الفصل الاول،البداية
تركض بجنون وهي تتعثر وتسقط مراراً، لكنها تعرف جيداً أنها إذا ما توقفت للحظة لتلتقط أنفاسها حتى، سوف تقتل بلا محالة وبأبشع الطرق.
وفجأة تجده أمامها بطوله الفارع الذي تعدى الثلاث أمتار بقليل، ووجهه الأخضر يحدق فيها بعيناه الصفرواتان الأشبه بأعين الزواحف المنقرضة، يضحك أم لا، لا تعرف هذا، فشفتاه كبيرتان جداً، تشبه شفاه المهرج أو الجوكر.
حملقت في مخالبه التي رفعها على الشجرة وبدأ يخدش في جذعها المسكين مما خلف أثاراً عميقة مكان الستة مخالب في يده الضخمة، تشعر من أعماق قلبها، أنه يتعمد فعل ها ليبث الرعب فيها ويقتلها بالبطئ قبل أن يسلخ جلدها من على العظام كما فعل في رفيقتها المقربة.
بدأ يحملق بها أكثر، توهجت عيناه بضوء أصفر مشع مفزع، جعل كل بدنها يرتجف بهلع، هجم عليها دون مقدمات وفجأة وجدت نفسها تفقد الوعي قبل أن ينال منها.
وفجأة تستيقظ كعادتها لتجد نفسها غارقة في عرقها، تلهث وكأنها كانت تعدو بداخل ماراثون عالمي، جسدها ينتفض حرفياً مع كل دقة بقلبها، شعرت أنها ستنفجر كالقنبلة الموقوتة من شدة الإرتجاف.
"في حي إسبيكو بمدينة النهضة"
تعيش "نغم" مع زوجها "ياسر" وأطفاله من زوجته الأولى وهم "عمار وحسن"، لكنهم طفلان كريهان كوالدهم، لم يحبا نغم منذ تزوجها "ياسر" مجبراً بسبب أعماله مع والدها، وهي أجبرت على الزواج منه بسبب نعت الجميع لها بالجنون منذٌ ذاك الحادث الذي عاشته وهي في الصف الثامن.
الأن تحمل طفلتان تؤلم، لكنها دائماً تشعر بأنها ستفقدهم وذاك الجوكر سيكون السبب بطريقة ما.
دخل "ياسر" عليها وجدها ككل مرة، وجهها شاحب كالأموات، تتنفس بسرعة كأنها كانت تركض لتوها، زفر بضيق وهو يحضر لها كوب الماء من على المنضدة القريبة من الفراش،
قال لها بحدة:
_نفس الكابوس مجدداً.
قالت له وهي تأخذ الكوب من يده:
_وماذا سيكون غيره؟ أشعر أنني حقاً قابلت ذاك الجوكر في حياتي السابقة.
ألتفت لها وعيناه تتطلع فيها بشرر كبير وقال بجفاؤ بارد:
_لا تكوني حمقاء كعادتك "نغم"، لا يوجد ما يسمى بالحياة السابقة مطلقاً، نحن نحيا مرة واحدة ونموت مرة واحدة، لا نحيا بعدها مطلقاً، لا نعود
في أجساد أشخاص أخرين، لكن تكفي عن رؤية تلك الكوابيس طالما تستمرين في قراءة تلك الترهات الخاصة بالأجساد الأثيرية، القرين، التخاطر، التسلسل النمطي لإعادة التكوين، والإسقاط النجمي،
"نغم" أنتي لم تدخلي في عالم مغاير بسبب جلسة سخيفة عقدتيها مع رفيقاتك الأغبياء مثلك في الصف الثامن، أنتي كنتي ولازلتي تهزين يا إمرأة، ووالدك أخبرك بهذا الشئ مراراً، لكن أنتي الوحيدة التي ترفض الإقتناع بهذا الأمر،
لا تكفين عن الخوف أبداً، لا تتوقفين عن لوم نفسك ظناً منك أنك سبباً في موت رفيقاتك بشكلاً ما، دائماً تظنين بأنك ستكونين التالية في قائمة ذاك الجوكر الأخضر الخيالي، لكن "نغم"، لا يوجد ما يسمى بالمسوخ في الكون بأكمله، لا يوجد مشوهون متوحشون يفترسون المراهقات،
كفي عن مشاهدة تلك المقاطع الزائفة المرعبة على الإنترنت، تلك المشاهد الحمقاء هي السبب في إقناع ثلاثون بالمئة من البشر الحمقى أن تلك الأشياء الخيالية حقيقة تعيش بيننا وأن هناك حقاً بوابات بين عالمنا وعالمهم،
حباً لله كفي، لقت سئمت هذا الأمر حقاً.
بكت "نغم" وهي تنظر له بحزن وخيبة أمل وتقول بإنكسار:
_أنت مثلهم، مثل الشرطة، مثل والدي، مثل رفاقي، أنتم جميعاً متشابهون، لا تريدون تصديقي، أنا لم أكن أهذي
أعلم بأنني لا أذكر كل التفاصيل وأرى الصورة مشوشة لكنها واقعية "ياسر"،
أنا ورفيقاتي أستحضرنا مخلوق أخضر شيطاني من عالمه ولم نغلق البوابة، مخلوق قتل رفيقاتي "ياسر"، وهاجمني، وهذا ما آراه دائماً في أحلامي، حتى وإن كانت الذكريات ضعيفة، لكنه ليس بحلم، أقسم لك.
هنا طفح كيل "ياسر"، صرخ فيها بكل غضب قائلاً:
-كفـــــــي "نغم"، أن كنتي قابلتي ذاك الجوكر الأخضر حقاً في صباكي، وطاردك كما تزعمين بعدما أصطاد رفيقاتك الواحدة تلو الأخرى،
لما بحق الجحيم لم يقتلك أنتي أيضاً؟ هل خاف منك؟ هل أستيقظ ضميره وشعر بالبؤس لقتل بريئات حمقاوات؟ هيا يا إمرأة، بحقك، لقد كنتي طفلة في الثالثة عشر من عمرك، من المستحيل أن يتركك ذاك المسخ أن كان حقيقي بعدما قتل رفيقاتك قبلك،
أم أنك تودين قول أنه، أممم، أعجب بك، سقط في عشقك كالأبله، ولهذا لم يقتلك، حسناً "نغم"، ساجاري جنونك للأخر، أن كان الجوكر هذا أحبك بحق لهذا لم يقتلك، لماذا بحق الجحيم تركني أتزوجك؟ لماذا لم يأخذك لعالمه أيتها الحمقاء السخيفة؟
ربما حينها لم أكن لأجبر على الزواج منك أبداً، ولما كنت لأقابلك حتى، اللعنة عليكي يا إمرأة، أنكي تقوديني حقاً للجنون.
تركها وخرج بعدما أغلق الباب خلفه بعنف وقوة، بكت "نغم" بحرقة وهي تمد يدها تحت وسادتها وتخرج مذكرات رفيقتها المقربة "تينا"، لقد كانت مغربية الأصل، فتحت صفحات المذكرةن الصفحة الخامسة والثلاثون.
عادت تذكر مدرستها "نيفرتاري"، مدرسة في أحد أحياء مصر الراقية، مدرستها كانت قصر لأحد الأتراك قديماً، وبعد الحرب العالمية الثانية، قتلت عائلة الخواجة "أدريانوا" بأكملها في القصر، لم يظهر لهم ورة، قامت الشرطة المصرية بأحتكار القصر وتم تأجيره على مدار أجيال،
لكن لم تعمر عائلة فيه مطلقاً، يأست الشرطة من أنها ستنتفع بذاك القصر الذي أنتشرت حوله إشاعات بأنه مسكون بأرواح من قتلوا فيه، لكن ذات يون، قام أحد المستثمرين الأجانب بتأجير القصر وكما قيل أستطاع بشكل ما أن يبطل اللعنة عن القصر.
قام بتحويل القصر لمنتجع صحي، لكنه أفلس بسرعة لأسباب غامضة، قام بعدها بتحويلة لفندق، لكنها كانت كارثة، مات العشرات في القصر والسبب دائماً كان غامض، أغلق القصر لسبعون عام تقريباً، بعدها تم شراؤه ببخس الأسعار وقام المشتري بتحويله لمدرسة تجريبية لغات.
كان فترة واحدة، من السابعة صباحاً حتى الثالثة عصراً، ومن بعدها يظل مغلق ولم يكن يحرسه حارس حتى، لكن في أحد السنوات، دخلت "نغم" تلك المدرسة التي تضم الصفوف الأولى من إبتدائي حتى الثانوي فقط.
تعرفت "نغم" على رفيقاتها الأربعة "تينا، أريج، روبي، وسيمران" وكانت الأخيرة هندية النشئ لكنها تعيش مع عائلتها في مصر وقد تعلمت اللغة بسرعة وتأقلمت مع المراهقات في مثل سنها.
مرت السنوات وتوطدت الصداقة بين الفتيات، وذات ليلة صيف، سافرت "سيمران" مع عائلتها لزيارة بلدها، وهناك عرفت أن الجد الكبير قد توفى.
قامت "سمران" بعادة المراهقات في سنها بنبش قصر جدها الذي ورثه والدها عنه، وبالفعل وجدت ضالتها في قبو القصر المغلق، وجدت غرفة سرية أخذت منها الكثير من الوقت كي تفتحها، لكن خاب أملها حين فتحتها ولم تجد الكثير.
وجدت بعض الأثاث القديم، التحف الأثرية التي لا تملك قيمة مادية كبيرة، وبعض الكتب في مكتبة ضخمة يصل طولها إلى سقف الغرفة.
شعرت بخيبة كبيرة، لكنها نظرت بفضول على الأرفف لعلها تجد كتاب مميز يكون مفتاح سري لغرفة أخرى ملحقة بتلك الغرفة، أنها فقط تبحث عن المغامرة كي تعود بقصص شيقة لرفيقاتها في السنة الدراسة الجديدة.
لكنها لمحت كتاب أستوقفها قليلاً، لأن غلافه كان أخضر على أسود، والكتابة عليه غريبة باللون الأحمر القاني، لكن ليس هذا ما لفت إنتباه "سيمران"، لقد جذب إهتمامها الشئ الموجود على غلاف الكتاب، وهو كان بضعة أحجار ماسية تعرفها جيداً لأن خالتها تعمل في مجال تصميم قطع المجوهرات ولديها خبرة في تميز أحجار الألماس من الأحجار التقليدية.
وتلك الأحجار كانت مميزة لأنها كما تعلم من خالتها، يتم إستخراجها من جوف الكهوف والمناجم الأكثر خطورة في العالم.
لم تتردد "سمران" وأخذت الكتاب فوراً دون حتى أن تحاول قراءة ما كتب عليه، خبأت الكتاب في حقيبتها وعادت به إلى غرفتها في منزل والدها، فتحته بعدما تأكدت أن الكل نيام حتى لا يزعجها أحدهم.
لكن خاب ظنها جداً، لأنها أعتقدت بأن هذا اكتاب ما هو إلا صندوق به ألماسات فخمة قيمة، ظنت أنها عثرت على كنز ما، لكنها لم تجد سوى كلمات كلمات والمزيد من الكلمات المكتوبة بلغة لم تصادفها يوماً.
وضعت الكتاب في حقيبتها ونسيت أمره حتى عادت إلى مصر مع بداية السنة الدراسية الجديدة، وهناك في برج المراقبة وهو مكان أختارته الصديقات الخمس في أحد أبراج القصر ليكون مكان خاص بهم، وبالفعل كانت غرفة بعيدة لها نافذة واحدة دائرية بها خطوط قوسية.
أسموه برج المراقبة؛ نظراً لأن نافذته تطل على ساحة القصر كله وتكشف المدينة البعيدة، أجتمعوا فيه الرفيقات وقت الراحة وأخبرتهم "سيمران" عن ذاك الكتاب النادر.
صممت الرفيقات على أخذ هذا الكتاب على محمل الجد ومحاولة ترجمة لغته كنوع من التحدي، وبالفعل، أخذت كل واحدة منهم نسخة من بضع صفحات وقامت كلاً منهم بالبحث عن تلك اللغة.
أستغرق الأمر منهم أسابيع حتى عرفوا بأن تلك اللغة ليست لغة بشرية، بل هي لغة سريانية كتبها أحد ملوك الجان، حتى الخط نفسه لم يتم كتابته على الآلة الكاتبة او بأي حبر معروف لدى البشر، بل ما أكتشفوه أنه مكتوب بالدماء والصفحات نفسها لم تكن ورق، بل كان جلد محنط، لكنهم لم يعرفا هل هو جلد بشري أمم حيواني.
بدأت "روبي" تقرأ ما ترجموه بصوتها الجهوري بثقة وحماس، لكن الرفيقات لم تفهم مما قرأ سوى أن ذاك الكتاب يحوي بين صفحاته أحداث حدثت لأشخاص في زمن ماضي، حوادث شنيعة وقتل لعائلات بأكملها على يد مخلوق اخضر آتى من عالم مختلف.
وأن هناك بوابة زمنية يمكن فتحها من خلال قراءة بضع سطور أشبة بالطلاسم أو تعويذة الإستحضار، وقام رجل في زمن قديم جداً بفتح تلك البوابة بالصدفة، وترتب على هذا العمل، قتل عائلته كلها وذبح أغنامه بطريقة بشعة، وحدثت حوادث إختفاء لمراهقات ورضع في ذاك الوقت حتى ظهر رجل عراف أستطاع معرفة من وراء كل تلك الجرائم
وقام هو وبعض السحرة والقساوسة بفتح البوابة وحبس المخلوق الأخضر فيها، وأنه ينتظر أن تفتح البوابة مجدداً حتى يعود وينتقم، لأنه كما كتب في تلك السطور، لم يسجن المخلوق في عالمه، بل سجنوه في عالم ما بين الأكوان، وهو سجين هناك حتى الأزلية كما أعتقد السحرة والقساوسة.
ضحكت البنات ساخرين من هذا الكلام الأسطوري، تهكموا على هذه الترهات، لكن "أريج" قالت لهم بحماس:
_لما لا نجرب يا بنات؟ هيا لنرى، هل سيظهر لنا البوجي مان الأخضر ويقوم بأختطافنا في بئر سديم، أم سيخطفنا ويعود بنا إلى عالم المهرجين خاصته.
سمران بسخرية:
_نعم، نعم، فلنجرب يا شققاتي، أنا أطلب من والدي كل عيد مولد لي أن يأخذني للملاهي، لكنه يسخر مني، حقاً أريد رؤية المهرج، أنا أريده.
ضحكت الفتيات، لكن نغم شعرت بأن الأمر ليس بمزحة على الإطلاق، لكنها لن تجرؤ على ظهور مخاوفها أو التخاذل أمام رفيقاتها كي لا يدعونها بالجبانة الخائفة.
أضطرت أن تجاريهم وتقول لنفسها سراً:
_ما أسوء ما قد يحدث على كل حال؟ أنه كتاب متهالك كتبه عجوز خرف أراد لفت الإنتباه وإلا لكنا سمعنا عه، أليس كذلك؟
أقنعت نفسها بهذا، وقاموا بقراءة تعويذة الإستحضار، لكن لم يحدث أي شئ، لم تطفئ الأضواء كما هو معهود، لم تغلق النافذة أو الباب بجنون كأن الرياح تريد أقتلاعهم من مفصلهم، لم يروا دخاناً، أو ضباب، أو حتى نسيم بارد عابر، لم يحدث شئ البته.
ضحكوا ساخرين من أنفسهم على تضييع أسابيع هباءاً، لكن فجأة، دوى صوت المدير مما جعلهم ينتفضون خوفاً ويهرعون من برج المراقبة تاركين كل شئ خلفهم.
سارت الأمور أعتيادية، لكن لم تلحظ الفتيات أن الكتاب أختفى وكل ما أحضروه بصعوبة لتنفيذ تعويذة الإستحضار، قد أختفى أيضاً، لم تسأل أحدهما ولم تفكر واحدة منهما حتى في الأمر، لكن، بدأت الكوارث تحدث تباعاً، بعد أول أربعون ليلة.
ماتت "أريج" أولاً، وجدوها مشنوقة في غرفتها بطريقة غريبة، ألتف ثوبها على رقبتها بداخل خزانة قيابها، لكن الغريب في الأمر، هو الدماء التي وجدوها تنزف من أعين وأنف ورأس الضحية.
لم يربطوا الرفيقات ما حدث لــ"أريج" بما فعلوه في برج المراقبة، لكن بعد وفاة "سيمران" بعد أربعون يوماً أخرين في حادث أخر على الطريق وأيضاً تهشمت جمجمتها بطريقة غريبة، بدأ الرعب يدب في قلوب الفتيات،
لكنهم لم يخبروا أحداً خوفاً من إتهامهم في تلك الحوادث، فضوا الصمت والرعب، تفرقت الرفيقات لكن خبر وفاة الأخرين وصل لــ"نغم"
كالصاعقة، تأكدت أن الدور سيصيبها في الأخير، قالت الحقيقة ولم يصدقها أحدهم والدليل على كذبها هو عدم العثور على أي كتاب أخضر في المدرسة كلها.
تم وضع "نغم" في مشفى الأمراض النفسية والعصبية، وبعد مرور أربعين يوماً ببضعة إيام، أخرجها والدها بعدما أخبرها الطبيب أن الفترة الزمية التي قالت بأنها ستقتل فيها قد فاتت بالفعل وهي لا تزال حية ترزق.
عادت لمنزل والدها لكنها لم تعد لطبيعتها مطلقاً، كانت دائماً شاردة، مرتعبة، خائفة، ومشوشة، تنظر حولها بأستمرار كأنها ترى مخلوقات تحلق حولها طول الوقت، أعادها والدها للمشفة وظلت فيها أشهر طويلة، حتى أستعادت عقلها نسبياً بسبب الصدمات الكهربائية التي اعرضت لها.
أيضاً قام الأطباء عدماء الضمير بأجراء التجارب السرية والممنوعة عليها، نظراً لأنها مجنونة بنظرهم ولن يصدقها أحداً أن فضحت أمرهم، لكن التجارب أتت بنفعها على "نغم"، جعلتها تفقد جزءاً من عقلها وذاكراتها، لم تعد تذكر الماضي إلا بسيطاً.
عادت لمنزل والدها من جديد، لكن ذات يوم، سمعت ضجيج أت من غرفة والدها، فتحت عيناها وإذ بها تجد المهرج الأخضر يحدق بها بعيناه المتوهجتان وهو معلق في السقف كالعنكبوت.
صرخت وركضت لخارج الفيلا وهو يطاردها حتى وقفا متواجهان وبدأ يخدش الشجرة بمخالبه الحادة، صرخت "نغم" وفقدت وعيها، بعدها عادت المشفى وظلت بها لسنوات، لكنها لم تفقد أو تستعيد ذكريتها مجدداً، بل كانت ترى ما حدث لها ولرفيقاتها زمان في المدرسة في الأحلام، وكان هناك صوت بداخلها يقول لها أن تلك ليست أحلام وأن الجوكر الأخضر، حقيقة عاشتها، قاستها، خسرت بها رفيقاتها.
لكن كالعادة، لا يصدق أحد، وأبسط شئ يقال، أن ذاك الشخص فقد عقله بسبب الصدمات التي تعرض لها، واليوم وهي في الخامسة والثلاثون، عادت الأحلام تهاجمها بشراسة وغضب حتى ظنت بأنها عادت مراهقة من جديد وتهرب طول الوقت من شبح المهرج.
ذات ليلة ماطرة، أستيقظ كل من بالبيت على صراخ مفزع أت من غرفة نغم، دخل الجميع يركض وهو غاضب، لكنهم وقفوا جميعاً مصدومين بشدة من هول ما يرونه بأعينهم.
"نغم" ملقاة على الأرض ووجهها ممزق بمخالب حادة غرزت في جلدها وتخطت اللحم حتى كسرت عظام الوجه بأكمله، ليس هذا ما أفزع الجميع، ما أرعبهم أكثر، هو حال بطن "نغم"، تم تمزيق بطنها كلياً، ولم يعثر الوالد سوى على طفلة واحدة، أما الأخرى، تم إنتزاعها من رحم أمها.
تم أختطاف صغيرة، وترك الأخرى تصارع للبقاء على قيد الحياة.
يتبع في الفصل الثاني
وفجأة تجده أمامها بطوله الفارع الذي تعدى الثلاث أمتار بقليل، ووجهه الأخضر يحدق فيها بعيناه الصفرواتان الأشبه بأعين الزواحف المنقرضة، يضحك أم لا، لا تعرف هذا، فشفتاه كبيرتان جداً، تشبه شفاه المهرج أو الجوكر.
حملقت في مخالبه التي رفعها على الشجرة وبدأ يخدش في جذعها المسكين مما خلف أثاراً عميقة مكان الستة مخالب في يده الضخمة، تشعر من أعماق قلبها، أنه يتعمد فعل ها ليبث الرعب فيها ويقتلها بالبطئ قبل أن يسلخ جلدها من على العظام كما فعل في رفيقتها المقربة.
بدأ يحملق بها أكثر، توهجت عيناه بضوء أصفر مشع مفزع، جعل كل بدنها يرتجف بهلع، هجم عليها دون مقدمات وفجأة وجدت نفسها تفقد الوعي قبل أن ينال منها.
وفجأة تستيقظ كعادتها لتجد نفسها غارقة في عرقها، تلهث وكأنها كانت تعدو بداخل ماراثون عالمي، جسدها ينتفض حرفياً مع كل دقة بقلبها، شعرت أنها ستنفجر كالقنبلة الموقوتة من شدة الإرتجاف.
"في حي إسبيكو بمدينة النهضة"
تعيش "نغم" مع زوجها "ياسر" وأطفاله من زوجته الأولى وهم "عمار وحسن"، لكنهم طفلان كريهان كوالدهم، لم يحبا نغم منذ تزوجها "ياسر" مجبراً بسبب أعماله مع والدها، وهي أجبرت على الزواج منه بسبب نعت الجميع لها بالجنون منذٌ ذاك الحادث الذي عاشته وهي في الصف الثامن.
الأن تحمل طفلتان تؤلم، لكنها دائماً تشعر بأنها ستفقدهم وذاك الجوكر سيكون السبب بطريقة ما.
دخل "ياسر" عليها وجدها ككل مرة، وجهها شاحب كالأموات، تتنفس بسرعة كأنها كانت تركض لتوها، زفر بضيق وهو يحضر لها كوب الماء من على المنضدة القريبة من الفراش،
قال لها بحدة:
_نفس الكابوس مجدداً.
قالت له وهي تأخذ الكوب من يده:
_وماذا سيكون غيره؟ أشعر أنني حقاً قابلت ذاك الجوكر في حياتي السابقة.
ألتفت لها وعيناه تتطلع فيها بشرر كبير وقال بجفاؤ بارد:
_لا تكوني حمقاء كعادتك "نغم"، لا يوجد ما يسمى بالحياة السابقة مطلقاً، نحن نحيا مرة واحدة ونموت مرة واحدة، لا نحيا بعدها مطلقاً، لا نعود
في أجساد أشخاص أخرين، لكن تكفي عن رؤية تلك الكوابيس طالما تستمرين في قراءة تلك الترهات الخاصة بالأجساد الأثيرية، القرين، التخاطر، التسلسل النمطي لإعادة التكوين، والإسقاط النجمي،
"نغم" أنتي لم تدخلي في عالم مغاير بسبب جلسة سخيفة عقدتيها مع رفيقاتك الأغبياء مثلك في الصف الثامن، أنتي كنتي ولازلتي تهزين يا إمرأة، ووالدك أخبرك بهذا الشئ مراراً، لكن أنتي الوحيدة التي ترفض الإقتناع بهذا الأمر،
لا تكفين عن الخوف أبداً، لا تتوقفين عن لوم نفسك ظناً منك أنك سبباً في موت رفيقاتك بشكلاً ما، دائماً تظنين بأنك ستكونين التالية في قائمة ذاك الجوكر الأخضر الخيالي، لكن "نغم"، لا يوجد ما يسمى بالمسوخ في الكون بأكمله، لا يوجد مشوهون متوحشون يفترسون المراهقات،
كفي عن مشاهدة تلك المقاطع الزائفة المرعبة على الإنترنت، تلك المشاهد الحمقاء هي السبب في إقناع ثلاثون بالمئة من البشر الحمقى أن تلك الأشياء الخيالية حقيقة تعيش بيننا وأن هناك حقاً بوابات بين عالمنا وعالمهم،
حباً لله كفي، لقت سئمت هذا الأمر حقاً.
بكت "نغم" وهي تنظر له بحزن وخيبة أمل وتقول بإنكسار:
_أنت مثلهم، مثل الشرطة، مثل والدي، مثل رفاقي، أنتم جميعاً متشابهون، لا تريدون تصديقي، أنا لم أكن أهذي
أعلم بأنني لا أذكر كل التفاصيل وأرى الصورة مشوشة لكنها واقعية "ياسر"،
أنا ورفيقاتي أستحضرنا مخلوق أخضر شيطاني من عالمه ولم نغلق البوابة، مخلوق قتل رفيقاتي "ياسر"، وهاجمني، وهذا ما آراه دائماً في أحلامي، حتى وإن كانت الذكريات ضعيفة، لكنه ليس بحلم، أقسم لك.
هنا طفح كيل "ياسر"، صرخ فيها بكل غضب قائلاً:
-كفـــــــي "نغم"، أن كنتي قابلتي ذاك الجوكر الأخضر حقاً في صباكي، وطاردك كما تزعمين بعدما أصطاد رفيقاتك الواحدة تلو الأخرى،
لما بحق الجحيم لم يقتلك أنتي أيضاً؟ هل خاف منك؟ هل أستيقظ ضميره وشعر بالبؤس لقتل بريئات حمقاوات؟ هيا يا إمرأة، بحقك، لقد كنتي طفلة في الثالثة عشر من عمرك، من المستحيل أن يتركك ذاك المسخ أن كان حقيقي بعدما قتل رفيقاتك قبلك،
أم أنك تودين قول أنه، أممم، أعجب بك، سقط في عشقك كالأبله، ولهذا لم يقتلك، حسناً "نغم"، ساجاري جنونك للأخر، أن كان الجوكر هذا أحبك بحق لهذا لم يقتلك، لماذا بحق الجحيم تركني أتزوجك؟ لماذا لم يأخذك لعالمه أيتها الحمقاء السخيفة؟
ربما حينها لم أكن لأجبر على الزواج منك أبداً، ولما كنت لأقابلك حتى، اللعنة عليكي يا إمرأة، أنكي تقوديني حقاً للجنون.
تركها وخرج بعدما أغلق الباب خلفه بعنف وقوة، بكت "نغم" بحرقة وهي تمد يدها تحت وسادتها وتخرج مذكرات رفيقتها المقربة "تينا"، لقد كانت مغربية الأصل، فتحت صفحات المذكرةن الصفحة الخامسة والثلاثون.
عادت تذكر مدرستها "نيفرتاري"، مدرسة في أحد أحياء مصر الراقية، مدرستها كانت قصر لأحد الأتراك قديماً، وبعد الحرب العالمية الثانية، قتلت عائلة الخواجة "أدريانوا" بأكملها في القصر، لم يظهر لهم ورة، قامت الشرطة المصرية بأحتكار القصر وتم تأجيره على مدار أجيال،
لكن لم تعمر عائلة فيه مطلقاً، يأست الشرطة من أنها ستنتفع بذاك القصر الذي أنتشرت حوله إشاعات بأنه مسكون بأرواح من قتلوا فيه، لكن ذات يون، قام أحد المستثمرين الأجانب بتأجير القصر وكما قيل أستطاع بشكل ما أن يبطل اللعنة عن القصر.
قام بتحويل القصر لمنتجع صحي، لكنه أفلس بسرعة لأسباب غامضة، قام بعدها بتحويلة لفندق، لكنها كانت كارثة، مات العشرات في القصر والسبب دائماً كان غامض، أغلق القصر لسبعون عام تقريباً، بعدها تم شراؤه ببخس الأسعار وقام المشتري بتحويله لمدرسة تجريبية لغات.
كان فترة واحدة، من السابعة صباحاً حتى الثالثة عصراً، ومن بعدها يظل مغلق ولم يكن يحرسه حارس حتى، لكن في أحد السنوات، دخلت "نغم" تلك المدرسة التي تضم الصفوف الأولى من إبتدائي حتى الثانوي فقط.
تعرفت "نغم" على رفيقاتها الأربعة "تينا، أريج، روبي، وسيمران" وكانت الأخيرة هندية النشئ لكنها تعيش مع عائلتها في مصر وقد تعلمت اللغة بسرعة وتأقلمت مع المراهقات في مثل سنها.
مرت السنوات وتوطدت الصداقة بين الفتيات، وذات ليلة صيف، سافرت "سيمران" مع عائلتها لزيارة بلدها، وهناك عرفت أن الجد الكبير قد توفى.
قامت "سمران" بعادة المراهقات في سنها بنبش قصر جدها الذي ورثه والدها عنه، وبالفعل وجدت ضالتها في قبو القصر المغلق، وجدت غرفة سرية أخذت منها الكثير من الوقت كي تفتحها، لكن خاب أملها حين فتحتها ولم تجد الكثير.
وجدت بعض الأثاث القديم، التحف الأثرية التي لا تملك قيمة مادية كبيرة، وبعض الكتب في مكتبة ضخمة يصل طولها إلى سقف الغرفة.
شعرت بخيبة كبيرة، لكنها نظرت بفضول على الأرفف لعلها تجد كتاب مميز يكون مفتاح سري لغرفة أخرى ملحقة بتلك الغرفة، أنها فقط تبحث عن المغامرة كي تعود بقصص شيقة لرفيقاتها في السنة الدراسة الجديدة.
لكنها لمحت كتاب أستوقفها قليلاً، لأن غلافه كان أخضر على أسود، والكتابة عليه غريبة باللون الأحمر القاني، لكن ليس هذا ما لفت إنتباه "سيمران"، لقد جذب إهتمامها الشئ الموجود على غلاف الكتاب، وهو كان بضعة أحجار ماسية تعرفها جيداً لأن خالتها تعمل في مجال تصميم قطع المجوهرات ولديها خبرة في تميز أحجار الألماس من الأحجار التقليدية.
وتلك الأحجار كانت مميزة لأنها كما تعلم من خالتها، يتم إستخراجها من جوف الكهوف والمناجم الأكثر خطورة في العالم.
لم تتردد "سمران" وأخذت الكتاب فوراً دون حتى أن تحاول قراءة ما كتب عليه، خبأت الكتاب في حقيبتها وعادت به إلى غرفتها في منزل والدها، فتحته بعدما تأكدت أن الكل نيام حتى لا يزعجها أحدهم.
لكن خاب ظنها جداً، لأنها أعتقدت بأن هذا اكتاب ما هو إلا صندوق به ألماسات فخمة قيمة، ظنت أنها عثرت على كنز ما، لكنها لم تجد سوى كلمات كلمات والمزيد من الكلمات المكتوبة بلغة لم تصادفها يوماً.
وضعت الكتاب في حقيبتها ونسيت أمره حتى عادت إلى مصر مع بداية السنة الدراسية الجديدة، وهناك في برج المراقبة وهو مكان أختارته الصديقات الخمس في أحد أبراج القصر ليكون مكان خاص بهم، وبالفعل كانت غرفة بعيدة لها نافذة واحدة دائرية بها خطوط قوسية.
أسموه برج المراقبة؛ نظراً لأن نافذته تطل على ساحة القصر كله وتكشف المدينة البعيدة، أجتمعوا فيه الرفيقات وقت الراحة وأخبرتهم "سيمران" عن ذاك الكتاب النادر.
صممت الرفيقات على أخذ هذا الكتاب على محمل الجد ومحاولة ترجمة لغته كنوع من التحدي، وبالفعل، أخذت كل واحدة منهم نسخة من بضع صفحات وقامت كلاً منهم بالبحث عن تلك اللغة.
أستغرق الأمر منهم أسابيع حتى عرفوا بأن تلك اللغة ليست لغة بشرية، بل هي لغة سريانية كتبها أحد ملوك الجان، حتى الخط نفسه لم يتم كتابته على الآلة الكاتبة او بأي حبر معروف لدى البشر، بل ما أكتشفوه أنه مكتوب بالدماء والصفحات نفسها لم تكن ورق، بل كان جلد محنط، لكنهم لم يعرفا هل هو جلد بشري أمم حيواني.
بدأت "روبي" تقرأ ما ترجموه بصوتها الجهوري بثقة وحماس، لكن الرفيقات لم تفهم مما قرأ سوى أن ذاك الكتاب يحوي بين صفحاته أحداث حدثت لأشخاص في زمن ماضي، حوادث شنيعة وقتل لعائلات بأكملها على يد مخلوق اخضر آتى من عالم مختلف.
وأن هناك بوابة زمنية يمكن فتحها من خلال قراءة بضع سطور أشبة بالطلاسم أو تعويذة الإستحضار، وقام رجل في زمن قديم جداً بفتح تلك البوابة بالصدفة، وترتب على هذا العمل، قتل عائلته كلها وذبح أغنامه بطريقة بشعة، وحدثت حوادث إختفاء لمراهقات ورضع في ذاك الوقت حتى ظهر رجل عراف أستطاع معرفة من وراء كل تلك الجرائم
وقام هو وبعض السحرة والقساوسة بفتح البوابة وحبس المخلوق الأخضر فيها، وأنه ينتظر أن تفتح البوابة مجدداً حتى يعود وينتقم، لأنه كما كتب في تلك السطور، لم يسجن المخلوق في عالمه، بل سجنوه في عالم ما بين الأكوان، وهو سجين هناك حتى الأزلية كما أعتقد السحرة والقساوسة.
ضحكت البنات ساخرين من هذا الكلام الأسطوري، تهكموا على هذه الترهات، لكن "أريج" قالت لهم بحماس:
_لما لا نجرب يا بنات؟ هيا لنرى، هل سيظهر لنا البوجي مان الأخضر ويقوم بأختطافنا في بئر سديم، أم سيخطفنا ويعود بنا إلى عالم المهرجين خاصته.
سمران بسخرية:
_نعم، نعم، فلنجرب يا شققاتي، أنا أطلب من والدي كل عيد مولد لي أن يأخذني للملاهي، لكنه يسخر مني، حقاً أريد رؤية المهرج، أنا أريده.
ضحكت الفتيات، لكن نغم شعرت بأن الأمر ليس بمزحة على الإطلاق، لكنها لن تجرؤ على ظهور مخاوفها أو التخاذل أمام رفيقاتها كي لا يدعونها بالجبانة الخائفة.
أضطرت أن تجاريهم وتقول لنفسها سراً:
_ما أسوء ما قد يحدث على كل حال؟ أنه كتاب متهالك كتبه عجوز خرف أراد لفت الإنتباه وإلا لكنا سمعنا عه، أليس كذلك؟
أقنعت نفسها بهذا، وقاموا بقراءة تعويذة الإستحضار، لكن لم يحدث أي شئ، لم تطفئ الأضواء كما هو معهود، لم تغلق النافذة أو الباب بجنون كأن الرياح تريد أقتلاعهم من مفصلهم، لم يروا دخاناً، أو ضباب، أو حتى نسيم بارد عابر، لم يحدث شئ البته.
ضحكوا ساخرين من أنفسهم على تضييع أسابيع هباءاً، لكن فجأة، دوى صوت المدير مما جعلهم ينتفضون خوفاً ويهرعون من برج المراقبة تاركين كل شئ خلفهم.
سارت الأمور أعتيادية، لكن لم تلحظ الفتيات أن الكتاب أختفى وكل ما أحضروه بصعوبة لتنفيذ تعويذة الإستحضار، قد أختفى أيضاً، لم تسأل أحدهما ولم تفكر واحدة منهما حتى في الأمر، لكن، بدأت الكوارث تحدث تباعاً، بعد أول أربعون ليلة.
ماتت "أريج" أولاً، وجدوها مشنوقة في غرفتها بطريقة غريبة، ألتف ثوبها على رقبتها بداخل خزانة قيابها، لكن الغريب في الأمر، هو الدماء التي وجدوها تنزف من أعين وأنف ورأس الضحية.
لم يربطوا الرفيقات ما حدث لــ"أريج" بما فعلوه في برج المراقبة، لكن بعد وفاة "سيمران" بعد أربعون يوماً أخرين في حادث أخر على الطريق وأيضاً تهشمت جمجمتها بطريقة غريبة، بدأ الرعب يدب في قلوب الفتيات،
لكنهم لم يخبروا أحداً خوفاً من إتهامهم في تلك الحوادث، فضوا الصمت والرعب، تفرقت الرفيقات لكن خبر وفاة الأخرين وصل لــ"نغم"
كالصاعقة، تأكدت أن الدور سيصيبها في الأخير، قالت الحقيقة ولم يصدقها أحدهم والدليل على كذبها هو عدم العثور على أي كتاب أخضر في المدرسة كلها.
تم وضع "نغم" في مشفى الأمراض النفسية والعصبية، وبعد مرور أربعين يوماً ببضعة إيام، أخرجها والدها بعدما أخبرها الطبيب أن الفترة الزمية التي قالت بأنها ستقتل فيها قد فاتت بالفعل وهي لا تزال حية ترزق.
عادت لمنزل والدها لكنها لم تعد لطبيعتها مطلقاً، كانت دائماً شاردة، مرتعبة، خائفة، ومشوشة، تنظر حولها بأستمرار كأنها ترى مخلوقات تحلق حولها طول الوقت، أعادها والدها للمشفة وظلت فيها أشهر طويلة، حتى أستعادت عقلها نسبياً بسبب الصدمات الكهربائية التي اعرضت لها.
أيضاً قام الأطباء عدماء الضمير بأجراء التجارب السرية والممنوعة عليها، نظراً لأنها مجنونة بنظرهم ولن يصدقها أحداً أن فضحت أمرهم، لكن التجارب أتت بنفعها على "نغم"، جعلتها تفقد جزءاً من عقلها وذاكراتها، لم تعد تذكر الماضي إلا بسيطاً.
عادت لمنزل والدها من جديد، لكن ذات يوم، سمعت ضجيج أت من غرفة والدها، فتحت عيناها وإذ بها تجد المهرج الأخضر يحدق بها بعيناه المتوهجتان وهو معلق في السقف كالعنكبوت.
صرخت وركضت لخارج الفيلا وهو يطاردها حتى وقفا متواجهان وبدأ يخدش الشجرة بمخالبه الحادة، صرخت "نغم" وفقدت وعيها، بعدها عادت المشفى وظلت بها لسنوات، لكنها لم تفقد أو تستعيد ذكريتها مجدداً، بل كانت ترى ما حدث لها ولرفيقاتها زمان في المدرسة في الأحلام، وكان هناك صوت بداخلها يقول لها أن تلك ليست أحلام وأن الجوكر الأخضر، حقيقة عاشتها، قاستها، خسرت بها رفيقاتها.
لكن كالعادة، لا يصدق أحد، وأبسط شئ يقال، أن ذاك الشخص فقد عقله بسبب الصدمات التي تعرض لها، واليوم وهي في الخامسة والثلاثون، عادت الأحلام تهاجمها بشراسة وغضب حتى ظنت بأنها عادت مراهقة من جديد وتهرب طول الوقت من شبح المهرج.
ذات ليلة ماطرة، أستيقظ كل من بالبيت على صراخ مفزع أت من غرفة نغم، دخل الجميع يركض وهو غاضب، لكنهم وقفوا جميعاً مصدومين بشدة من هول ما يرونه بأعينهم.
"نغم" ملقاة على الأرض ووجهها ممزق بمخالب حادة غرزت في جلدها وتخطت اللحم حتى كسرت عظام الوجه بأكمله، ليس هذا ما أفزع الجميع، ما أرعبهم أكثر، هو حال بطن "نغم"، تم تمزيق بطنها كلياً، ولم يعثر الوالد سوى على طفلة واحدة، أما الأخرى، تم إنتزاعها من رحم أمها.
تم أختطاف صغيرة، وترك الأخرى تصارع للبقاء على قيد الحياة.
يتبع في الفصل الثاني