الفصل السادس دموع كاذبة

شعرت غرام بالكثير من الضيق، لطالما كان جلال مقنع في حديثه، تحدثت إليه والضيق يظهر جليًا على وجهها:

-سوف أغلق الآن يا جلال.

تحدث بسرعة قبل أن تغلق الخط وقد لاحظت أن الرجاء يسيطر على صوته:

-دعينا نلتقي يا غرام، أنتِ في ذات القرية معي، دعينا نلتقي يا حبيبتي، اصنعي الحجج لتخرجي من المنزل غدًا الساعة الخامسة سوف أنتظركي قبل البوابة.

تاففت غرام وهي تعلم أنه لا يمل أبدًا، كلما حاولت دفعه بعيدًا عنها تعود ويحاول أن يسحبها إليه بشتى الطرق، أتاه الرد عكس توقعه:

-لن أقابلك يا جلال، أنا لا أعلم ما الذي ترغب في سماعه لتبتعد عني أنا لا أحبك ولن أحبك.

اغلقت من بعدها الخط وهو ألقى الهاتف على فراشه بانفعال واضح، لا يعلم ما الذي يجب عليه أن يفعله ليجذبها إليه، تحدث بهدوء حمل الكثير من التوعد:

-سوف نرى يا غرام، سوف تأتين لي سوف تنتهي من هذه المهمة ولن يكون مكان آخر لكِ سوى معي.

ابتسم برضا بينما الأخرى تفكر ما الذي يجب عليها ان تفعله، ربما عليها أن تفكر من الآن إلى أين سوف تذهب بعد أن تنتهي من مهمتها.

أتى عاصم إلى المنزل أخيرًا واستقبلته والدته وهي تضمه باشياق كأنه غاب عنها لسنوات طويلة:

-حمدًا لله أنك على مايرام يا حبيبي، لا أعلم ما الذي افعله يا عاصم أريد أن أخبأك داخل قلبي.

قام عاصم بتقبيل يدها تحت أنظار الجميع، يعلم أن والدته تشعر بالكثير من القلق بالأخص بعد كل شيء حدث، حرك رأسه نافيًا وهو يضغط على يدها ويحاول أن يجعلها تطمئن:

-لا يوجد داعي للقلق يا أمي، أنا على مايرام، سوف يكون كل شيء بخير.

كانت غرام تتابع ما يحدث وهي هادئة جدًا، من يراها يقسم أن هذه البريئة لا يمكنها ان تقتل نملة حتى! اقترب شهاب من عاصم ليقوم بضمه، ضمه عاصم بقوة وقد أغمض عينيه يحاول عدم التأثر.

هو يذكره بصديقه، بالفعل كان يشبه ماجد إلى حد كبير، شعر بغصة بحلقه، ابتعد عندما شعر أنه على وشك البكاء، مسح عينيه وهو يسأله:

-كيف حالك يا شهاب؟

اجابه شهاب بحزن شديد لم يستطيع السيطرة عليه:

-أنا على مايرام يا عاصم لا يوجد داعي للقلق بشأني، المهم أن تكونوا بخير.

نظر عاصم له وشعر ان شهاب يريد أن يقول شيء ما لكنه متردد، اقترب ليضع يده على كتفه قائلًا:

-دعنا نذهب إلى غرفتي يا شهاب ونجلس معًا قليلًا.

أومأ شهاب له وبالفعل سار معه وما إن وصل عاصم بجوار غرام حتى قام بمد الحقيبة لها، حملتها باستغراب ولم يتحدث هو بل تابع رحيله لغرفته، اقتربت عنبر بفضول:

-ما هذه الأشياء يا غرام؟ افتحيها دعينا نراها.

فتحت غرام الحقيبة وتفاجأت انه أتى لها بالملابس، لقد تذكرت حديثه ليلة أمس لكن ما جلبه كثير حقًا، تحدثت عنبر وهي تغمز لها:

-ليتني كنت مكانكِ، عاصم لا يأتي بشيء لأحد فهذه ميزة كبيرة يا فتاة.

ابتسمت لها غرام ومن ثم ذهبت إلى الغرفة المخصصة لها لتبدل ملابسها، مرت بغرفة عاصم لتستمع إلى صوت بكاء يصدر من الغرفة، توقفت في مكانها وهي تدرك أن هذا البكاء لا يصدر من شخص سوى عاصم، استمعت إلى صوت شهاب ويبدو أنه يحاول تهدأته:

-أرجوك يا عاصم توقف عن هذا، لا تبكي أرجوك وإلا لم أتوقف أنا أيضًا عن البكاء، كل شيء سوف يكون على مايرام صدقني يا حبيبي.

تحدث عاصم من بين بكاؤه وقد كان يشعر بصدره يضيق كثيرًا:

-اشتقت له كثيرًا هو لم يكن ابن خالي وحسب يا شهاب، هو ليس أخاك وحسب، هو أخي وصديقي، هو ليس مجرد قريب لي، هو ابني الصغير.

صمت لحظات ومن ثم تابع بألم شديد وهو يقبض على يد شهاب الذي تتساقط دموعه هو الآخر:

-لا أعلم من القاسي الذي تجرأ وفعلها، من الذي سوف يتسبب في موت شخص مثل ماجد ولماذا؟ اخبرني لماذا وهو الذي كان يأسر جميع القلوب بخفة دله وضحكاته، أشعر أن سعادتي انتهت عندما تلقيت خبر انتهائه من هذه الدنيل يا شهاب.

ربت شهاب على كتفه ولا يعلموا أن غرام خلف الباب تستمع لهم، والأدهى أنهم لا يعلموا أنها السبب في كل شيء حدث، تحدث شهاب بهدوء وهو يحاول أن يفكر ما الذي يمكنه ان يفعله:

-هناك شخص يرغب في القضاء علينا يا عاصم لا أجد تفسير آخر، لم يعد هذا الأمر شخصي بعد ما حدث مع منير، لم أكن أريد قول هذا لكن ربما يكون القادم أنا أو أنت، لا يمكنني أن أتجاهل هذا الشعور، ربما أردت تحذيرك لتنتبه على نفسك، لكنني لا أعلم كيف سيحدث هذا.

وقف عاصم وهو يمسح دموعه:

-سوف يتم كشف أمره، لن أتركه يا شهاب، لا يمكنني أن أموت قبل أن أقبض روحه في يدي صدقني.

وقف شهاب وهو يحاول أن يفكر، لكن من جديد يعجز عن ايجاد مجرد الأفكار:

-سوف أذهب الآن يا عاصم، لا تنسى أن تعتني بنفسك وأنا سوف أفكر ما الذي يمكننا أن نفعله.

ذهبت غرام إلى غرفتها على الفور، لا ترغب في أن يراها أحد، هي آخر شخص تريد أن ينتبه لها أحد، شعرت أن مهمتها في هذا المنزل لن تكون سهلة، بالفعل استطاعت أن تخمن هذا منذ المرة الأولى التي ابعدها به عاصم عنه.

فاقت من شرودها بعد فترة وقامت بتبديل ثيابها ومن ثم الجلوس، تعجبت وهي تستمع لطرقات على الباب ويظهر صوت عاصم:

-هل أنتِ بالداخل يا غرام؟

وقفت غرام وبسرعة قامت بفتح الباب، استطاعت أن ترى أثار بكاؤه، سألها كما لو لم يحدث شيء:

-هل تناسبكِ الثياب يا ترى؟

لاحظ أنها ترتديها وقد ناسبتها تمامًا، ابتسم بثقة وهو يومأ لها:

-من الجيد أن لدي نظرة رائعة في الاختيار.

ابتسمت غرام وهو تنظر إلى فستانها، هو بالفعل أتى بالمقاس المناسب لها، شكرته بامتنان مصطنع:

-شكرًا لك يا عاصم.

حرك عاصم رأسه بنفي وهو يجيبها برسمة:

-عفوًا لا يوجد داعي للشكر يا غرام، يمكنكي أن تهبطي لتتناولي العشاء معنا هيا.

حركت غرام رأسها بنفي وهي لا ترغب في الهبوط، قررت أن ترفض بأدب:

-لست جائعة، في الحقيقة لا أتناول وجبة العشاء، هذا أفضل.

أومأ عاصم لها ومن ثم هبط، كانت تتابعه حتى اختفى من أمامها، دلفت إلى غرفتها ومن ثم قامت باغلاق الباب، كانت تفكر في الأيام القادمة وكل ما يشغل عقلها كيف ستجعله يسقط في حبها في هذه الفترة؟

أتى اليوم التالي، اجتمعوا حول مائدة الطعام كالعادة في الساعة الثامنة صباحًا، كانت غرام لا تطيق خالة عاصم، ترمقها بنظرات متقززة كلما سمحت الفرصة لها، قد اجتمعت مع أمل وعلياء ابنتيها ولم ترتاح لهم غرام أبدًا، اقترب عاصم ليتحدث والده بطريق:

-مازال الوقت مبكر يا عاصم، اخبرني لماذا تأخرت في الاستيقاظ الآن؟!

ابتسم عاصم وهو ينظر إلى والده:

-تحدثت معي شمس وقالت أنها سوف تأتي إلى هنا لتبقى معنا بعض الأيام.

عقدت خالته حاجبيها بتعجب وقد انفعلت وهي تتحدث إليه:

-وما فائدة وجود تلك الفتاة يا عاصم؟ نحن الآن في فترة صعبة وهي لا تترك الفرصة لتتقرب منك.

نظر عاصم لها ولا يعجبه طريقتها معه، كلما تذكر حديث عنبر عن منير وما كان يفعله يشعر بالكثير من الاشمأزاز والغضب، كانت نظراته قادرة على خلق جو من التوتر الهائل، اجابها والده بدلًا عن عاصم:

-نحن لم نقل شيء، هي ابنة عمته وحتى إن كانت تحبه فليست هذه مشكلة أبدًا.

نظرت خالة عاصم إلى أمل ابنتها وفهمت غرام أن هناك شيء خاص بينهم، ربما تكون أمل تحبه! لا يمكنها أن تستبعد أي شيء، فكرت في هذا اليوم الذي يأتي بعد ان تنتهي من مهمتها ويتم طرد هذه العائلة بأكملها خارج القرية كما فعلوا مع عائلتها وتسببوا في موتهم.

استفاقت غرام على صوت عنبر الذي يحثها كالعادة على تناول طعامها:

-لا تأكلين بشكل جيد، قال عاصم ليلة أمس أنكِ لا تتناولين العشاء ولذلك عليكِ أن تأكلي جيدّا.

تحدثت علياء بابتسامة ساخرة، كان يظهر على وجهها الإرهاق، لقد كان يرهقهم البكاء على فقيدهم ولا تعلم غرام كيف استطاعت أن تتحدث بتلك الطريقة:

-أراكم جميعًا تهتمون لأمر هذه الفتاة الغريبة، ألا تشعرون أن الأمر زائد عن الحد وعليكم التعقل؟

نظر عاصم إليها ومن ثم نظر إلى غرام، فهمت غرام أن وجودها بالنسبة لهم ليس محبب أبدًا، لكنها لم تكن تعطي إهتمام لهذا، لاحظت نظرات عاصم لها، قررت أن تتحدث وهي تكمل في لعبتها:

-لقد مررت بظروف صعبة وأستاذ عاصم هو لم يكن لديه مانع ليساعدني.

نظرت أمل تجاه عاصم وحاولت أن تخفي غيظها الشديد مما يحدث:

-ما الأمر يا عاصم؟ كيف تدخل أي فتاة إلى هنا، حتى إن احببت مساعدتها كان عليك أن تأخذ لها مكان بعيد عن هنا.

حاولت غرام ان تسيطر على أعصابها وهي تريد أن تسحب هذه الخبيثة من شعرها لتنهرها عن التدخل، فكرت كيف يمكنها أن تكون أكثر براءة بالنسبة إلى عاصم، وقفت على الفور وقد ظهر الضيق على وجهها، تحدثت بحزن مصطنع:

-أنا أسفة لكم، لم أتعمد أن أزعج أي فرد منكم، أنا حقًا لم يكن لدي مكان جيد أذهب إليه.

همت بالصعود ليتحدث والد عاصم بعدم رضا وضيق شديد:

-توقفي يا غرام، اجلسِ واكملِ تناول طعامكِ في الحال.

حاولت غرام أن تكمل ما بدأته للنهاية:

-لقد شبعت يا عمي شكرًا لك، أنتم حقًا أشخاص رائعون.

صعدت على الفور على غرفتها، أتت عنبر لتقف وتتبعها لكن عاصم أشار لها لتجلس في مكانها ومن ثم نظر تجاه أمل وعلياء وهو يحرك رأسه مستنكرًا:

-أنا أتفهم الحالة التي نمر بها جميعًا، أتفهم أنكم تتألمون أيضًا، لكنني لن أتقبل أن يتحدث أحد بتلك الطريقة مع شخص أنا اعطيته الأذن والأمان، لا أريد لشيء كهذا أن يتكرر وإلا سوف يحزنكم رد فعلي.

حاولت خالته التحدث وهي تشعر بالضيق الشديد لمدافعة عاصم عن هذه الفتاة، لطالما كانت ترغب أن تزوجه إحدى بناتها وهو يعرف هذا جيدًا، لم يسمح عاصم لها بالتحدث ومن ثم صعد خلف غرام، وصل أمام غرفتها وقام بطرق الباب.

كانت تعلم غرام أنه هو، كان لديها شعور قوي أن عاصم هو من يطرق الباب لكنها تحدثت بهدوء:

-تفضلي يا عنبر.

فتح عاصم الباب وهو يحرك رأسه بنفي:

-لست عنبر أنا عاصم.

اسرعت غرام تأخذ غطاء رأسها الموجود في آخر السرير وهي تمثل التفاجئ:

-لقد ظننت أنك عنبر.

احكمت الغطاء على رأسها وهو كان يلاحظ تعابير وجهها، أما هي قد قامت برسم الحزن بمهارة شديدة ليعلوا ملامحها، اكملت ما بدأته بحديثها ونبرة صوتها الحزين:

-أنا اسفة لما حدث في الأسفل يا عاصم، لقد شعرت أنني احرجتك بوجودي وهذا ازعجني كثيرًا، أنا أرغب في التحدث مع جلال.

اتسعت أعين عاصم ومن ثم انفعل وهو ينظر لها:

-لماذا تريدي التحدث مع هذا الحقير يا غرام؟

احمرت وجنتيها وهي لا ترى خطتها تنجح، حاولت أن تمثل الحزن للنهاية:

-ربما لو جلست هناك في منزله لن يحدث هذا، على كل حال هو رجل كبير ولن يتحدث أحد بشأننا، أما هنا سوف يتحدث الكثير من الأشخاص، صدقني لا يفرق معي كلام الناس، لكن أنت من تفرق معي.

نظر عاصم لها بانتباه وهو يتعجب من سلوك هذه الفتاة في بعض الأوقات، لاحظت هي نظراته واستنكار حديثها يرتسم بهم، تابعت الحديث ببساطة:

-أنت ساعدتني يا عاصم، لا يمكنني أن أرد لك الجميل عن طريق كلام سخيف تسمعه من أشخاص لم يكونوا ليتجرأوا ويدخلوا في حياتك.

حرك عاصم رأسه بنفي وهو لا يوافق على حديثها:

-هذا الأمر ليس صحيح يا غرام، لم يتحدث أحد ولن يجرؤ أحد على فعلها، إن كنتِ تقصدين بنات خالتي أنتِ تعرفين أنهم في حالة صدمة ومع ذلك أنا تحدثت معهم في الأمر.

اومأت له وقد اختتمت مسرحيتها بدموعها التي تتساقط ليتعجب عاصم ويقترب ليقف أمامها مباشرة بضيق:

-غرام ماذا بكِ بحق السماء لا تبكي! لا يمكنكي أن تبكي من أجل شيء سخيف كهذا، لقد وضعتك الظروف في طريقتها وهذا لسبب ما واثق أنه جيد، الله لا يفعل شيء سيء كوني واثقة.

نظرت غرام له، فكرت ماذا لو عرف حقيقتها الآن؟ إن علم أنها هي نفسها التي قتلت كلًا من ماجد ومنير لم يكن ليتطلع في وجهها، تفكر كيف سيعاملها وقتها؟ ابتسمت ساخرة داخلها وهي تقوم بطرد هذه الأفكار من رأسها، تجعل نفسها تطمئن أنها لن تكشف نفسها أمامه وهي ليست فتاة غبية أبدًا.

قاطعها صوت عاصم وهو يشعر بالتردد لكنه قرب يده من وجنتها وقام بمسح دموعها، ابعدت وجهها عن يده في تصرف عفوي، نظرت إلى يده وقد احتدت عينيها ليبعد يده:

-هل قومت بمضايقتكِ؟ لم أتعمد هذا أبدًا.

مسحت غرام دموعها وهي تنظر إلى يده بغضب ومن ثم تحدثت بضيق:

-أنا أرغب في الجلوس بمفردي بعض الوقت إذا سمحت.

أومأ لها عاصم وهو لا يعلم ما الذي اصابها لتتصرف معه بتلك الطريقة، يتمنى أن لا تكون اساءت فهمه، هو بالفعل لم يتعمد مضايقتها:

-غرام عليكِ أن تفهمي لم تكن نيتي سيئة أبدًا، أنا تصرفت بشكل عفوي ولم أكن أتخيل أن تنفري بتلك الطريقة أو تسيئي فهمي.

نظرت غرام له، تعجبت أنها رأت صدق حديثه في عينيه، في الطبيعي أي رجل يتمنى لو يقترب منها، لم تكن تصدق أن احد نواياه بريئة، لكن هي أمام عينيه الآن كيف تكذبهم وهي ترى الصدق يندلع منهم، تحدثت إليه بهدوء وقد رسمت إبتسامة مصطنعة:

-لا يوجد أي داعي لهذا الحديث يا عاصم، أعلم أنك لم تتعمد شيء، لكنني حقًا أرغب في البقاء بمفردي.

أومأ عاصم ومن ثم خرج من الغرفة لتقوم باغلاقها وهي تبتسم بثقة:

-لن يطول الأمر يا عاصم، سوف تسقط بي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي