1
كان ذلك الفتى يجلس خلف الصناديق الخشبية؛ مختبئاً بجسمه النحيل وهو يراقب في ذهول كل أولئك الغريبين عنه تماماً، بأزيائهم الغريبة كأنهم قد اتو من عصر قديم جداً، لتمر بعدها تلك القافلة الضخمة وهي تسير بين جموع الناس.
مؤلفة من عربات كثيرة تجرها الخيول، مع بعض النوق التي كانت تحمل على ظهرها التجار والبضائع.
وكان هناك جموع غفيرة من البشر ينظرون إلى القافلة و إلى ما كانت تحويه من شتى أنواع البضائع والمقتنيات، تلك القافلة التي تحمل في إحدى عرباتها "أخته" وتمضي لتسير بها مبتعدة عن المكان، متجهةً إلى المجهول.
لم يستطع بطلنا الصغير أن يقف مكتوف اليدين ويبقى متفرجا حاله كحال باقي الناس بل قرر أن يفعل أي شيء من شأنه انقاذ اخته، قبل فوات الأوان.
نهض من مكانه بعد أن استجمع قوته متشجعاً وأراد أن يركض نحو العربة التي تحوي بداخلها أخته ليحررها، لكن يداً ما من الخلف أمسكته من كتفه وقامت بسحبه نحو الوراء.
مبتعدة به من بين كل تلك الجموع الغفيرة، لتبتعد القافلة وتغيب اخته عن الأنظار مقيدة بالحبال محجوزة في قفصها ذاك وهي تبكي وتصرخ مستنجدة بأي أحد من شأنه أن يخلصها من ذلك العذاب.
قبل عدة أيام فقط كان عمر في مكان أخر يختلف تماما عن هذا المكان، وبالعودة لما كان يدور بين جدران رأسه:
حيث كان الجد أبو نزار حول المائدة ليتناول الطعام برفقة عائلة ابنه نزار
كانت قد أعدت صباح زوجة ابنه طبقا شهيا من الدجاج والارز، وجهزت المائدة لتكون في انتظار عودة زوجها وعمها من صلاة الجمعة.
كان برفقة الرجلين الطفل عمر" ابن نزار والحفيد الأول في العائلة، رافق والده وجده في الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة ومن ثم عاد.
أما "ماريا" أخت عمر فقد اسرعت لتجلس في حجر جدها، مكانها المفضل والمعتاد.
بينما صباح تحاول ان تأخذ ابنتها من حجر ابو نزار كي يرتاح في الجلوس والاكل، أشار ابو نزار لزوجة ابنه بيده كي تترك ماريا في حجره فهو مولع بأحفاده ويحبهم حبا جما.
أما نزار فقد انشغل في سكب الأرز واللحم وتوزيعه على الحضور، وهو يحدث والده عن براعة الخطيب واتقانه للخطابة والالقاء.
قال الجد مبدي إعجابه: لقد أعجبني هذا الشاب، لقد كان يلقي الخطبة من ذهنه كأنه قد طبعها في عقله ومن دون ان يخطئ في كلمة واحدة.
نزار موافقاً: أجل، ما شاء الله، يحفظ كل التواريخ والأزمنة وأسماء كبار القادة.
رفع ابو نزار الملعقة إلى فمه كي يرتشف الحساء، لكنه تمهل قليلا وشرد بذهنه لبضعة ثوانٍ.
التفتت صباح إلى عمها وتعجبت فقالت: خيراً يا عم هل هناك خطب ما في الطعام؟!
أبو نزار: لا يا ابنتي، بارك الله بك طعام شهي ولطالما أعجبت بطهيك وطريقة إعدادك للطعام.
صباح: شكرا يا عم جزاك الله خيراً، انما تعلمت من عمتي "أم نزار" رحمها الله.
ردد الجميع قائلين بصوت منيب "رحمها الله"
نزار: إذاً ما بالك شارد الذهن اليوم يا أبي!؟
ابو نزار: لا شيء، لكنني تمنيت لو أننا كنا مجتمعين الأن لا يفرقنا خصام ولا نزاع_
أطرق الجميع رؤوسهم وحل صمت قصير في المكان،
قاطع ذلك الصمت عمر وهو يمد يده بجوار جده ليأخذ ملعقة من الأرز.
التفتت إليه أمه ترمقه في نظراتها وتضيق أجفانها كأنها تتوعده، فترك الملعقة وعاد إلى الخلف متأدباً.
ابو نزار: دعونا نأكل الان، يكفينا ما مضى من المشاكل
نزار: مد يدك يا ابي؛ بسم الله.
بدأ الجميع في تناول الطعام والاحاديث تدور من هنا وهناك يتجاذبها الجميع.
وبين مديح ابو نزار واستدراكات نزار لبعض أخطاء خطيب الجمعة حول خطبته ظهر صوت من الخلف.
التفت الجميع إلى مصدر الصوت ليكون هو عمر قائلا: وما هي غرناطة يا جدي؟
تبسم ابو نزار وقال: "غرناطة" يا ولدي بلد جميل من بلادنا.
عمر:كنت قد سمعت هذا الاسم في درس التاريخ لكنني لم افهم ماذا يعني، لم يتعمق الأستاذ في شرح الفصل جيدا.
أكمل الجد كلامه وقال: "غرناطة" التي تحدث عنها خطيب الجمعة هي اسم مملكة كانت قبل بضع القرون، بلداً مثل بلادنا نحن مثل "مصر"
قال عمر: يبدو اسما غريبا لدولة في هذا الزمان أليس كذلك!
أبو نزار: اجل هو كذلك وقد تبدل الأسم مع مرور الوقت إنها الأن تدعى بإسبانيا.
نزار: دع جدك يأكل يا عمر وكف عن فضولك.
أبو نزار: لا يا بني، دعه يتعلم ويسأل، فما أشد حاجتنا إلى العلم.
عمر بنبرة فيها حماس: إذا ستحكي لي قصة هذه "الغرناطة" بعد الانتهاء من الطعام أليس كذلك يا جدي؟
أجاب أبو نزار وهو يمرر يده على شعر حفيده متبسماً: أجل ولم لا يا عمر
انتهى الجميع من تناول الطعام ونهضوا من على المائدة، توجه ابو نزار وابنه وحفيده إلى غرفة المعيشة.
بينما ذهبت صباح وابنتها ماريا إلى المطبخ كي تقوما بتنظيف الاطباق وإعداد بعض الضيافة الخفيفة ما بعد الطعام.
أما عمر ذو السبعة عشر عاماً فقد كان متحمسا ليستمع إلى حكاية جده عن تلك البلاد الغريبة.
التف الحفيدين حول جدهما منصتين، حيث اخرج ابو نزار نظارته، نفخ على بلوراتها ولمعها قليلاً ثم أخرج قطعة نقدية من جيبه ورفعها نحو الأعلى.
أبو نزار: هذه يا أولادي نقود من فئة المئة دينار، وهي عملة قديمة كانت تطبع في بلادنا قبل زمن وهذا الذي عليها هو تمثال "لأبي عبد الله الصغير"
وأما هذه الصورة فهي من مخطوطات بلاد الأندلس القيمة، وهذه بعض ابيات الشعر التي كانت تشتهر بها تلك البلاد ونسميها نحن الموشحات.
عمر: ولكن يا جدي ما قصة تلك البلاد؟ لقد أخبرنا المدرس أنها كانت بلاد جميلة جدا ومزدهرة كذلك!
أبو نزار: إنها يا ولدي بلاد رائعة ولكن لكل شيء ميعاد وقدر أليس كذلك!؟
قال عمر: أجل، ولكن_
أبو نزار: سأحكي لك لمحة عنها ولكن سيكون لديك واجب للغد مارأيك يا عمر؟
عمر: وما هو هذا الواجب يا جدي؟
أبو نزار: ستحكي انت لنا بقية القصة ما رأيك؟
عمر: انا موافق هيا ابدأ من فضلك.
أبو نزار: كما تريد، ولكن لم نسمع رأي حفيدتي ماريا
رفعت ماريا رأسها إلى الاعلى تنظر لجدها وقالت محمرة الوجنتين: أنا مع عمر أحب أن أسمع منك تلك القصة يا جدي.
حضرت صباح وبيدها أطباق الفواكه المتنوعة مقاطعة ذلك الحوار وقالت: هيا يا أولاد اتركوا جدكم يرتاح قليلا وإلا فلن يزورنا مجددا، أليس كذلك يا عمي؟
أبو نزار: كنت احكي للأطفال عن الأندلس وتاريخها.
نال الأمر إعجابها وقالت صباح: أاه هكذا إذاً؛ يبدو انني وصلت في الوقت المناسب.
ضحك أبو نزار وقال: سبحان من زرع محبة تلك البلاد في قلوب المؤمنين.
حدق نزار في زوجته التي جلست على الاريكة ممسكة بحبات البرتقال تقشرها وهي تنظر لعمها بشغف، وقال: أما جئتي تكفكفين أولادك عن جدهم يا صباح؟!
ضحكت صباح وقالت: لا لوم عليهم يا نزار؛ حكايات عمي لا يمكن تفويتها فكيف إن كانت عن بلاد الأدب والرقي والحضارة.
نزار: وهل مازلت طفلة تحتاجين تحتاجين لسماع القصص! أنت في الخامسة والعشرين من العمر يا صباح
تذمرت صباح قائلة: أيهٍ منك يا نذير دعني استمتع بحكايات عمي.
نزار: إنا لله وإنا إليه راجعون، على كل حال انا لدي لوحة لأكملها أما أنتم استمتعوا مع ابي.
أبو نزار: ألن تجلس مع عائلتك للإستماع؟
نزار: اعتذر يا ابي، فقلبي ارق من أن يستعيد تلك الذكريات الأليمة مع الأسف.
أبو نزارر: إذا استعن بالله يا بني.
خرج نزار من الغرفة وتوجه إلى مشغله الخاص حيث يمضي معظم أوقاته في المنزل.
أما أبو نزار فقد اعتدل في جلسته وفتح ذراعيه ليضم حفيديه تحت جناحيه وقال: الأندلس يا أولادي_
إنها بلاد كانت موجودة في عهد الدولة الأموية التي اخذتم دروسا عنها في مادة التاريخ.
وقد كان فتحها في العام الثالث والتسعون للهجرة في عهد الدولة الأموية.
عمر: اجل وكان الفاتح هو الشاب اليافع الهمام "طارق بن زياد"
أجاب أبو نزار ببعض التعجب مشجعاً: ممتاز يا عمر وفي عهد من؟ هل تعلم!
عمر مجيبا: أظن ان اسمه موسى أليس كذلك!؟
أكملت صباح عبارة ابنها: موسى بن نصير يا ولدي.
أبو نزار: اجل هو ذاك القائد المغوار موسى بن نصير.
ثم أضاف الجد أبو نزار: استمرت طيلة العهد الأموي إلى أن بدأ العهد العباسي، استطاع عبد الرحمن الافلات من العباسيين والهروب إلى أخواله وهو عبد الرحمن بن معاوية ولقبه الناس بالداخل.
وبعدها فكر في الابتعاد عن العباسيين وتوجه قاصدا الاندلس.
قاطعه عمر: وما هي غرناطة ومن هو أبو عبد الله!
ابو نزار: لا تكن متعجلاً يا عمر سأحكي لك كل شيء ولكن بالترتيب.
على كل حال غدا سأشتري لك كتاباً تقرأه وتتعلم كل شيء عن تلك البلاد لا تقلق.
صباح: اتذكر بعض ابيات الشعر من تراث تلك البلاد يا عمي.
أبو نزار: هات اسمعينا يا ابنتي.
صباح: على العين والرأس يا عمي
أنشأت صباح تقول:
قف بنا يا صاحي وابكي المدنَ
بعد من قد كان فيها سكنَ
وأكملت صباح القصيدة إلى نهايتها والجد يستمع ومعه أحفاده لصوت صباح العذب، وأبو عمر زوجها يسترق السمع لها من ورشته دون أن ينتبه له احد.
أكملت صباح الغناء والجميع منصتون لها وعندما انتهت عاد الجد ليسرد ما تبقى من حكايته العجيبة تلك.
كان الجميع منسجما مع ما يُقص عليهم وكأنهم قد انتقلوا إلى تلك البلاد وإلى ذلك الزمان بأرواحهم.
وبعد نصف ساعة من الحديث كان أذان العصر قد اقترب فتوقف الجد عن رواية القصة ليستعد للذهاب إلى المسجد كعادته.
ابدى الفتى عمر امتعاضه من توقف جده عن الكلام بينما أظهرت ماريا تقبلاً لأمر جدها واقتربت كي تقبل يده مودعةً إياه.
أما عمر فقد كان يحاول إقناع جده بأن يعود من المسجد ليكمل باقي الحكاية، أجاب الجد معتذراً بأنه سوف يأجل سرد البقية حتى يوم الغد ومن ثم نهض متجهاً نحو الباب ليخرج إلى وجهته.
أما عمر فلم يستطع أن ينتظر حتى الغد وقد كان الفضول يأزه على التصرف بأي شكل ليعرف باقي القصة.
تلفت يمنة ويسرة ولم يجد أفضل من مشغل والده الذي يعمل خطاطاً وكان قد امتلئ مشغله بشتى أنواع الكتب والمخطوطات القديمة والتحف الأثرية.
انتظر عمر خروج والده هو أيضاً إلى المسجد ثم انتهز الفرصة متسللاً إلى مشغل والده علّه يجد ما يرنو إليه.
قاده الفضول نحو أحد الرفوف المليئ بالكتب القديمة والتاريخية، بحث وفتش جاهداً لكنه لم يجد ما يفيده.
تنهد وشعر ببعض الفتور بعد أن بأت خطته بالفشل، فجأة وبدون سابق إنذار سمع صوت محرك سيارته وقد توقفت أمام المنزل، شعر على الفور بمغبة فعلته وعاقبتها.
كان من المحرمات عليه وعلى ماريا الدخول لوحدهم إلى المشغل وبدون إذن ولكنه فعل المحظور، وكلمح البصر قفز من مكانه متجهاً نحو باب المشغل وقبل أن يضع يده على المقبض لفت نظره صندوق خشبي صغير غريب الشكل.
فاحتمله وأخفاه تحت سترته ظناً منه أنه لعبة ما وفر هارباً من المشغل قبل وصول والده.
ركض مسرعاً نحو غرفته الخاصة وقد وجد ماريا تجلس امام شاشة التلفاز تتابع أحد المسلسلات كعادتها.
اغلق الباب واستند بظهره عليه وتنفس الصعداء حاول أن يتوجه نحو سريره مخفياً ما كان يحمل معه لكن ماريا لاحظت عليه أثار الإرتباك فشكت في أمره.
اقتربت منه مضيقة أجفانها وهي تحاول كشف ما يخفيه وبعد جدال طويل وأخذ ورد بين الأخوين قررت ماريا المناداة على والدتها، لكن عمر خشي من افتضاح أمره.
فرضخ لأمرها وأخرج ذلك الصندوق الذي كان يخفيه، بمجرد أن رأت ماريا الصندوق شهقت، فأسرع عمر واضعا كفه على فمها محاولا إسكاتها قبل أن تشي به كعادتها.
يتبع.
مؤلفة من عربات كثيرة تجرها الخيول، مع بعض النوق التي كانت تحمل على ظهرها التجار والبضائع.
وكان هناك جموع غفيرة من البشر ينظرون إلى القافلة و إلى ما كانت تحويه من شتى أنواع البضائع والمقتنيات، تلك القافلة التي تحمل في إحدى عرباتها "أخته" وتمضي لتسير بها مبتعدة عن المكان، متجهةً إلى المجهول.
لم يستطع بطلنا الصغير أن يقف مكتوف اليدين ويبقى متفرجا حاله كحال باقي الناس بل قرر أن يفعل أي شيء من شأنه انقاذ اخته، قبل فوات الأوان.
نهض من مكانه بعد أن استجمع قوته متشجعاً وأراد أن يركض نحو العربة التي تحوي بداخلها أخته ليحررها، لكن يداً ما من الخلف أمسكته من كتفه وقامت بسحبه نحو الوراء.
مبتعدة به من بين كل تلك الجموع الغفيرة، لتبتعد القافلة وتغيب اخته عن الأنظار مقيدة بالحبال محجوزة في قفصها ذاك وهي تبكي وتصرخ مستنجدة بأي أحد من شأنه أن يخلصها من ذلك العذاب.
قبل عدة أيام فقط كان عمر في مكان أخر يختلف تماما عن هذا المكان، وبالعودة لما كان يدور بين جدران رأسه:
حيث كان الجد أبو نزار حول المائدة ليتناول الطعام برفقة عائلة ابنه نزار
كانت قد أعدت صباح زوجة ابنه طبقا شهيا من الدجاج والارز، وجهزت المائدة لتكون في انتظار عودة زوجها وعمها من صلاة الجمعة.
كان برفقة الرجلين الطفل عمر" ابن نزار والحفيد الأول في العائلة، رافق والده وجده في الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة ومن ثم عاد.
أما "ماريا" أخت عمر فقد اسرعت لتجلس في حجر جدها، مكانها المفضل والمعتاد.
بينما صباح تحاول ان تأخذ ابنتها من حجر ابو نزار كي يرتاح في الجلوس والاكل، أشار ابو نزار لزوجة ابنه بيده كي تترك ماريا في حجره فهو مولع بأحفاده ويحبهم حبا جما.
أما نزار فقد انشغل في سكب الأرز واللحم وتوزيعه على الحضور، وهو يحدث والده عن براعة الخطيب واتقانه للخطابة والالقاء.
قال الجد مبدي إعجابه: لقد أعجبني هذا الشاب، لقد كان يلقي الخطبة من ذهنه كأنه قد طبعها في عقله ومن دون ان يخطئ في كلمة واحدة.
نزار موافقاً: أجل، ما شاء الله، يحفظ كل التواريخ والأزمنة وأسماء كبار القادة.
رفع ابو نزار الملعقة إلى فمه كي يرتشف الحساء، لكنه تمهل قليلا وشرد بذهنه لبضعة ثوانٍ.
التفتت صباح إلى عمها وتعجبت فقالت: خيراً يا عم هل هناك خطب ما في الطعام؟!
أبو نزار: لا يا ابنتي، بارك الله بك طعام شهي ولطالما أعجبت بطهيك وطريقة إعدادك للطعام.
صباح: شكرا يا عم جزاك الله خيراً، انما تعلمت من عمتي "أم نزار" رحمها الله.
ردد الجميع قائلين بصوت منيب "رحمها الله"
نزار: إذاً ما بالك شارد الذهن اليوم يا أبي!؟
ابو نزار: لا شيء، لكنني تمنيت لو أننا كنا مجتمعين الأن لا يفرقنا خصام ولا نزاع_
أطرق الجميع رؤوسهم وحل صمت قصير في المكان،
قاطع ذلك الصمت عمر وهو يمد يده بجوار جده ليأخذ ملعقة من الأرز.
التفتت إليه أمه ترمقه في نظراتها وتضيق أجفانها كأنها تتوعده، فترك الملعقة وعاد إلى الخلف متأدباً.
ابو نزار: دعونا نأكل الان، يكفينا ما مضى من المشاكل
نزار: مد يدك يا ابي؛ بسم الله.
بدأ الجميع في تناول الطعام والاحاديث تدور من هنا وهناك يتجاذبها الجميع.
وبين مديح ابو نزار واستدراكات نزار لبعض أخطاء خطيب الجمعة حول خطبته ظهر صوت من الخلف.
التفت الجميع إلى مصدر الصوت ليكون هو عمر قائلا: وما هي غرناطة يا جدي؟
تبسم ابو نزار وقال: "غرناطة" يا ولدي بلد جميل من بلادنا.
عمر:كنت قد سمعت هذا الاسم في درس التاريخ لكنني لم افهم ماذا يعني، لم يتعمق الأستاذ في شرح الفصل جيدا.
أكمل الجد كلامه وقال: "غرناطة" التي تحدث عنها خطيب الجمعة هي اسم مملكة كانت قبل بضع القرون، بلداً مثل بلادنا نحن مثل "مصر"
قال عمر: يبدو اسما غريبا لدولة في هذا الزمان أليس كذلك!
أبو نزار: اجل هو كذلك وقد تبدل الأسم مع مرور الوقت إنها الأن تدعى بإسبانيا.
نزار: دع جدك يأكل يا عمر وكف عن فضولك.
أبو نزار: لا يا بني، دعه يتعلم ويسأل، فما أشد حاجتنا إلى العلم.
عمر بنبرة فيها حماس: إذا ستحكي لي قصة هذه "الغرناطة" بعد الانتهاء من الطعام أليس كذلك يا جدي؟
أجاب أبو نزار وهو يمرر يده على شعر حفيده متبسماً: أجل ولم لا يا عمر
انتهى الجميع من تناول الطعام ونهضوا من على المائدة، توجه ابو نزار وابنه وحفيده إلى غرفة المعيشة.
بينما ذهبت صباح وابنتها ماريا إلى المطبخ كي تقوما بتنظيف الاطباق وإعداد بعض الضيافة الخفيفة ما بعد الطعام.
أما عمر ذو السبعة عشر عاماً فقد كان متحمسا ليستمع إلى حكاية جده عن تلك البلاد الغريبة.
التف الحفيدين حول جدهما منصتين، حيث اخرج ابو نزار نظارته، نفخ على بلوراتها ولمعها قليلاً ثم أخرج قطعة نقدية من جيبه ورفعها نحو الأعلى.
أبو نزار: هذه يا أولادي نقود من فئة المئة دينار، وهي عملة قديمة كانت تطبع في بلادنا قبل زمن وهذا الذي عليها هو تمثال "لأبي عبد الله الصغير"
وأما هذه الصورة فهي من مخطوطات بلاد الأندلس القيمة، وهذه بعض ابيات الشعر التي كانت تشتهر بها تلك البلاد ونسميها نحن الموشحات.
عمر: ولكن يا جدي ما قصة تلك البلاد؟ لقد أخبرنا المدرس أنها كانت بلاد جميلة جدا ومزدهرة كذلك!
أبو نزار: إنها يا ولدي بلاد رائعة ولكن لكل شيء ميعاد وقدر أليس كذلك!؟
قال عمر: أجل، ولكن_
أبو نزار: سأحكي لك لمحة عنها ولكن سيكون لديك واجب للغد مارأيك يا عمر؟
عمر: وما هو هذا الواجب يا جدي؟
أبو نزار: ستحكي انت لنا بقية القصة ما رأيك؟
عمر: انا موافق هيا ابدأ من فضلك.
أبو نزار: كما تريد، ولكن لم نسمع رأي حفيدتي ماريا
رفعت ماريا رأسها إلى الاعلى تنظر لجدها وقالت محمرة الوجنتين: أنا مع عمر أحب أن أسمع منك تلك القصة يا جدي.
حضرت صباح وبيدها أطباق الفواكه المتنوعة مقاطعة ذلك الحوار وقالت: هيا يا أولاد اتركوا جدكم يرتاح قليلا وإلا فلن يزورنا مجددا، أليس كذلك يا عمي؟
أبو نزار: كنت احكي للأطفال عن الأندلس وتاريخها.
نال الأمر إعجابها وقالت صباح: أاه هكذا إذاً؛ يبدو انني وصلت في الوقت المناسب.
ضحك أبو نزار وقال: سبحان من زرع محبة تلك البلاد في قلوب المؤمنين.
حدق نزار في زوجته التي جلست على الاريكة ممسكة بحبات البرتقال تقشرها وهي تنظر لعمها بشغف، وقال: أما جئتي تكفكفين أولادك عن جدهم يا صباح؟!
ضحكت صباح وقالت: لا لوم عليهم يا نزار؛ حكايات عمي لا يمكن تفويتها فكيف إن كانت عن بلاد الأدب والرقي والحضارة.
نزار: وهل مازلت طفلة تحتاجين تحتاجين لسماع القصص! أنت في الخامسة والعشرين من العمر يا صباح
تذمرت صباح قائلة: أيهٍ منك يا نذير دعني استمتع بحكايات عمي.
نزار: إنا لله وإنا إليه راجعون، على كل حال انا لدي لوحة لأكملها أما أنتم استمتعوا مع ابي.
أبو نزار: ألن تجلس مع عائلتك للإستماع؟
نزار: اعتذر يا ابي، فقلبي ارق من أن يستعيد تلك الذكريات الأليمة مع الأسف.
أبو نزارر: إذا استعن بالله يا بني.
خرج نزار من الغرفة وتوجه إلى مشغله الخاص حيث يمضي معظم أوقاته في المنزل.
أما أبو نزار فقد اعتدل في جلسته وفتح ذراعيه ليضم حفيديه تحت جناحيه وقال: الأندلس يا أولادي_
إنها بلاد كانت موجودة في عهد الدولة الأموية التي اخذتم دروسا عنها في مادة التاريخ.
وقد كان فتحها في العام الثالث والتسعون للهجرة في عهد الدولة الأموية.
عمر: اجل وكان الفاتح هو الشاب اليافع الهمام "طارق بن زياد"
أجاب أبو نزار ببعض التعجب مشجعاً: ممتاز يا عمر وفي عهد من؟ هل تعلم!
عمر مجيبا: أظن ان اسمه موسى أليس كذلك!؟
أكملت صباح عبارة ابنها: موسى بن نصير يا ولدي.
أبو نزار: اجل هو ذاك القائد المغوار موسى بن نصير.
ثم أضاف الجد أبو نزار: استمرت طيلة العهد الأموي إلى أن بدأ العهد العباسي، استطاع عبد الرحمن الافلات من العباسيين والهروب إلى أخواله وهو عبد الرحمن بن معاوية ولقبه الناس بالداخل.
وبعدها فكر في الابتعاد عن العباسيين وتوجه قاصدا الاندلس.
قاطعه عمر: وما هي غرناطة ومن هو أبو عبد الله!
ابو نزار: لا تكن متعجلاً يا عمر سأحكي لك كل شيء ولكن بالترتيب.
على كل حال غدا سأشتري لك كتاباً تقرأه وتتعلم كل شيء عن تلك البلاد لا تقلق.
صباح: اتذكر بعض ابيات الشعر من تراث تلك البلاد يا عمي.
أبو نزار: هات اسمعينا يا ابنتي.
صباح: على العين والرأس يا عمي
أنشأت صباح تقول:
قف بنا يا صاحي وابكي المدنَ
بعد من قد كان فيها سكنَ
وأكملت صباح القصيدة إلى نهايتها والجد يستمع ومعه أحفاده لصوت صباح العذب، وأبو عمر زوجها يسترق السمع لها من ورشته دون أن ينتبه له احد.
أكملت صباح الغناء والجميع منصتون لها وعندما انتهت عاد الجد ليسرد ما تبقى من حكايته العجيبة تلك.
كان الجميع منسجما مع ما يُقص عليهم وكأنهم قد انتقلوا إلى تلك البلاد وإلى ذلك الزمان بأرواحهم.
وبعد نصف ساعة من الحديث كان أذان العصر قد اقترب فتوقف الجد عن رواية القصة ليستعد للذهاب إلى المسجد كعادته.
ابدى الفتى عمر امتعاضه من توقف جده عن الكلام بينما أظهرت ماريا تقبلاً لأمر جدها واقتربت كي تقبل يده مودعةً إياه.
أما عمر فقد كان يحاول إقناع جده بأن يعود من المسجد ليكمل باقي الحكاية، أجاب الجد معتذراً بأنه سوف يأجل سرد البقية حتى يوم الغد ومن ثم نهض متجهاً نحو الباب ليخرج إلى وجهته.
أما عمر فلم يستطع أن ينتظر حتى الغد وقد كان الفضول يأزه على التصرف بأي شكل ليعرف باقي القصة.
تلفت يمنة ويسرة ولم يجد أفضل من مشغل والده الذي يعمل خطاطاً وكان قد امتلئ مشغله بشتى أنواع الكتب والمخطوطات القديمة والتحف الأثرية.
انتظر عمر خروج والده هو أيضاً إلى المسجد ثم انتهز الفرصة متسللاً إلى مشغل والده علّه يجد ما يرنو إليه.
قاده الفضول نحو أحد الرفوف المليئ بالكتب القديمة والتاريخية، بحث وفتش جاهداً لكنه لم يجد ما يفيده.
تنهد وشعر ببعض الفتور بعد أن بأت خطته بالفشل، فجأة وبدون سابق إنذار سمع صوت محرك سيارته وقد توقفت أمام المنزل، شعر على الفور بمغبة فعلته وعاقبتها.
كان من المحرمات عليه وعلى ماريا الدخول لوحدهم إلى المشغل وبدون إذن ولكنه فعل المحظور، وكلمح البصر قفز من مكانه متجهاً نحو باب المشغل وقبل أن يضع يده على المقبض لفت نظره صندوق خشبي صغير غريب الشكل.
فاحتمله وأخفاه تحت سترته ظناً منه أنه لعبة ما وفر هارباً من المشغل قبل وصول والده.
ركض مسرعاً نحو غرفته الخاصة وقد وجد ماريا تجلس امام شاشة التلفاز تتابع أحد المسلسلات كعادتها.
اغلق الباب واستند بظهره عليه وتنفس الصعداء حاول أن يتوجه نحو سريره مخفياً ما كان يحمل معه لكن ماريا لاحظت عليه أثار الإرتباك فشكت في أمره.
اقتربت منه مضيقة أجفانها وهي تحاول كشف ما يخفيه وبعد جدال طويل وأخذ ورد بين الأخوين قررت ماريا المناداة على والدتها، لكن عمر خشي من افتضاح أمره.
فرضخ لأمرها وأخرج ذلك الصندوق الذي كان يخفيه، بمجرد أن رأت ماريا الصندوق شهقت، فأسرع عمر واضعا كفه على فمها محاولا إسكاتها قبل أن تشي به كعادتها.
يتبع.