الفصل السادس عشر لا خيار آخر

كانت هدى تسير ومازال شعور القلق يسيطر عليها، تشعر أنها غريبة عن هذا العالم، تتساءل أين يذهب المرء عندما يكون في حالتها تلك؟ أين يمكنها أن تذهب وهي لا تتذكر شيء؟! جلست على جانب الرصيف عندما شعرت بالتعب وهي تتمنى أن تتذكر؛ تأمل أن يكون لها منزل وعائلة تستطيع البقاء معهم.

مرت دقائق ووجدت سيارة تقف أمامها وأنزل الرجل زجاج النافذة حتى يتمكن من رؤيتها:

-ما الأمر يا فتاة ألا يوجد لديكِ مكان أم ماذا؟

نظرت له وقد شعرت بالقلق من نظراته لتبتعد وهي تسير متجاهلة الرد عليه، لاحظ خوفها منه ليتبعها:

-انتظري يا فتاة، سوف تعجبكي السيارة، هيا اصعدي بجواري.

حركت هدى رأسها بنفي وهي تتحدث إليه بصوت مرتجف:

-أذهب وليس لك شأن بي، لا أريد الصعود معك وانتهينا.

هبط مبتعدًا عن سيارته ليسيرويسرع بالوقوف أمامها:

-انتظري يا فتاة، دعينا نتحدث معًا لبعض الوقت، لماذا تريدي الهرب ويبدو أن أحدهم قام بطردكِ؟

حركت هدى رأسها بنفي وهي تبتعد عنه:

-ابتعد عني أنا أنتظر شخص ما، لا يوجد لك شأن بي، أنا لا أريد الذهاب معك.

أومئ لها ومازالت عينيه تكاد تلتهمها، قبل أن تبتعد وجدت من يقم بسحب زراعها:

-ما الذي يحدث هنا؟ ما شأنك أنت بها؟!

تراجع الآخر وهو يبتله ما بحلقه ببعض الحيرة:

-هل هذه الفتاة تخصك يا ليث؟

أومئ ليث له وهو ينظر إلى هدى بانزعاج شديد، لاحظت غضبه الشديد واعتذر الآخر له:

-لم أقصد مضايقتها أبدًا، كنت متعجب من وجودها هنا وللمرة الأولى أراها، أنظر نحن جيران منذ سنوات ولم أجد معك مثل تلك الفتاة.

تجاهله ليث وهو يتحدث بحزم:

-لا يوجد داعي لكثرة الحديث يا شاكر، هيا يا ورد تعالي معي.

حاولت هدى سحب يدها من بين يده لتجده يقبض عليها وهو ينظر إليها بحزم وقد بدى صوته غاضبًا أكثر من اللازم:

-سوف نتعاتب ونتناقش في منزلنا هيا ولن أقبل أي اعتراض.

سحبها وهو يشتعل غضبًا، يعلم أن شاكر من أسوء الأشخاص التي من الممكن أن تقابلهم طوال حياتها، لعن تسرعها ومازالت تحاول أن توقفه وهو يعلم جيدًا أنها مشتتة أكثر من أي وقت، تحدث بغضب:

-هل يمكنكي أن تتوقفي عن المقاومة؟ أنا حقًا لا أعلم كيف تفكرين؟ هل رأيتِ مني فعل سيء يجعلكي تتعاملين معي بتلك الطريقة يا ترى؟

لم تكن تنظر له وهي تحاول أن تقوم بتنظيم أنفاسها:

-لا أريد البقاء معك، أنت لست شخص جيد، أنا استطعت أن أرى هذا الأمر بوضوح أمام عينيّ.

شعر ليث أنه سوف يغضب، حاول أن يتمالك أعصابه حتى لا يخطئ:

-سوف نتحدث وأقوم بشرح كل شيء لكِ عندما نصل إلى المنزل، اهدئي الآن ولا تفكري بشيء.
-----
أوشك موسى على الصعود إلى المركب مع عائلته ليتصدى له بعض الرجال على الجزيرة، تعجب لهذا وهو ينظر لهم:

-ما الأمر؟ ابتعدوا من أمامي، أنا يجب أن أذهب الآن.

تبادلوا النظرات للحظات قبل أن يتقدم كبيرهم وقد كان رجل تخطى الأربعين عامًا وتخلل شعره بعض الشعر الأبيض، تحدث إليه بحزم:

-لا يمكنك الخروج من هنا، لقد اصبحت من ابناء هذه الجزيرة، عليك أن تأتي معنا لنقص عليك كافة القواعد.

ابتسم موسى ساخرًا وهو يحرك رأسه بعدم استيعاب:

-ما الذي يحدث لكم أنتم؟

اقترب سليم وهو متعجب من هذا ولكن أتى زواج ابنه من مارجريت إلى عقله وتمنى أن يكون سوء فهم منه ليس إلا:

-هذا ابني وعلينا الذهاب إلى عالمنا وعائلتنا، ما الذي سيفعله هنا لا أفهم؟

نظر له الرجل وبدى حائرًا وهو يخبره:

-يبدو أنكم تجهلون القواعد هنا، زواج موسى من الملكة مارجريت هو زواج أبدي وهذا الآن أصبح عالمه، لا يمكنه أن يغادره وإلا سيتضرر قلبه كثيرًا ويحدث له الكثير من المضاعفات.

انفعل موسى دون إرادة منه وهو للمرة الأولى يسمع عن تلك الأشياء:

-أنا لا أؤمن بهذا الهراء، سوف أذهب مع عائلتي ولا يمكنكم أن تمنعوني من هذا، أنا حر ولست عبد لكم ولهذه الجزيرة!

بالفعل أخذ قراره في مغادرة هذه الجزظيرة، لكن ما إن وضع قدمه على المركب حتى شعر بأن أنفاسه تتلاشى وكأنها تغادره! شيء ما لا يشعر به أحد سواه قام بدفعه ليعود حيث كان يقف، علم سليم أن ابنه في ورطة كبيرة ورط نفسه بها، اقترب ليتحدث إلى الرجل الأربعيني من جديد:

-ألا يوجد حل يمكننا أن تقوم به ليكون بخير ويغادر الجزيرة في أمان؟

حرك الآخر رأسه بنفي وهو يخبره بحزم:

-مؤكد الملكة مارجريت اخبرته بهذا، هو هنا بارادته، لقد فضل أن يتزوج فتاة من هنا وأصبح هذا المكان خاص به، لقد أصبح جزء من هذه الجزيرة، لا يمكنه أن يغادرها مهما حدث، أما عنكم فلقد انتهت المدة لاستضافتكم ويجب أن ترحلوا الآن.

كان موسى في حالة من الصدمة، يتساءل هل هذا الواقع يعيشه؟ مؤكد هو داخل كابوس صعب الخروج منه، هل من الممكن أن تكون مارجريت كذبت وأخفت الأمر عليه بارادتها؟ هل من الممكن أن تكون بهذا الكم من الأنانية؟!

تحدث سامح عندما وجد سليم على وشك الشجار مع هذا الرجل ولا يضمن ردود فعل الآخرين:

-دعنا نذهب يا سليم، الحديث لن يغير شيء، لقد اختار ابنك هذا وليس من الجيد أن يحتد النقاش أو تتشاجر معهم.

انفعل سليم وهو ينظر تجاه الرجل الذي يقف أمامه ثابتًا دون حركة:

-ما الذي تقوله يا سامح؟ أنا لن أترك ابني أبدًا في هذا المكان، لا يمكنك أن تقول لي أن أذهب بهذه البساطة، يمكنه أن يطلقها وينتهي الأمر.

تحدث إليه الرجل من جديد وقد بدأ صبره ينفذ وتقدموا رجاله على استعداد للتعامل:

-لا يمكنه أن يطلقها، لقد أعلن زواجه أمام الجميع وتحول هذا الزواج إلى زواج أبدي لا ينفك إلا بموت أحدهم، لا يوجد داعي للمزيد من الحديث، سوف تضييع وقتك ووقتنا بتلك الطريقة دون أي وقت، انتهى الآن وقتكم وعليكم أن تغادروا الجزيرة في الحال.

بدأو الرجال في دفع سليم تجاه المركب ومن معه ليبدأو الآخريين في مقاومتهم، لكن دون فائدة، تحدث موسى إلى والده وهو يحاول أن يجعله يطمئن بعد أن تأكد أنه لا يوجد مفر:

-أبي المكان هنا ليس سيء، سوف أكون بخير وسوف أتحدث مع مارجريت، أرجوك أذهب الآن حتى لا يتسببوا في أي ضرر لكم، أنا قادر على التصرف.

هو يعلم أنه كاذب، لقد بات هذا المكان أخطر من مجرد جزيرة دلفوا إليها للاستمتاع بموسم التفاح وأجواءها الرائعة، رحلوا عائلته دون إرادة منهم وهو يتابع رحيلهم بألم ومازالت أنفاسه متسارعة ولا يعرف السبب، وضع يده على قلبه وهو يتساءل لماذا شعر أن قلبه على وشك التوقف عندما كان على وشك المغادرة معهم؟!

تحدث الرجل الأربعيني إلى موسى بحيرة:

-هل تحب أن تأتي معنا لتعلم كل شيء عن القواعد الآن يا سيد موسى أم تحب تأجيل الأمر؟!

لم ينظر له وتحدث بغضب شديد وهو يبتعد عنه:

-ليس الآن عليّ أن أتحدث مع ملكتكم أولًا.

بالفعل كان ينوي الإنفجار بها وهو لا يعلم ما الذي كانت تخطط له ولماذا لم تخبره عن تلك القواعد؟ لقد أراد مساعدتها ولم يشك للحظة واحدة أنها على وشك أن تدمر حياته بأكملها.
------
أغلق ليث باب المنزل وهو ينظر لها بلوم شديد:

-شيء سيء حدث وكان تعاملكِ معي الأسوء من كل شيء يا ورد، تلك الفتاة التي كانت هنا لا تعني لي شيء، هي فتاة متزوجة وكانت تحاول أن تغريني بشكل مستمر، لم أنكر أنني استجبت لها في وقت من الأوقات وكان هذا  أكبر خطأ أنا قومت به، لكنني تراجعت سريعًا وكما ترين هي أتت لتقوم بازعاجي وحسب، لا يمكنني أن أستأمن فتاة قامت بخيانة زوجها على حياتي، أنا لا أعلم لماذا شعرتي بكل هذا الخوف مني؟ أنا لم أفكر بأي شيء من الممكن أن يضايقكي.

كانت تنظر له وهي تشعر بالكثير من التشتت، تحاول أن تبحث عن الصدق بعينيه واقترب ليقف أمامها وهو يتابع:

-لقد كان لدي مئات الفرص للتعرض لكِ ومضايقتكِ يا ورد، لكنني لم أفكر في شيء كهذا ولن أفعل حتى، أنتِ فتاة بريئة وأعلم أنكِ جيدة، أستطيع أن أرى هذا الشيء بوضوح أمام عيني، حتى لو لم تتذكري شيء، مستحيل أن تكوني فتاة سيئة.

ابتعدت عنه ولا تعلم ما الذي يجب أن تفعله، وضعت يدها على عينيها وانهارت باكية، شعور التشتت والتيه كان أقسى شيء يمر عليها، لا تعلم هل عليها تصديقه أم لا وماذا لو لم تصدقه؟ إلى أين سوف ترحل يا ترى وهي تعلم كل العلم أن لا مكان لها ومن الممكن أن تعاني وحدها في هذا العالم.

حرك ليث رأسه بنفي وهو ينظر لها بكثير من الحزن، شعور الضيق لم يغادره وزاد الأمر عندما رأها تبكي بهذا الضعف:

-توقفي يا ورد أرجوكِ، لا يمكنني تحمل رؤيتكِ تعانين بتلك الطريقة، أنا لست على مايرام وهذا بسبب قلقي عليكِ، لم أفكر في مضايقتكِ أبدًا.

نظرت له ومن جديد استطاعت أن ترى الصدق داخل عينيه، حاولت أن تهدأ وهي تخبره بقلق:

-أشعر أنني تائهة، فكرة أنك غريب على هذا العالم تبدو قاسية جدًا، أنا لا أعلم إن كانت لي عائلة أم لا أرجوك حاول أن تساعدني لأعرف من أنا.

أومئ ليث لها واقترب يمسح دموعها قائلًا:

-أعدكي أنني سوف أساعدكي، لكن على شرط واحد.

نظرت له بتعجب ليخبرها وهو يبتسم إليها بحنان كما لو كانت ابنته:

-سوف تتوقفين عن البكاء وتأتين معي لنتناول الطعام الشهي الذي قومتي بتحضيره ولم يلمسه أحد.

عضت على شفتيها باحراج وهي تخبره:

-أنا أسفة حقًا يا ليث، لقد برد الطعام وربما تغير طعمه، سوف أقوم بتسخينه و..

قاطعها ليث وهو يحرك رأسه بنفي واصرار:

-لا يا ورد يكفي بقاءكِ بالخارج رغم تعبكِ وارهاقكِ الشديد، انتظريني على المائدة وسوف أحضر كل شيء أنا معتاد على هذا.

اومأت له باستسلام وذهب هو بالفعل ليحضر الطعام، كان يتمنى أن تثق به ولا تخاف منه، لا يريدها أن تبقى قلقة بشكل دائم، لم يكن يعلم أن بداخله اعجاب بدأ ينمو بسرعة، ساعده في هذا حس المسؤولية تجاهها منذ أول يوم التقى بها.

كانت تجلس ومشاعر عدة بداخلها، ابتلعت ما بحلقها وهي تهمس إلى نفسها:

-إن كان صادق أم لا لم يعد لديّ الخيار، سوف أنتبه أكثر وأتمنى من الله أن يساعدني.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي