الفصل الثاني عائد ومفارق

انتشر نبأ اصطدام القطاران، ووفاة الغالبية العظمي من الركاب، بينما نجى عدد ضئيل منهم وهم بالمشفى في حالة حرجة.

تم حصر العديد من الجثث، لكن كان هناك العديد من الجثث التي لم يستطيع أحد التعرف عليها.

داخل منزل نصار الجوهري، يجلس بدر نصار الجوهري مجتمعًا، بكبار وشيوخ العائلات، يتشاورون ويقترحون بعض الآراء للنهوض بالقرية.

دلف أحد الضباط ومعه بعض المجندين، استقبلهم بدر نصار الجوهري بحفاوة وحدثهم قائلًا:
—مرحبًا بأسود الوطن، سوف أمر بتحضير الولائم للإحتفال بوجودكم في بلدتنا.

شعر الضابط بالحرج الشديد من ذلك الكرم وتلك الحفاوة التي وجدها من كبير العائلة.

لاحظ بدر الجوهري على وجه الضابط ومرافقيه الحزن الشديد، اقترب منهما وقال:
—سيدي، يبدو عليكم الحزن فعلام ذلك؟!

ربت الضابط على كتف بدر الجوهري وحدثه قائلًا:
—سيد بدر، البقاء لله.

تعجب بدر وعلق قائلًا:
—سيدي، لقد جئت إلى هنا لتقديم واجب العزاء، يبدو أنك أخطأت بالمنزل، يمكنك أن تخبرني باسم المتوفي وأنا سأرسل معك من يدلك على منزله.

نظر الضابط إلى بدر الجوهري وحدثه بحزن شديد:
—المتوفي هو سليم نصار الجوهري.

لم يتمالك بدر الجوهري نفسه، فبمجرد سماعه اسم أخيه لم تحمله قدمه، أسرع الحضور إليه وإلتفوا حوله لمواساته في مصيبته.

انتشر خبر وفاة سليم في أنحاء البلدة، خيم الحزن على الجميع، وما إن علمت روح بما حدث لحبيبها إنهارت ومرضت مرضًا شديدًا.

شعر بدر الجوهري بالحزن الشديد على فقدان أخيه الذي كان يعتبره كل شيء عنده.

كان يطيل الجلوس في غرفة أخيه وعلى سريره، حتى فوق الربوة التي كان يحب الجلوس فوقها منذ أن كان صغيرًا وينظر إلى البلدة من أعلى الربوة.

بدأت روح تتعافي من مرضها لكنها قلبها لم يتعافى مما أصابه من الحزن، قررت الذهاب إلى الربوة لعلها تجد هناك من الذكريات ما يخفف عنها أحزانها.

وما إن وصلت إلى هناك حتى لمحت شخصًا من بعيد يشبه سليم، أسرعت إليه وكاد قلبها أن يتوقف من فرط سعادته، لكنها ما إن اقتربت حتى أصيبت بخيبة أمل كبيرة.

لقد كان بدر يجلس في المكان الذي اعتاد سليم الجلوس عليه.

نظر بدر إلى روح وحدثها قائلًا:
—هل اعتدتي المجيء إلى هنا؟

أومأت روح برأسها دون أن تنطق بحرف واحد.

نظر إليها بدر الجوهري وتحدث:
—اعتذر إليكِ، سوف أغادر وأنت استمتعي بالمناظر الخلابة بكل حرية.

أشفقت روح على بدر، فهي تعلم أن الذي أتى به إلى هنا هو نفسه الذي جعلها تأتي إلى هذا المكان، ألا وهو الشوق لسليم.

دنت روح من بدر وحدثته قائلة:
—سيدي، لا يمكنك الرحيل عن هنا بسببي، يمكنك البقاء حيث تريد، أما أنا فسوف أغادر.

تعجب بدر من تلك الفتاة الرقيقة وحدثها:
—في كلا الأحوال كنت سأغادر؛ فلدي الكثير من الأمور التي علي أن أقوم بإنجازها.

غادر بدر نصار الجوهري الربوة، وظلت روح جالسة بنفس المكان تستعيد الذكريات وتبكي حزنًا على فقيدها الذي أدمى قلبها.

وبعد مرور ثلاثة شهور.
ذهب بدر إلى الربوة، كعادته منذ وفاة أخيه، ولكنه في هذه المرة شاهد روح تجلس فوق الربوة تبكي بكاءً حارًا.

دنا بدر من روح وحدثها:
—روح، أليس هذا بإسمك؟

أسرعت روح بمسح دموعها وقالت:
—أجل سيدي، أسمي روح.

نظر بدر إليها وقد رق قلبه لحالها وقال:
—هل يمكنني أن أعرف ما الذي يبكيكي؟

وعلى الفور وجدت روح نفسها تتحدث إلى بدر وتخبره بما يحزنها:
—سيدي، ابن عمي يلح في طلب الزواج بي منذ فترة واليوم أخبرتني أمي إنها ستوافق على طلبه.

حاول بدر أن يخفف من حزن روح فقال:
—لماذا ترفضين الزواج من ابن عملك؟!

علقت روح وقالت:
—سيدي، إنه رجل متزوج وامرأته لا تنجب وما يريد الزواج مني سوى لرغبته في الإنجاب
والأهم من ذلك هو إنني لا اطيقه.

علق بدر الجوهري:
—لقد تحدثتي بالأهم، إنكِ لا تطيقي قربه، لا يمكنك الزواج من شخص لا تطيقي قربه.

انهمرت الدموع من عين روح وقالت:
—سيدي، لقد أصرت أمي على زواجي من ابن عمي، ولا أعلم ما الذي يمكني فعله؟

جلس بدر فوق الربوة يفكر، ثم نظر إلى روح وحدثها قائلًا:
—روح، ما رأيك في خطة تنقذك من تلك الزيجة؟

نظرت روح إلى بدر وقالت:
—سيدي، هل هناك شيء يمكنه أن ينقذني من  الزواج من ليث ابن عمي؟!

ابتسم بدر وعلق قائلًا:
—سوف أذهب إلى والدتك واطلب يدك منها.

تعجب روح وعلقت قائلة:
—سيدي، لا يمكنك فعل ذلك.

نظر بدر إليها وعلق قائلًا:
—سوف نتزوج بشكل صوري؛ حتى لا تتزوجي من شخص لا تكني له أية مشاعر، ولا تقلقي ستكون لديكِ الحرية كاملة في تقرير مصيرك.

جلست روح تفكر وفي النهاية اضطرت إلى الموافقة وتحدثت قائلة:
—سيدي، سوف أوافق على الزواج منك ولكن كما أخبرتني من قبل سوف يكون زواجًا صوريًا.

ابتسم بدر وعلق قائلًا:
—سوف أفعل كل ما تريدينه.

ذهب بدر إلى بيت روح وقابل والدتها التي قامت بالترحيب به ترحيبًا كبيرًا، وما إن علمت برغبته في الزواج بإبنتها حتي علقت:
—سيدي، كنت أتمنى الموافقة على طلبك، ولكن روح تمت خطبتها لابن عمها.

ابتسم بدر وعلق قائلًا:
—سيدتي، ليث رجل متزوج لو جاء لأختي ما كنت لأقبل به، أما معي ستكون ابنتك زوجة كبير عائلة الجوهري، ليس هذا فحسب بل سأكتب لها نصف ما أمتلكه.

علت الابتسامة وجه الأم وعلقت قائلة:
—حسنًا سيدي، هي لك لن تتزوج ابنتي بأفضل منك.

غادر بدر منزل روح بعد أن قام بالاتفاق مع والدتها على الزواج.

بعد مغادرة بدر أسرعت الأم إلى ابنتها وأخبرتها قائلة:
—روح، لقد تمت خطبتك اليوم على بدر نصار الجوهري كبير عائلة الجوهري، ليس هذا فحسب بل سوف يقوم بكتابة نصف ممتلكاته كمهر لكي.
وضعت روح يدها على فمها وقالت:
—أمي، كيف وافقتي على ذلك؟!

علقت الأم قائلة:
—ابنتي هذا عرض جيد للغاية.
تعجبت روح وعلقت قائلة:
—أمي، لست ببضاعة تباع وتشترى، من فضلك لا تفعلي ذلك.

علقت الأم قائلة:
—روح، سوف تتزوجين من بدر الجوهري ولا يمكنك أن ترفضي زيجة مثل هذه.

وفي اليوم التالي.

ذهبت روح إلى الربوة وهناك وجدت بدر الجوهري في إنتظارها، ما إن رأته حتى حدثته:
—سيدي، كيف قمت بعرض كهذا؟! لماذا عرضت على أمي نصف أملاكك كمهر لي؟!

ابتسم بدر الجوهري وقال:
—روح، المال لا شيء بالنسبة لسعادة الإنسان، سوف أخبرك بما كنت أخبر به أخي سليم رحمة الله عليه:
—المال وسيلة لتحقيق ما نريده وليس غاية وهدف، لذلك إذا قارنت سعادتك بنصف ممتلكاتي فسعادتك أهم لدي من نصف ما امتلكه.

ابتسمت روح وعلقت قائلة:
—سيدي، أنت شخص رائع للغاية.

بدأت الإستعدادات الخاصة لعقد قرآن روح وبدر.

بدر كان يشعر بشيء من الراحة تجاه روح، كان لديه شعور أن هناك شيء مشترك بينها وبين أخيه سليم، لكنه لم يستطيع أن يعرف ما هو ذلك الشيء.

دلف بدر الجوهري إلى غرفة سليم، جلس على فراشه، نظر إلى صورته وحدثها قائلًا:
—أخي، لم أنساك فبداخلي جرح كبير لم يلتئم بعد؛ بسبب فراقك، لكنني لم أكن لأترك هذه الفتاة وهي تحتاج ليد العون دون أن أمد لها يدي بالمساعدة، لو كنت مكاني لفعلت الأمر ذاته.

دمعت عيون بدر، ثم غادر غرفة أخيه، واتجه إلى خارج المنزل فلديه عمل لا بد أن ينهيه قبل عقد القرآن.

روح تقف فوق الربوة تمسك بالقلادة وتبكي، تتذكر حديث سليم معها ووعدها له إنها ستنتظره.

نظرت إلى القلادة وحدثتها قائلة:
—سليم، لم أكن لأتزوج غيرك، كنت أود أن أظل دون زواج حتى أقابلك، لكن الضغوط التي مورست علي كثيرة، لم أستطيع الوقوف ضدها بمفردي، كان وجودك يعطيني القوة والشجاعة، أما الآن فأصبحت بمفردي تعصف بي الرياح كما تشاء.


أمسكت روح بالقلادة وهي تبكي، وتذكرت عندما قام سليم بإعطائها هذه القلادة، أغمضت عينيها وهمت لإلقائها من فوق الربوة وقالت:
—لم أعد أستحق هذه القلادة.

وفي المساء كان بيت روح مليء بالمهنئين من الأقارب والجيران والأحباب الذين جاءوا إلى بيتها حاملين الكثير من الهدايا.

أما روح فقد كانت قابعة داخل غرفتها حزينة، كانت تتمنى لو كان سليم هو العريس وليس أحد غيره.

دلفت الأم إلى داخل الغرفة وقد تملكها الغضب من ابنتها التي لم تخرج لمقابلة الضيوف القادمين لتهنئتها، نظرت إليها وحدثتها:
—روح، أي فتاة أنتِ؟! جميع الأقارب والأحباب قد أتوا إليكِ لتهنئتك وأنت لا تهتمي لشيء.

نظرت روح إلى والدتها وقالت:
—حسنًا أمي لا داعي لمثل هذه الكلمات سوف ألحق بك.
خرجت الأم تهمهم بكلمات غير مفهومة، بينما قامت روح بتبديل ملابسها والخروج من غرفتها لمقابلة الضيوف والترحيب بهم.

وما إن رأتها صديقاتها حتى أسرعن إليها لتهنئتها:
—روح، لم نكن لنتوقع أن يقوم بدر الجوهري بالزواج منكِ، لقد اعتقد الجميع أنه مضرب عن الزواج.

ابتسمت روح وعلقت:
—أحيانًا لا يريد المرء فعل شيء معين، لكن الظروف قد تجبره على فعل أشياء لم تكن بباله.

بدى التعجب على وجوه الصديقات؛ فهن لم يفهمن ما تعنيه روح بكلماتها.

نظرت روح إليهن وقالت:
—لم تفهمن ما أعنيه أليس كذلك؟!

علت الابتسامة وجوههن وقلن في آنٍ واحد:
—لا لم نفهم شيء، ولكننا سعداء لزواجك ببدر الجوهري.

ابتسمت روح وعلقت:
—وأنا سعيدة لوجودكم هنا.

ظلت الفتايات يحتفلن بزواج روح، تارة بالغناء وأخرى بالرقص، اما روح فبلا روح.

وفي اليوم التالي
ارتدت العروس ثوب الزفاف وانتظرت اللحظة التي تقاد فيها إلى منزل بدر الجوهري.

كان الشيء الوحيد الذي يهدأ من روعها أنها سوف تكون في نفس المنزل الذي قضى فيه سليم حياته.

وها قد أتى بدر نصار مرتديًا عباءة فخمة، يعرف من ينظر إليه أن هذا الشخص ذو شأن عظيم.

تم عقد القرآن واصطحب العريس عروسه إلى منزل بدر الجوهري، وهناك أقيمت الولائم والإحتفالات بزواج كبير عائلة الجوهري.

فالوقت الذي كان بدر يحتفل بزواجه وبجواره عروسه روح، كان هناك من يختبأ وينتظر اللحظة المناسبة لينقض على بدر نصار ويتخلص منه وينفرد بتجارة السلاح بالبلدة.

إنه نادي العدوي تاجر السلاح الذي اختلف بالأمس مع بدر الجوهري بسبب تحكم بدر بتجارة السلاح.

ظل نادي العدوي ورجاله متربصين لبدر نظر نادي إلى رجاله وحدثهم قائلًا:
—لا وقت للخطأ، لا بد ان تقوموا بالقضاء على بدر الجوهري الليلة.

وها قد حانت اللحظة المنتظرة، عندما قام أحد أقارب بدر بجذبه من يده وألقى إليه بعصا.
إلتقط بدر العصا وقام بالتحطيب مع ابن عمه مروان الجوهري.

أشار نادي العدوي إلى رجاله بإطلاق النار على بدر، وبالفعل اقتحم الرجال الحفل وقاموا بإطلاق النار على بدر فسقط متأثرًا بجراحه.

في تلك اللحظة ووسط الصرخات والفوضى نظر بدر فإذا بسليم يعود مرة أخرى، شعر بدر بسعادة بالغة ضم سليم أخاه إلى صدر وهو لا يعرف ما الذي حدث علت الابتسامة وجه بدر بينما تدفقت الدماء من فمه.

همس إلى أخيه:
—أخي، حمدًا لله على سلامتك، لماذا تأخرت فالعودة.

تدفقت الدموع من عين سليم وقال:
—بدر، لا تتحدث سوف تأتي سيارة الأسعاف وتنقلك إلى المشفى، سوف تكون بخير.

وضع بدر أصابعه على فم أخيه لإسكاته؛ حتى يكمل حديثه، أشار إلى عروسه وقال:
—سليم، لم يعد هناك المزيد من الوقت اوصيك بالعروس لا تدعها تزوجها وأحسن إليها.
ثم صمت بدر الجوهري ولم ينطق بكلمة واحدة فقد فارقت الروح جسده.

أخذ سليم يصرخ ويصيح على فراق أخيه، ثم ألقى بنظره إلى العروس وكانت الصدمة إنها روح.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي