الأحمق إلا تعلم أنه مضر لها! كما أن ليلتها قد وقعت في مشاكل بسببك!" صرخت به وأنا أضغط على جرحه بقوة ليتأوه وهو يحاول أبتعاد عني.
"أسف لم أكن أعلم أنه مضر لها! توقفي في الحال!" ترجاني وهو يمسك يدي يحاول أبعادي.
"لن استغل لحظة ضعفك أركان لكن تأكد من أنني سأنتقم منك أشد أنتقام." همست من بين اسناني مهددة وأنا أرمي القطن جانبا ثم سحبت الضمادات.
"شكرا لك يا حلوة." قال ما أن أنهيت تضميده لأنظر له من أسفل رموشي بحدة.
"سأفضل أن تناديني جثة أو صرصار على أن تقول لي هذا القرف."
كنت أشير بذلك إلى كلمة حلوة التي يناديها بي من حين لأخر.
"لم لا تحبين كلمة حلوة؟" تساءل بأستغراب وهو يعدل من قميصه.
"لأني لست حلوة، أنا سامة." قلت له وأنا أحمل علبة الإسعافات بأتجاه مكتبي.
"أفعى؟" رد ساخرا وهو يستلقي على سريري بينما يستدير إلى جانب باغيير ليلاعبها.
"بل عقرب." رددت أجلس على حافة المكتب.
"ماذا حدث ليلة البارحة بعدما تركتني؟"
"عثرت عليهم ولقنتهم درسا." قال مشيرا أنه بذلك قام بضربهم.
"هل تركتهم مع إصابات خطيرة؟" رددت عليه بذات نبرته الهازئة.
"لم أفعل ذلك سوى مع الرجل الذي ضربته باغيير سابقا. أما أخرون أكتفيت بمنحهم تهديد صغير." نبرته المستهزئة أثناء تفوه بذلك كان تخبرني العكس تماما. تخبرني أنه قام بتحطيم عظامهم جميعا.
"مالذي جعلك تعود إذ؟ ماذا تنوي أن تفعل الليلة؟"
لم أكن أستطيع كبح فضولي أكثر، ولم أكن قادرة على منع الاهتمام من السيطرة على نبرة صوتي ونظراتي تجاهه.
"أصبحت فضولية جدا ميلانو وهذا لا يعجبني." قال وهو يعقد يديه أسفل رأسه.
"أنت في منزلي وغرفتي! تخرج وتدخل كل ليلة منهما! من حقي أن أسألك تجنب لوقوعك في مشاكل." حاولت تبرير له وأنا أهرب بعيوني بعيدا عنه.
شعرت به يبتسم بطريقة لعوب وهو يبقى نظره ثابت عليا.
"لا تقلقي. لقد كنت دوما حذر في خطواتي، حينما لا تكونين معي يصبح كل شيء من حولي بخير."
"أنت تستمر بقول الأكاذيب مع ذلك أنا لن أرد عليك ولن أقوم بمشاجرتك لأني كلانا يعلم الحقيقة التي تتهرب منها. أنك أنت هو المغناطيس الذي جلب لي المشاكل وليس العكس."
"أنت بالفعل سامة يا صرصار." قال بنبرة درامية وهو يتقلب في سريري مثل كلب مسعور.
"لن أقدر على نوم عليه من الآن وصاعد." تحدثت بقرف وأنا أشير بسبابتي على سريري.
توقف عما كان يفعله ثم استقام جالسا ينظر لي لثواني بثبات يجعلني أعقد حاجباي بحيرة.
"ما الخطب معكَ؟"
"ألم تسأليني عما سأفعله هذه الليلة؟"
العقدة بين حواجبي ازدادت.
"أجل. ولأذكرك أنك قمت بالرد عليا بطريقة وقحة."
"هل جربت مرة النوم أسفل النجوم؟"
"ماذا تقصد إيها المنحرف؟" رددت عليه مباشرة وأنا أرفع المكبرة قصد رميها عليه.
"لا أقصد أي شيء أيتها المنحرفة!" رد على فور وهو يعتدل واقفا ليبتعد عني بينما باغيير قد نهضت هي الأخرى بأذان منتصبة تراقب ما يحدث باستمتاع.
"كل ما أردته هو الخروج والتسكع في أنحاء." قال وهو يرفع يديه للأعلى يحركها حتى يقوم بتهدئتي.
"وإلى أين تنوي أصطحابي؟" رددت عليه ساخرة وأنا أخفض المكبرة. في الواقع لم أنوي رميها عليه بل كنت أهدده بها وحسب، لست مجنونة لأرميها عليه، أنها أغلى من كلانا.
"ألم تخبرني أنك تريدين زيارة قصري؟ لكنك لا تستطيعين التنقل بين العوالم مثلي. فما رأيك بزيارة المقابر في عالمكم؟" تساءل ولا تزال علامات تردد ظاهرة على وجهه مما دفعني للابتسام بأتساع ورضا بينما أرفع حاجبي بأستحسان للفكرة.
"موافقة."
مباشرة قمت بالقفز إلى أسفل المكتب بعد أن ألتقطت صندوق زجاجي حتى أدفاع به عن نفسي إذ حاول ذلك العفريت الأقتراب مني.
"أنه ليس حقيقيا. أنه ليس حقيقيا. أنه مجرد وهم." تمتمت وأنا أنكمش حول نفسي بخوف.
"أنا حقيقي." رد الخيال وهو يقوم بتحسس جسده، يتأكد من كونه حقيقيا أيضا.
"بل هو حقيقي." صحت من جديد أرمي عليه الصندوق لكن تسديدتي كانت خاطئة مثل العادة وهو قد نجح في تجنبها.
"ما الذي أفعله هنا؟" تساءل صائحا يتجنب ضربتي. ثم بدأ بتمرير عيونه في المكان.
"لم أنا بغرفتك؟"
بدأت بالبحث عن هاتفي في جيوب سروالي قبل أن أتذكر تركته على جانب الآخر من السرير حتى اشحن بطاريته.
"بل أنا من يجب عليه أن يطرح هذا السؤال. مالذي تفعله هنا؟ وكيف خرجت من اللوحة؟" تساءلت بنبرة لم أخفي الارتباك منها وأنا أسترق النظر له من الأسفل.
"أأنت سحر؟" همست من جديد بتفاجئ مجيبة نفسي وأنا أضع يداي على فمي.
"إذ أنتِ سبب شعوري بالألم! أساسا أنتِ غرابي. الغراب المشؤوم الذي جلب لي النحاس منذ رؤيته." تحدث وهو يشير ناحيتي بحنق.
"لم قمت بتغيير اللوحة؟ هل تعلمين مقدر الألم الذي شعرت به عند خروجي بسببك تغيرك للمكان؟ ماذا أن كان أحد غيرك في أرجاء ورأني أخرج منها؟ لم تستمرين دوما بتوريطي؟" ظل يتحدث بعصبية وهو ينظر لي بحدة مما جعلني أبقى ثابتة في مكاني.
"بل أنت من يجب عليه التفسير هنا. ما الذي قد يجعل شخصا يخرج من لوحة؟"
"أظنني أجبتك سابقا. أنا سحر." تحدث وهو يسير مقترب من باغيير التي أرتبكت لظهوره أيضا بتلك الطريقة.
"أنت عفريت!" همست وأنا أزحف حتى أخرج من أسفل المكتب.
"عليك أن تخرج من غرفتي سريعا!" أضفت وأنا أبقى واقفة على ركبتاي.
"أنت من أحضرتني إلى هنا وتطلبين مني الخروج؟" سخر وهو ينحني للجلوس أمام باغيير التي أنتصبت أذانها تحذير له حتى لا يقترب أكثر.
"كيف حالك يا صغيرة؟ لم تبدين خائفة؟ أنها ليست أول مرة تشاهدينني فيها أخرج بهذه الطريقة لم الخوف إذ؟" حاول التودد من باغيير وهو يحدثها بنبرة لطيفة.
هل قال للتو أنه خارج بالسابق أمامها بهذه الطريقة؟
لهذا كنت مطمئنة له بالسابق؟
رمشت عديد المرات بعدم تصديق.
"هل أنت طبيعي؟"
"هل تريني كذلك؟" رد هازئا وهو يشير على اللوحة.
"سأورطك عند ماما." هددته أفتح فمي مستعدة لصراخ.
"ألم تخرج منذ ساعتين من أجل حضور إجتماع طارئ لأنه حصل أزمة في أحد فروع البعيدة لشركتها؟" قاطعني فور يمنعني عن فعل الغباء الذي كنت أخطط له.
كان يقوم بملاعبة باغيير بعد أن نجح أخيرا في تهدئتها لا ينظر لي.
"كيف تعلم كل شيء حيالنا؟" تساءلت بتردد.
استقمت واقفة وأنا أشعر بالخوف بسببه مع ذلك كانت هنالك أفكار كثيرة تذكرني أن أركان شخص جيد، مهم فعلت له ومهما ضربته هو لم يحاول مرة رد الإذية كما أنه قد سبق وأنقذني عدة مرات، مرة من ستيف ومرة من لوسيو والبارحة من رجاله.
هو نبيل، هكذا قال لوسيو أيضا.
جلست على حافة السرير بعد تفكير طويل وأنا أبقى عيوني ثابتة على ظهره.
"أستطيع سماع كل ما يدور في منزلكم من كلام حينما أكون داخلها. وكأنني فرد منكم." قال وهو يشير على اللوحة بكلامه.
"لهذا علمت قصتي مع بيرلي؟ أخبرني من سمعته يتحدث عنها في هذا المنزل؟" اندفعت أسأله مباشرة بنبرة حادة أتواعد داخلي بالجحيم لمن تجرأ وذكر اسم تلك الساقطة في منزلي.
"أمك والمدعو براد." رد وهو يتسمر بمداعبة باغيير التي أستلقت على ظهرها تمد له بطنها.
"أمي وبراد؟" همست من أسفل أنفاسي بغرابة.
"أجل، وحسب ما أذكر حدث ذلك في اليوم الذي تشاجرت فيه مع أمك لأنها ذكرت سيرة صديقتك الجديدة، يومها أيضا ظننتي أن براد الواشي وطردته."
رمشت غير مصدقة لدقة المعلومات التي يمتلكها وكأنه حقا كان حاضر معنا يومها.
َ"بعد أن صعدت إلى الأعلى ظلت تتحدث عن بيرلي أمامه وذكرت كل ما حدث معك ومعها بالتفصيل."
تجاهلت جل ما كان يتفوه به وتجاهلت كوني أردت الإتصال بماما ولم أهتم حتى بتلك الفاسقة بيرلي لأني أدركت أن هنالك شيء أهم من كل ذلك.
"كيف تستطيع سمعنا؟" تساءلت بدهشة وأنا أجمع حواجبي بحيرة من أمري.
"أخبرتك أن كل أصوات المنزل تصلني عن طريق اللوحة، أنها مثل بوابة بين قصري ومنزلكم." تحدث وهو يتسمر باللعب مع باغيير.
"قصرك؟"
"أجل. أعيش في ذلك القصر المتواجد في صورة بين المقابر وعلى الهاوية."
"هل أستطيع الدخول إلى اللوحة معك؟" سألت مباشرة بحماس ما أن ذكر كلمة مقابر.
أحد أحلامي هو نبش في قبر ميت وتحليل عظامه وجثته.
"لا تستطيعين. أنا الوحيد الذي بمقدوره الخروج والدخول منها. أستطيع الخروج منها عندما يحين منتصف الليل، أتسكع في عالمكم وعند ظهور أول خيط للشمس تحديداً أعود مباشرة إلى عالمي حتى ولو لم أرغب بذلك."
رفعت حاجباي بدهشة وأنا أدفع شعري إلى خلف أذني.
"أخبرني كيف تخرج منها؟ وما هو عالمك؟ أهو موازي لخاصتنا؟ وهل متأكد كونك لست بعفريت؟" أندفعت بالسؤال بحماسة.
"أنها أسرار لا تستطيعين استيعابها ميلانو."
"كيف تخبرنني أنني لا أستطيع استيعابها في حين أنني صدقتك على الفور؟"
"أليس لأنك رأيتني بعيناك أخرج منها؟"
"ذلك ليس مبرر!"
"بل هو كذلك. أنا أشعر بالجوع أريد أن أكل. كما أريد لاصقة وأدوية هنالك جرح عميق في بطني لا أعلم من أين حصلت عليه." ظل يثرثر وهو يتوجه بإتجاه مكتبي، بإتجاهي.
بلعت ريقي بتوتر وأنا أراه يقف بقربي يقوم بتفتيش مكتبي.
"مالذي كنت تفعلينه قبل مجيئي؟" تساءل ما أن لمح المكبرة.
"ما هذه؟" اضاف حينما وضع عينه على العدسة.
"أنها عينة. قشرة للون قد أخذته من لوحة حتى أدرسه." أجبته على الفور وأنا أتراجع إلى الخلف أترك بيني وبينه مسافة لا بأس بها.
"تبا." همس من بين أنفاسه وهو يبتعد ويعتدل في وقفته يستند بيديه على خشب المكتب بينما يتنفس بقوة مغمض العينين.
"هل تنوين قتلي ميلانو؟ لم تدفعينني دوما إلى كرهك؟" سأل من بين أسنانه بسخط وقد فتح عينيه فجأة ينظر لي.
"مالذي فعلته لك أيها الأحمق؟ هل استوعبت أنني قذفت عليك صندوق زجاجي بوقت متأخر؟" سخرت أعقد يداي ناحية صدري.
"أنتِ تقودينني إلى الجنون!" تحدث وهو يسير سريعا بإتجاه اللوحة.
"إيذاها من الخارج يعني إيذائي جسديا، وأن أختفت هي يعني موتي!" تحدث وهو يضغط على فكه بقوة كمن يحاول تمالك أعصابه وهو يقوم بتفقد اللوحة.
"ونزعت عنها الغلاف الشفاف؟ فهمت الآن لم شعرت بالألم شديد على غير العادة حينما خرجت!" تكلم وهو يطلق تنهيدة ضجرة ومستسلمة في نهاية.
"أنت حقا تكرهينني وتنوين قتلي." تحدث وهو يتجول بعيونه في أرجاء.
"لا أفهم أي شيئا مما قلته لتو. كيف للوحة أن تؤثر عليك هكذا؟"
"كيف لي أن أعيش وسط لوحة؟" رد عليا هازئا وهو يتجه ناحية الواقي الذي كان ملقى على الكنبة.
"منطقي." تمتمت.
"ما ذلك الضوء الذي ظهر عند خروجك؟"
"ذلك لأنك نزعت الواقي. الواقي يمنع اللوحة من أن تنير عند خروجي. لكنك نزعته ببساطة. كما في كل مرة تنقلين اللوحة أشعر بالألم عند الخروج لأن المكان حديث، وحينما تنزعين الغلاف الشفاف عنها يصبح الوجع أشد لأني أعلق بيني عالمي وعالمكم."
كان يلف الواقي حول اللوحة من شديد.
"لدي مهمة جديدة غدا وهي نقل لوحة إلى مكان أخر." تحدثت بنبرة شمتة وألف فكرة شريرة قد تسكعت في عقلي الآن.
"لتحاولي فعل ذلك وحينها سأقوم بفضحك في كل مكان." رد بهدوء وقد أنتهى من إعادة الورق لكنه فجأة قد تأوه بألم ممسك ببطنه.
"هل أنت بخير؟" تساءلت مباشرة بقلق أعتدل واقفة في مكاني.
"بسببك." همس وهو يقوم بأبعاد يده ليظهر لي قميصه الذي تلطخ قليلا بالدماء.
شعرت بالندم والأسف تجاهه لكني لم أرغب بأظهار ذلك.
تماسكت أمامه وأبديت معالم باردة.
"تعال. سأقوم بمدواتك." تحدثت وأنا أخطو تجاه الحمام حتى أحضر علبة الأسعافات.
"منذ متى أصبحت ممرضة؟" سخر وقد سمعت صوت خطواته تقترب من الحمام.
"هل تظن تعقيم ولف ضمادة يحتاج إلى ممرضة أيها العبقري؟" سألته استخفاف وأنا أخرج علبة الإسعافات من الدرج ومن ثم قمت بأغلاقه.
"لكن ما أعتدته منك هو الأذية وليس العلاج." سخر مجددا مما دفعني لتسديد نظرة كارهة له.
كان قد عاد أدراجه حينما خرجت ودهب للأستلقاء على سريري مما دفع باغيير القفز إلى جانبه حتى تنام بقربه.
"بالمناسبة لقد قلت لباغيير أنها ليست أول مرة تشاهدك فيها وأنت تخرج بتلك الطريقة، هل رأتك في أول يوم خرجت فيه؟" سألت وأنا أسحب كرسي المكتب لأجلس مقابلة إياه.
"أنهض." أمرته وأنا أفتح علبة الإسعافات.
"حينما خرجت لأول مرة قد قابلتني هي." تحدث بابتسامة وهو يعتدل جالسا ثم رفع قميصه جزيئا يظهر مكان إصابته.
كان عميق كما قال، لكنه ليس بصغير.
شعرت بالذنب يزداد أكثر داخلي.
"لكنها لم تفعل لي أي شيء، بل قادتني إلى المطبخ ووقفت قرب الثلاجة وحينها علمت أنها تريد أن أحضر لها شيء ما منه. كانت تريد العسل ولا تعلم كيفية فتح البرطمان فمددتها له بعد أن سكبته في صحن." تحدث بفخر يظن أنه قام بعمل بطولي.
السخيف لا يعلم أنه هكذا يقوم بضرها.
"تبا! ألهذا أحبتك سريعا؟" تساءلت بتفاجئ وأنا أرفع وجهي له ليبتسم بأتساع وهو يهز رأسه.
أحمق!
"لا تخبرني أنك أيضا من فتحت باب المستودع لها لتمنحها عسل ديونيسوس؟"
" أجل."
"أيها الأحمق إلا تعلم أنه مضر لها! كما أن ليلتها قد وقعت في مشاكل بسببك!" صرخت به وأنا أضغط على جرحه بقوة ليتأوه وهو يحاول أبتعاد عني.
"أسف لم أكن أعلم أنه مضر لها! توقفي في الحال!" ترجاني وهو يمسك يدي يحاول أبعادي.
"لن استغل لحظة ضعفك أركان لكن تأكد من أنني سأنتقم منك أشد أنتقام." همست من بين اسناني مهددة وأنا أرمي القطن جانبا ثم سحبت الضمادات.
"شكرا لك يا حلوة." قال ما أن أنهيت تضميده لأنظر له من أسفل رموشي بحدة.
"سأفضل أن تناديني جثة أو صرصار على أن تقول لي هذا القرف."
كنت أشير بذلك إلى كلمة حلوة التي يناديها بي من حين لأخر.
"لم لا تحبين كلمة حلوة؟" تساءل بأستغراب وهو يعدل من قميصه.
"لأني لست حلوة، أنا سامة." قلت له وأنا أحمل علبة الإسعافات بأتجاه مكتبي.
"أفعى؟" رد ساخرا وهو يستلقي على سريري بينما يستدير إلى جانب باغيير ليلاعبها.
"بل عقرب." رددت أجلس على حافة المكتب.
"ماذا حدث ليلة البارحة بعدما تركتني؟"
"عثرت عليهم ولقنتهم درسا." قال مشيرا أنه بذلك قام بضربهم.
"هل تركتهم مع إصابات خطيرة؟" رددت عليه بذات نبرته الهازئة.
"لم أفعل ذلك سوى مع الرجل الذي ضربته باغيير سابقا. أما أخرون أكتفيت بمنحهم تهديد صغير." نبرته المستهزئة أثناء تفوه بذلك كان تخبرني العكس تماما. تخبرني أنه قام بتحطيم عظامهم جميعا.
"مالذي جعلك تعود إذ؟ ماذا تنوي أن تفعل الليلة؟"
لم أكن أستطيع كبح فضولي أكثر، ولم أكن قادرة على منع الاهتمام من السيطرة على نبرة صوتي ونظراتي تجاهه.
"أصبحت فضولية جدا ميلانو وهذا لا يعجبني." قال وهو يعقد يديه أسفل رأسه.
"أنت في منزلي وغرفتي! تخرج وتدخل كل ليلة منهما! من حقي أن أسألك تجنب لوقوعك في مشاكل." حاولت تبرير له وأنا أهرب بعيوني بعيدا عنه.
شعرت به يبتسم بطريقة لعوب وهو يبقى نظره ثابت عليا.
"لا تقلقي. لقد كنت دوما حذر في خطواتي، حينما لا تكونين معي يصبح كل شيء من حولي بخير."
"أنت تستمر بقول الأكاذيب مع ذلك أنا لن أرد عليك ولن أقوم بمشاجرتك لأني كلانا يعلم الحقيقة التي تتهرب منها. أنك أنت هو المغناطيس الذي جلب لي المشاكل وليس العكس."
"أنت بالفعل سامة يا صرصار." قال بنبرة درامية وهو يتقلب في سريري مثل كلب مسعور.
"لن أقدر على نوم عليه من الآن وصاعد." تحدثت بقرف وأنا أشير بسبابتي على سريري.
توقف عما كان يفعله ثم استقام جالسا ينظر لي لثواني بثبات يجعلني أعقد حاجباي بحيرة.
"ما الخطب معكَ؟"
"ألم تسأليني عما سأفعله هذه الليلة؟"
العقدة بين حواجبي ازدادت.
"أجل. ولأذكرك أنك قمت بالرد عليا بطريقة وقحة."
"هل جربت مرة النوم أسفل النجوم؟"
"ماذا تقصد إيها المنحرف؟" رددت عليه مباشرة وأنا أرفع المكبرة قصد رميها عليه.
"لا أقصد أي شيء أيتها المنحرفة!" رد على فور وهو يعتدل واقفا ليبتعد عني بينما باغيير قد نهضت هي الأخرى بأذان منتصبة تراقب ما يحدث باستمتاع.
"كل ما أردته هو الخروج والتسكع في أنحاء." قال وهو يرفع يديه للأعلى يحركها حتى يقوم بتهدئتي.
"وإلى أين تنوي أصطحابي؟" رددت عليه ساخرة وأنا أخفض المكبرة. في الواقع لم أنوي رميها عليه بل كنت أهدده بها وحسب، لست مجنونة لأرميها عليه، أنها أغلى من كلانا.
"ألم تخبرني أنك تريدين زيارة قصري؟ لكنك لا تستطيعين التنقل بين العوالم مثلي. فما رأيك بزيارة المقابر في عالمكم؟" تساءل ولا تزال علامات تردد ظاهرة على وجهه مما دفعني للابتسام بأتساع ورضا بينما أرفع حاجبي بأستحسان للفكرة.
"موافقة."