الفصل الحادي عشر دعوة
كنت شاردة. أعبث بالصحن الذي أمامي دون أن أكل طعامي. ودون أن أثير مشاكل مع فرانسيسكو مثل العادة على الرغم من أنه كان يستمر بإلقاء تعليقات لاذعة غير مباشرة بغرض مضايقتي. أنه لا يستسلم ولا يتعب. ثم يقولون عني أنني أنا من أقوم بإثارة الفوضى والمشاكل معه.
"ميلانو حبيبتي ما الخطب؟" انتشلني صوت ماما من شرودي لأرفع رأسي أنظر لها.
كل من على طاولة كان ينظر لي بأستغراب بسبب صمت المستمر وعدم ألقاء تعليقات لاذعة أو ساخرة تجاه أشقائي.
"ما الأمر؟" تساءلت بفضول ما أن أستمر فرانسيس وماما بالنظر لي بحيرة. ألم يكن يرغبان بأن أظل هادئة على الطاولة الطعام؟
"هل حدث شيء ما؟" تساءلت ماما تضع يدها على خاصتي وهي تنظر لي بتوتر.
"تبدين كشخص طبيعي ميلانو ولست كجثة ميتة. ذلك غريب." تحدث ساكا وهو يمنح أوسكار شريحة من اللحم المقدد.
"ماذا تقصد؟" سألته فور بعصبية أنظر له حيث كان منشغل بأجبار سحليته على الأكل.
"يقصد أنك تفكرين. وذلك عجيب." تحدثت ميامي من جانبي بوقاحة لاستدير لها فور بتفاجئ.
فرانسيس أطلق ضحكة صغيرة ثم سارع يضع يده على فمه حتى يكتم قهقهاته أما ماما فقد نظرت لها بتأنيب.
"هذا ما أقصده." تكلم ساكا بهدوء وهو يعود للتحديق بي.
هل هؤلاء أشقاء أما مجموعة من متنمري المدرسة الثانوية؟
"عزيزتي ميا. عزيزي ساكا. أنها شقيقتكما الكبرى ولا يجب أن تتحدثا معها بهذا الشكل على الإطلاق. أعتذرا لها فورا."
"لكن ماما ألم تقومي بتربيتنا على قول الصدق دائما وعدم الكذب ومنافقة آخرين؟"
رمشت ميامي ببراءة وهي تنظر إلى ماما التي تنهدت تسحب يدها بعيدا عن خاصتي.
ألتزمت الصمت ولم تعاتبها كأنها بذلك تتفق مع كلام القردة الصغيرة التي ابتسمت برضا تعود للأكل.
لو قمت أنا بقول هذا الكلام لميامي أو ساكا لأحدثت الحرب العالمية الثالثة ضدي.
قررت تجاهل الأمر وعدم تسبب بمشاكل تزعج ماما لأنني كنت أرغب بسؤالها عن حقيقة أركان، وأن كان قد عمل لدينا بالسابق كما يدعي أما لا.
لأنني للآن لا أستطيع تصديقا أن ذلك الرجل موجود. وأن كل ما حدث معي ليلة البارحة حقيقيا وليس بخيال.
كيف لشخص ما أن يختفي بتلك البساطة دون أن يترك أي أثر من ورائه؟ دون أن يصدر أي صوت وكأنه شبح؟
بسبب ما حدث بقيت مستيقظة دون أن يغمض لي جفنا. حتى أنني فكرت أنه من ممكن أن جزءا من ذاكرتي بقي مشوشا ومبهما بسبب الحادث.
"أمي هل كان يعمل لدينا شخص مدعو بأركان؟" سألتها بفضول لتعقد حاجبيها بحيرة من أمرها.
"أركان؟ لا أذكر أنه مر اسم كهذا من قبل أمامي. أنه أجنبي وأنا لا أشغل إلا أرجنتينيين عندنا كما تعلمين. لم تساءلين؟" ردت تنظر لي بضياع لكن لحسن الحظ أن ليدي قد دخلت برفقة طبق أفوكادو الذي سبق وطلبها فرانسيسكو من أجل حميته الصحية.
هي قد شاهدتني البارحة وأنا أصعد الدرج. وأنا أشك كونها قد لمحتني لأنها ضعيفة النظر. حتى إذ فعلت لن تشك أنني كنت بالخارج وحتما لن تقول لماما.
لكن حينما تبادلت هي وماما النظرات مبهمة بينهما جعلت ليدي تسرعا ناحية الخارج أدركت حينها أنها وشت بي.
بئسا لها.
"مالذي كنت تفعلينه خارجا عند الفجر؟ أين كنت؟" سؤال ماما جعل ميامي من جانبي توقع شوكتها بدهشة ومن فرانسيس وساكا يتبادلنا النظرات المندهشة فيما بينهما.
رسمت ابتسامة مزيفة على ثغري.
"ميلانو هل تمتلكين حبيبا؟" هذا أول ما تلفظت به ميامي المصدومة.
أخرجت لساني بتقزز وأنا أدفع صحني بعيدا حينما شعرت بالغثيان بسبب ما قالته.
"ما هذه القذارة التي تقولينها ميا؟"
"لا بدا أنها أرتكبت جريمة قتل وكانت تقوم بدفن الجثة في إحدى الغابات البعيدة." ساكا وبالرغم سنه صغير مقارنة بها إلا أنه كان يفكر بمنطقية أكثر منها.
"لا تقل مثل هذه السخافات المرعبة من جديد ساكا. لا تزل صغيرا لتفكر بهذا الشكل. أمي انظري كيف أثرت مدللة زوجك بشكل سلبي على شقيقها الأصغر سنا." أما فرانسيس فقد كان لا يترك أي فرصة ليقلل من شأني أمام ماما ويخلق مشكلة بيننا.
حدقت بصدمة في ملامح فرانسيس التي كانت تبتسم بسعادة وكأنه فاز باليانصيب.
طفل!
أنه يستمتع بإغاضتي!
"لا بدا أنها كانت في أحد النوادي ليلية مع رفيقتها الجديدة." أضاف يتدارك وضعه حينما ظللت أحدق به باحتقار. لكن مع ذلك كان يحافظ على ابتسامته الشماتة.
مررت نظري على عائلتي التي ظلت تراقبني بفضول. تنتظر مني إجابة على سؤالاتهم لكني تجاهلتهم وسحبت حقيبتي من أسفل طاولة ثم استقمت واقفة.
"لقد تأخرت على محاضرتي. وداعا." تكلمت وقد سارعت بالانسحاب من غرفة الطعام بالرغم من إستمرار ماما بمنداتي.
"لنسرع براد." أمرته ما أن عبرت أمامه. كان واقفا مع بقية مرافقي أشقائي. سيرجي، فيولا وليو.
"وداعا ميلانو." تحدثت فيولا بابتسامة واسعة والتي كانت مرافقة ميامي ونسخة شبيهة بها للحد الذي يظنونها في مدرسة شقيقتها. كانت ثرثارة، إجتماعية ومرحة مثلها. كما كانت وقحة أيضا.
"أين كنت البارحة؟" تساءل براد من خلفي ما أن تجاوزنا باب الخروج لأنظر له من خلف كتفي بدهشة.
"هل كنت تتنصت علينا؟"
"ليدي هي من أخبرتني." برر وهو يفتح لي باب السيارة.
"ما الخطب معها؟ هي على وشك نشر الأمر في صحف والمجالات كذلك أظنها قد أصيبت بالخرف وبدأت أصل المرأة الأرجنتينة التقاليدية النمامة بالسيطرة على شخصيتها." همست من أسفل أنفاسي بضيق بعد أن صعدت السيارة وصعد براد بعدي.
ظل ينظر لي الثاني بفضول مما جعلني أرمي له نظرة منزعجة.
"لا شأن لك. عليك أن تكون شاكرا أنني لم أفصلك من عملك بسبب نقلك لأخباري." قاطعته بحدة أخرسه ما أن هم بالحديث.
بالرغم من أنه أخبرني أنه لم يفعل ودافع عن نفسه. وبالرغم من أن ماما أيضا قد قالت إنه ليس هو من ينقل الأخبار لها. وعلى الرغم من أنني أصدقه إلا أنني أستخدمت ذلك الأمر كحجة لإسكاته.
نظرت إلى النافذة ما أن مررنا من جانب ذات
الزقاق.
شعرت بقلبي ينبض بعنف لذلك فتحت نافذة مباشرة حتى تصفعني الرياح لأتنفس بقوة أهدأ من روعي.
ظللت أنظر إلى الطريق بشرود أفكر في أركان إلى أن وصلنا إلى الجامعة.
.
.
.
"ميلانو." جذبني صوتا انوثي يناديني من الخلف.
كنت قد خرجت للتو من محاضرة العجوز الخرف وأنا لا أرغب بأي شجار أو أن يحطم أحدا الطلبة رأسي بثرثارته. أظنهم لم يتعملوا بعد. يجيب أن أهين أحدهم أو أتنمر عليه حتى لا يجرأ أي أحمق على تجاوز حدوده معي.
لكني تسمرت في مكاني بجمود فور أن لمحت هيئة آيلينا وهي تلوح لي من بعيد بابتسامة بينما الفتاة التي كانت بجانبها قد أصفر وجهها بخوف تهز رأسها بنفي علامة على رفضها لمحادثتي.
بجدية ما خطب آيلينا هذه؟
أعلم أنك ابنة شقيقة جان تيتش لكن ذلك لا يعطيكِ الحق بالالتصاق بي ودعوتي بصديقتكِ.
استدرت لها أراقبها وهي تمشي بهرولة تجاهي.
ازدادت ابتسامتها اتساعا وسعادة ما أن توقفت أمامي.
لم أبدي ردة فعل وظللت أحملق بها منتظرة منها التكلم. لأني كنت أعلم جيداً هذه الحركات. هي تتقرب مني من أجل سلطة والدي لا غير. مثلها مثل بقية الفتيات اللواتي كنا يلاحقنني في ثانوية، مثل تلك الفاسقة.
شددت على قبضتي بقوة ما أن تذكرتها.
بئس لها ولأمثالها.
رمشت آيلينا عديد المرات بتوتر وقد جاهدت لجعل ابتسامتها ودودة على الرغم من ارتباكها.
"كيف حالك؟" سألتني بود.
"بخير."
اكتفيت بإجابة بسيطة حتى لا تعتقد أن علاقتنا بتلك القرابة. أنا لا أريد أي أصدقاء ولا أريد أي زملاء. كل ما أريده أن أظل وحيدة دون الاقتراب من أي أنسان.وكأنني لوحة محظور لمسها على الكل مثل لوحات ماما.
أنا لا أحتمال سخافات ماما ولا مضايقات فرانسيس ولا إزعاجات أخوي الصغيرين. فكيف لي أن أدخل متطفل أخر على حياتي؟
كل ما أريده في هذه الحياة أن استمع إلى موسيقى الروك وأنا مستلقية بجانب باغيير النائمة بسلام. أقوم بتحنيط الحيوانات وقراءة كتب الكيمياء والأحياء.
أنا للأن لم أتعاف مما حدث بالسابق. لم أستطع أن أمضي قدما. بل ظللت محبوسة داخل الجزيرة التي أبحرت لها وحيدة دون شريك. تلك الجزيرة التي لا تتضمن أي بشري سواي.
عالمهم هذا ليس عالمي، وحياتهم هذه ليست حياتي. أنها مزيفة. مملوءة بالنفاق والأكاذيب حتى أنهم جعلوني مثلهم. تربية ماما سليمة والتي كما قالت ميامي صباح تتضمن عدم الكذب والنفاق لم تكن تناسب هذا الكوكب الوهم. لهذا كنا دوما نقع في مشاكل كوننا مختلفين عن الواقع.
لذلك صنعت جزيرة لي في خيالي قد كانت عالمي الخاص.
رفيقتها كانت ترمقني بازدراء على الرغم من أنها ارتجفت حينما ألقيت عليها نظرة قاتلة. سخيفة.
"جيد. لكن يبدو وجهك متعبا بعض الشيء. هل كل شيء على ما يرام؟" تساءلت تحاول فتح موضوع معي.
متى سأتخلص منه؟
"دوما ما يبدو وجهي متعب. أصفر اللون وفيه هالات داكنة. حتى أن شقيقي الأصغر يناديني بالجثة."
لم أمنع نبرتي من أن تحتد حينما تذكرت تعليقات ساكا السخيفة حيالي صباحا وتشبيهات ميامي الساحرة.
"كلا. بل تبدين جميلة جدا." قالت وهي تضع يديها على شفتيها تحارب حتى لا تخرج قهقهاتها.
"تمتلكين أخ؟ هذا جميل. انا لم أملك أي اشقاء لذلك احسدك."
"بل أنتِ المحفوظة هنا. أحسدك. أنا أملك ثلاثة اشقاء مستفزين. شقيق أكبر سن مني متخلف. وشقيقان أصغر سن مني احمقان. أنتِ في نعمة."
كنت بحاجة شديدة إلى الشكوى لأحدهم عن تصرفات أخواتي والتعبير عن مدى انزعاجي منهم. خاصة من فرانسيس الذي يراه الكل مثالي ولا يعملون حقيقية الشيطان المتخفي خلف قناع الكمال ذاك.
"أن كان أحدهم أكبر سن مني فلا أريده."
كانت تشبهني، تكره من يمتلك سلطة عليها.
"هو ليس أكبر سن مني. توأم يكبرني ببضع دقائق لا غير." تمتمت وأنا أقلب عيناي بضجر على ذكره.
قهقهت بخفة تضع يدها على فمها.
"يبدو أن يومك مملوء بالأحداث والمغامرات. وخاصة الإزعاج."
كانت هذه الفتاة تنجح في تبادل أطراف الحديث معي وهذا كان يزعجني.
ألتزمت الصمت ولم أرد عليها.
ابتسمت ثم سحبت حقيبتها من على ظهرها.
"لقد ناديتكِ من أجل أن منحك دعوة خاصة. تفضلي." قالت وهي تخرج لي بطاقة أستدعاء سوداء من حقيبتها.
" دعوة؟ لي؟ لماذا؟" تساءلت اعقد حواجبي بحيرة.
لم تدعوني؟
"لدي حفلة غنائية نهاية هذا الأسبوع في حانة جديدة. لذلك أردت دعوتكِ لحضورها. أجوائها تشبه أجواء سلسلة أفلام عائلة أدامز ومسلسلات مذكرات مصاصي دماء لذلك ظننت أنها قد تعجبك."
هذه الفتاة كانت تعرف جيدا كيف تغريني.
قضمت شفتي السفلى في تفكير.
هل أخذها منها؟
مستحيل!
ألتزمت الصمت ولم أخذ البطاقة منها علامة على رفضي لدعوتها.
"يبدو أنكِ لا تحبين الأماكن المزدحمة. فهمت." تمتمت بخيبة وهي تجبر نفسها على الابتسام.
هي لن تثير شفقتي أبدا.
"لكن خذيها. ربما تغيرين رأيك. العنوان موجود عليها ولا تستطيعين الدخول إلا بها لا ترميها." أضافت وقد عادت للابتسام ثم كانت تمسك يدي وتسحبها لتضع الدعوة فيها.
"هاي أنتِ…"
"فكري بالأمر جيدا ميلانو. أتمنى بصدق أن تقبلي دعوتي وتحضري حفلتي. وداعا." قاطعتني تتحدث وهي تبتسم بشقاوة ثم بدأت بالركض بعيدا عني تودعني بينما تلوح لي من خلف ظهرها.
"فتاة مجنونة." همست وأنا أقلب الدعوة بين يداي.
"دعوة خاصة لحفلة غنائية بحضور المغنية آيلينا على ساعة حادية عشر مساء في بار السيد ميكي." قرأت ما كان مكتوب على دعوة وأنا أتوجه ناحية سلة قمامة قصد رميها.
لكن توقفت في آخر لحظة حينما لمحت توقيع وجملة صغيرة أسفل البطاقة.
"ميلانو والكر؟" قرأت اسمي الذي كان مطبوع بالأسفل بحواجب معقودة بحيرة.
تنهدت وأنا أقلب عيناي في فضاء بتفكير.
إذا الدعوة مطبوعة خصيصا لي كما قالت.
هي تجعلني مميزة وأنا أحب ذلك.
هل أقبلها؟
لن أخسر أي شيء على كل حال أن فكرت في الموضوع. ربما استغل الأمر للخروج من المنزل في حالة وجود فرانسيس فيه. وربما لا أذهب وأخذها كحجة لملاحقة أركان مرة أخرى. هي تتيح لي خيرات كثيرة.
حشرتها داخل حقيبتي ثم سرت متوجهة ناحية المحاضرة التالية.
"ميلانو حبيبتي ما الخطب؟" انتشلني صوت ماما من شرودي لأرفع رأسي أنظر لها.
كل من على طاولة كان ينظر لي بأستغراب بسبب صمت المستمر وعدم ألقاء تعليقات لاذعة أو ساخرة تجاه أشقائي.
"ما الأمر؟" تساءلت بفضول ما أن أستمر فرانسيس وماما بالنظر لي بحيرة. ألم يكن يرغبان بأن أظل هادئة على الطاولة الطعام؟
"هل حدث شيء ما؟" تساءلت ماما تضع يدها على خاصتي وهي تنظر لي بتوتر.
"تبدين كشخص طبيعي ميلانو ولست كجثة ميتة. ذلك غريب." تحدث ساكا وهو يمنح أوسكار شريحة من اللحم المقدد.
"ماذا تقصد؟" سألته فور بعصبية أنظر له حيث كان منشغل بأجبار سحليته على الأكل.
"يقصد أنك تفكرين. وذلك عجيب." تحدثت ميامي من جانبي بوقاحة لاستدير لها فور بتفاجئ.
فرانسيس أطلق ضحكة صغيرة ثم سارع يضع يده على فمه حتى يكتم قهقهاته أما ماما فقد نظرت لها بتأنيب.
"هذا ما أقصده." تكلم ساكا بهدوء وهو يعود للتحديق بي.
هل هؤلاء أشقاء أما مجموعة من متنمري المدرسة الثانوية؟
"عزيزتي ميا. عزيزي ساكا. أنها شقيقتكما الكبرى ولا يجب أن تتحدثا معها بهذا الشكل على الإطلاق. أعتذرا لها فورا."
"لكن ماما ألم تقومي بتربيتنا على قول الصدق دائما وعدم الكذب ومنافقة آخرين؟"
رمشت ميامي ببراءة وهي تنظر إلى ماما التي تنهدت تسحب يدها بعيدا عن خاصتي.
ألتزمت الصمت ولم تعاتبها كأنها بذلك تتفق مع كلام القردة الصغيرة التي ابتسمت برضا تعود للأكل.
لو قمت أنا بقول هذا الكلام لميامي أو ساكا لأحدثت الحرب العالمية الثالثة ضدي.
قررت تجاهل الأمر وعدم تسبب بمشاكل تزعج ماما لأنني كنت أرغب بسؤالها عن حقيقة أركان، وأن كان قد عمل لدينا بالسابق كما يدعي أما لا.
لأنني للآن لا أستطيع تصديقا أن ذلك الرجل موجود. وأن كل ما حدث معي ليلة البارحة حقيقيا وليس بخيال.
كيف لشخص ما أن يختفي بتلك البساطة دون أن يترك أي أثر من ورائه؟ دون أن يصدر أي صوت وكأنه شبح؟
بسبب ما حدث بقيت مستيقظة دون أن يغمض لي جفنا. حتى أنني فكرت أنه من ممكن أن جزءا من ذاكرتي بقي مشوشا ومبهما بسبب الحادث.
"أمي هل كان يعمل لدينا شخص مدعو بأركان؟" سألتها بفضول لتعقد حاجبيها بحيرة من أمرها.
"أركان؟ لا أذكر أنه مر اسم كهذا من قبل أمامي. أنه أجنبي وأنا لا أشغل إلا أرجنتينيين عندنا كما تعلمين. لم تساءلين؟" ردت تنظر لي بضياع لكن لحسن الحظ أن ليدي قد دخلت برفقة طبق أفوكادو الذي سبق وطلبها فرانسيسكو من أجل حميته الصحية.
هي قد شاهدتني البارحة وأنا أصعد الدرج. وأنا أشك كونها قد لمحتني لأنها ضعيفة النظر. حتى إذ فعلت لن تشك أنني كنت بالخارج وحتما لن تقول لماما.
لكن حينما تبادلت هي وماما النظرات مبهمة بينهما جعلت ليدي تسرعا ناحية الخارج أدركت حينها أنها وشت بي.
بئسا لها.
"مالذي كنت تفعلينه خارجا عند الفجر؟ أين كنت؟" سؤال ماما جعل ميامي من جانبي توقع شوكتها بدهشة ومن فرانسيس وساكا يتبادلنا النظرات المندهشة فيما بينهما.
رسمت ابتسامة مزيفة على ثغري.
"ميلانو هل تمتلكين حبيبا؟" هذا أول ما تلفظت به ميامي المصدومة.
أخرجت لساني بتقزز وأنا أدفع صحني بعيدا حينما شعرت بالغثيان بسبب ما قالته.
"ما هذه القذارة التي تقولينها ميا؟"
"لا بدا أنها أرتكبت جريمة قتل وكانت تقوم بدفن الجثة في إحدى الغابات البعيدة." ساكا وبالرغم سنه صغير مقارنة بها إلا أنه كان يفكر بمنطقية أكثر منها.
"لا تقل مثل هذه السخافات المرعبة من جديد ساكا. لا تزل صغيرا لتفكر بهذا الشكل. أمي انظري كيف أثرت مدللة زوجك بشكل سلبي على شقيقها الأصغر سنا." أما فرانسيس فقد كان لا يترك أي فرصة ليقلل من شأني أمام ماما ويخلق مشكلة بيننا.
حدقت بصدمة في ملامح فرانسيس التي كانت تبتسم بسعادة وكأنه فاز باليانصيب.
طفل!
أنه يستمتع بإغاضتي!
"لا بدا أنها كانت في أحد النوادي ليلية مع رفيقتها الجديدة." أضاف يتدارك وضعه حينما ظللت أحدق به باحتقار. لكن مع ذلك كان يحافظ على ابتسامته الشماتة.
مررت نظري على عائلتي التي ظلت تراقبني بفضول. تنتظر مني إجابة على سؤالاتهم لكني تجاهلتهم وسحبت حقيبتي من أسفل طاولة ثم استقمت واقفة.
"لقد تأخرت على محاضرتي. وداعا." تكلمت وقد سارعت بالانسحاب من غرفة الطعام بالرغم من إستمرار ماما بمنداتي.
"لنسرع براد." أمرته ما أن عبرت أمامه. كان واقفا مع بقية مرافقي أشقائي. سيرجي، فيولا وليو.
"وداعا ميلانو." تحدثت فيولا بابتسامة واسعة والتي كانت مرافقة ميامي ونسخة شبيهة بها للحد الذي يظنونها في مدرسة شقيقتها. كانت ثرثارة، إجتماعية ومرحة مثلها. كما كانت وقحة أيضا.
"أين كنت البارحة؟" تساءل براد من خلفي ما أن تجاوزنا باب الخروج لأنظر له من خلف كتفي بدهشة.
"هل كنت تتنصت علينا؟"
"ليدي هي من أخبرتني." برر وهو يفتح لي باب السيارة.
"ما الخطب معها؟ هي على وشك نشر الأمر في صحف والمجالات كذلك أظنها قد أصيبت بالخرف وبدأت أصل المرأة الأرجنتينة التقاليدية النمامة بالسيطرة على شخصيتها." همست من أسفل أنفاسي بضيق بعد أن صعدت السيارة وصعد براد بعدي.
ظل ينظر لي الثاني بفضول مما جعلني أرمي له نظرة منزعجة.
"لا شأن لك. عليك أن تكون شاكرا أنني لم أفصلك من عملك بسبب نقلك لأخباري." قاطعته بحدة أخرسه ما أن هم بالحديث.
بالرغم من أنه أخبرني أنه لم يفعل ودافع عن نفسه. وبالرغم من أن ماما أيضا قد قالت إنه ليس هو من ينقل الأخبار لها. وعلى الرغم من أنني أصدقه إلا أنني أستخدمت ذلك الأمر كحجة لإسكاته.
نظرت إلى النافذة ما أن مررنا من جانب ذات
الزقاق.
شعرت بقلبي ينبض بعنف لذلك فتحت نافذة مباشرة حتى تصفعني الرياح لأتنفس بقوة أهدأ من روعي.
ظللت أنظر إلى الطريق بشرود أفكر في أركان إلى أن وصلنا إلى الجامعة.
.
.
.
"ميلانو." جذبني صوتا انوثي يناديني من الخلف.
كنت قد خرجت للتو من محاضرة العجوز الخرف وأنا لا أرغب بأي شجار أو أن يحطم أحدا الطلبة رأسي بثرثارته. أظنهم لم يتعملوا بعد. يجيب أن أهين أحدهم أو أتنمر عليه حتى لا يجرأ أي أحمق على تجاوز حدوده معي.
لكني تسمرت في مكاني بجمود فور أن لمحت هيئة آيلينا وهي تلوح لي من بعيد بابتسامة بينما الفتاة التي كانت بجانبها قد أصفر وجهها بخوف تهز رأسها بنفي علامة على رفضها لمحادثتي.
بجدية ما خطب آيلينا هذه؟
أعلم أنك ابنة شقيقة جان تيتش لكن ذلك لا يعطيكِ الحق بالالتصاق بي ودعوتي بصديقتكِ.
استدرت لها أراقبها وهي تمشي بهرولة تجاهي.
ازدادت ابتسامتها اتساعا وسعادة ما أن توقفت أمامي.
لم أبدي ردة فعل وظللت أحملق بها منتظرة منها التكلم. لأني كنت أعلم جيداً هذه الحركات. هي تتقرب مني من أجل سلطة والدي لا غير. مثلها مثل بقية الفتيات اللواتي كنا يلاحقنني في ثانوية، مثل تلك الفاسقة.
شددت على قبضتي بقوة ما أن تذكرتها.
بئس لها ولأمثالها.
رمشت آيلينا عديد المرات بتوتر وقد جاهدت لجعل ابتسامتها ودودة على الرغم من ارتباكها.
"كيف حالك؟" سألتني بود.
"بخير."
اكتفيت بإجابة بسيطة حتى لا تعتقد أن علاقتنا بتلك القرابة. أنا لا أريد أي أصدقاء ولا أريد أي زملاء. كل ما أريده أن أظل وحيدة دون الاقتراب من أي أنسان.وكأنني لوحة محظور لمسها على الكل مثل لوحات ماما.
أنا لا أحتمال سخافات ماما ولا مضايقات فرانسيس ولا إزعاجات أخوي الصغيرين. فكيف لي أن أدخل متطفل أخر على حياتي؟
كل ما أريده في هذه الحياة أن استمع إلى موسيقى الروك وأنا مستلقية بجانب باغيير النائمة بسلام. أقوم بتحنيط الحيوانات وقراءة كتب الكيمياء والأحياء.
أنا للأن لم أتعاف مما حدث بالسابق. لم أستطع أن أمضي قدما. بل ظللت محبوسة داخل الجزيرة التي أبحرت لها وحيدة دون شريك. تلك الجزيرة التي لا تتضمن أي بشري سواي.
عالمهم هذا ليس عالمي، وحياتهم هذه ليست حياتي. أنها مزيفة. مملوءة بالنفاق والأكاذيب حتى أنهم جعلوني مثلهم. تربية ماما سليمة والتي كما قالت ميامي صباح تتضمن عدم الكذب والنفاق لم تكن تناسب هذا الكوكب الوهم. لهذا كنا دوما نقع في مشاكل كوننا مختلفين عن الواقع.
لذلك صنعت جزيرة لي في خيالي قد كانت عالمي الخاص.
رفيقتها كانت ترمقني بازدراء على الرغم من أنها ارتجفت حينما ألقيت عليها نظرة قاتلة. سخيفة.
"جيد. لكن يبدو وجهك متعبا بعض الشيء. هل كل شيء على ما يرام؟" تساءلت تحاول فتح موضوع معي.
متى سأتخلص منه؟
"دوما ما يبدو وجهي متعب. أصفر اللون وفيه هالات داكنة. حتى أن شقيقي الأصغر يناديني بالجثة."
لم أمنع نبرتي من أن تحتد حينما تذكرت تعليقات ساكا السخيفة حيالي صباحا وتشبيهات ميامي الساحرة.
"كلا. بل تبدين جميلة جدا." قالت وهي تضع يديها على شفتيها تحارب حتى لا تخرج قهقهاتها.
"تمتلكين أخ؟ هذا جميل. انا لم أملك أي اشقاء لذلك احسدك."
"بل أنتِ المحفوظة هنا. أحسدك. أنا أملك ثلاثة اشقاء مستفزين. شقيق أكبر سن مني متخلف. وشقيقان أصغر سن مني احمقان. أنتِ في نعمة."
كنت بحاجة شديدة إلى الشكوى لأحدهم عن تصرفات أخواتي والتعبير عن مدى انزعاجي منهم. خاصة من فرانسيس الذي يراه الكل مثالي ولا يعملون حقيقية الشيطان المتخفي خلف قناع الكمال ذاك.
"أن كان أحدهم أكبر سن مني فلا أريده."
كانت تشبهني، تكره من يمتلك سلطة عليها.
"هو ليس أكبر سن مني. توأم يكبرني ببضع دقائق لا غير." تمتمت وأنا أقلب عيناي بضجر على ذكره.
قهقهت بخفة تضع يدها على فمها.
"يبدو أن يومك مملوء بالأحداث والمغامرات. وخاصة الإزعاج."
كانت هذه الفتاة تنجح في تبادل أطراف الحديث معي وهذا كان يزعجني.
ألتزمت الصمت ولم أرد عليها.
ابتسمت ثم سحبت حقيبتها من على ظهرها.
"لقد ناديتكِ من أجل أن منحك دعوة خاصة. تفضلي." قالت وهي تخرج لي بطاقة أستدعاء سوداء من حقيبتها.
" دعوة؟ لي؟ لماذا؟" تساءلت اعقد حواجبي بحيرة.
لم تدعوني؟
"لدي حفلة غنائية نهاية هذا الأسبوع في حانة جديدة. لذلك أردت دعوتكِ لحضورها. أجوائها تشبه أجواء سلسلة أفلام عائلة أدامز ومسلسلات مذكرات مصاصي دماء لذلك ظننت أنها قد تعجبك."
هذه الفتاة كانت تعرف جيدا كيف تغريني.
قضمت شفتي السفلى في تفكير.
هل أخذها منها؟
مستحيل!
ألتزمت الصمت ولم أخذ البطاقة منها علامة على رفضي لدعوتها.
"يبدو أنكِ لا تحبين الأماكن المزدحمة. فهمت." تمتمت بخيبة وهي تجبر نفسها على الابتسام.
هي لن تثير شفقتي أبدا.
"لكن خذيها. ربما تغيرين رأيك. العنوان موجود عليها ولا تستطيعين الدخول إلا بها لا ترميها." أضافت وقد عادت للابتسام ثم كانت تمسك يدي وتسحبها لتضع الدعوة فيها.
"هاي أنتِ…"
"فكري بالأمر جيدا ميلانو. أتمنى بصدق أن تقبلي دعوتي وتحضري حفلتي. وداعا." قاطعتني تتحدث وهي تبتسم بشقاوة ثم بدأت بالركض بعيدا عني تودعني بينما تلوح لي من خلف ظهرها.
"فتاة مجنونة." همست وأنا أقلب الدعوة بين يداي.
"دعوة خاصة لحفلة غنائية بحضور المغنية آيلينا على ساعة حادية عشر مساء في بار السيد ميكي." قرأت ما كان مكتوب على دعوة وأنا أتوجه ناحية سلة قمامة قصد رميها.
لكن توقفت في آخر لحظة حينما لمحت توقيع وجملة صغيرة أسفل البطاقة.
"ميلانو والكر؟" قرأت اسمي الذي كان مطبوع بالأسفل بحواجب معقودة بحيرة.
تنهدت وأنا أقلب عيناي في فضاء بتفكير.
إذا الدعوة مطبوعة خصيصا لي كما قالت.
هي تجعلني مميزة وأنا أحب ذلك.
هل أقبلها؟
لن أخسر أي شيء على كل حال أن فكرت في الموضوع. ربما استغل الأمر للخروج من المنزل في حالة وجود فرانسيس فيه. وربما لا أذهب وأخذها كحجة لملاحقة أركان مرة أخرى. هي تتيح لي خيرات كثيرة.
حشرتها داخل حقيبتي ثم سرت متوجهة ناحية المحاضرة التالية.