الفصل الثاني

غادرت "تالين" القاعة وهي مستائة جدا،وقفت بمحاذاة السور الذي في الدور الثاني من الجامعة وبقيت تنظر للطلاب في الطابق الأسفل وهي تتحدث مع نفسها قائلة في حزن:

ـ من المستحيل أن تكون محقة في كلامها.


وشعرت بـ "دينا" وهي تمسكها وتهمس في أذنيها قائلة:

ـ إنتظري هنا،سأذهب لأحضر لك شيئا لتشربيه.


بينما كانت "دينا" في طريقها إلى الكافتيريا،توقفت أمام المكتبة،وفضلت الدخول لتلقي نظرة إلى الداخل، كان هناك عدد قليل من الطلاب، وهي تتجول رأت "أدهم" يضع الكتب على الرفوف ثم راقبته حتى أنتهى وسألته:

ـ هل أنت المسؤول هنا؟


أجابها وهو يبتسم:

ـ نعم أحب الكتب كثيرا لهذا أردت أن أكون المسؤؤل هنا.


عمى الصمت قليلا أرجاء المكان فالجميع منسجم في القراءة ثم قطعت "دينا" هذا الصمت بسؤالها:

ـ ما أسمك؟..

أجابها بكل لطف وهو يلتفت إليها:

ـ "أدهم" وأنتِ؟


شعرت ببعض الخجل وهي ترد عليه:

ـ "دينا".


قال لها بمرح:

ـ إسم لطيف.


أصبح وجهها ورديا من شدة الخجل وقالت:

ـ شكرا لك.


في ذلك الوقت، كانت كل من "تالين" و "نورا" ينتظران على السور،وبعد مرور نصف ساعة على ذهابها قالت "تالين" في ضجر:

ـ لقد تأخرت.

هزت "نورا ا" رأسها وهي تقول بهدوء:

ـ صحيح، ربما بسبب الإزدحام.


فعلا لقد كان الإزدحام هائلا أمام الكافتيريا وفي وسط كل تلك الضجة وقفت "دينا" مع "أدهم" وقالت في ذهول:

ـ ما كل هذا؟

قال "أدهم" متعبا:

ـ ربما أفقدهم الجوع صوابهم.


في إحدى الطاولات الموجود في الصالة المقابلة للكافتيريا،كان هناك شابان يقفان بجانب فتاة تجلس على كرسيها وتشرب العصير بكل هدوء بينما كان
أحدهم يتكلم بكل وقاحة وهو يضع يده على يدها المبسوطة على الطاولة ويقول:

ـ ما رأيك أن نصبح أصدقاء؟


أبعدت الفتاة "سما" العصير وأرجعته على الطاولة وقالت:

ـ المعذرة، أنا لا أُصادق القذرين أمثالك يا هذا.

شعر الشاب بإحراج شديد أمام صديقه وقال في غضب:

ـ يالكى من فتاة وقحة.


وقفت "سما" وهي تحمل عصيرها ثم تظاهرت بأنها ستأخذ حقيبتها من الأرض وأسقطت الكوب من يدها عن قصد فوقع على بنطال الفتى وتلطخ منه فقال في اشمئزاز:

ـ ما الذي فعلته؟


أخفضت "سما" حاجبيها وقالت في سخرية:

ـ أنا آسفة، لم أكن أقصد.

ثم حاول مد يده عليها وبحركة سريعة رمت حقيبتها السوداء على وجهه بقوة وأسقطته على الأرض،وصمت الجميع ولم يسمع سوى صوت "سما"وهي تقول بكل ثقة:

ـ لن أسمح لك أبدا بالإقتراب مني، وإذا حاولت ذلك مجددا تأكد بأنك سوف تندم.


حرك "أدهم" شفتيه قائلا في ذهول:

ـ يالها من فتاة قوية.

ثم وجه كلامه إلى "دينا" بنفس النبرة:

ـ ألا تعتقدين ذلك؟

اتسعت عينا "دينا" وهي تقول:

ـ صحيح.

بعدها ظهرت على وجه "دينا" ملامح كمن نسي شيئا مهما وقالت في إرتباك:

ـ ياإلهي، لقد وعدت "تالين" بشراء عصير لها ولـ "نورا" لقد نسيت تماما.


في نفس تلك اللحظة رفعت "نورا ا" هاتفها النقال ونظرت إلى الساعة وتنهدت بعمق قائلة في إستياء:

ـ لقد مضت ساعة على ذهابها.

احترقت أعصاب "تالين" وضربت بيدها على السور وقالت في توتر:

ـ تبا، لم أعد أحتمل هذا.

وسمعت صوتا لطيفا بجانبها يقول في مرح:

ـ هذه العصبية لا تليق بفتاة جميلة مثلك.


أدارت "تالين" عينيها لترى من يقف بجانبها،ورأت شابا يقف في الجهة اليمنى من السور ويحدق بها بإبتسامة صافية تعلو وجهه،رفعت "تالين" عينيها وهي تقول:

ـ عفوا، لكن من أنت؟


ضحك الشاب بمرح وقال بكل إحترام منحنيا أمامهما:

ـ المعذرة , لم أعرفكما على نفسي،أنا أدعى "سيف".


لم تتمكنا "نورا" و "تالين" من سماع آخر كلماته بسبب صوت الطائرة التي مرت من فوق المبنى الجامعي،ثم نظر "سيف" للأعلى إلى تلك الطائرة وقال بصوت هادىء جدا:

ـ لقد عادت أخيرا.


وهبت نسمات هواء قوية،وحرك شعره البني اللامع ثم همست "نورا" بداخلها قائلة في تسائل:

ـ من ينتظر يا ترى؟

وحدقت بوجهه قليلا وعقدت حاجبيها ببطء وتابعت:

ـ لابد بأنه يعرف شخصاً وصل للتو إلى هذه المدينة.


بعدها بقليل رفع "سيف" يده اليمنى ورسم إبتسامة على وجهه وقال في سعادة:

ـ أراكما لاحقا يا فتيات.


أخفضت "نورا" عينيها وقالت في إعجاب:

ـ كم هو لطيف!


وفجأةً جاءت "دينا" مسرعة وهي تحمل كوبان من العصير في يدها ووقفت أمام كل من "تالين" و "نورا" ومدت يديها وهي تتنفس بصعوبة وتقول في تعب:
ـ آسفة على تأخري لقد كنت...

وسكتت حين رأت النار تشتعل في عيني "تالين" فأبتسمت "دينا" وقالت بارتباك:

ـ لم أقصد أن أتأخر عليكما،لكن هناك ما دفعني للتأخر.

عقدت "نورا" ساعديها على صدرها وقالت في تسائل:

ـ ما هو هذا الشيء؟

أجابتها وهي تفتح عصيرها:

ـ إنه موضوع طويل، دعينا نذهب إلى القاعة لنرتاح قليلا.


ثم توجهوا للقاعة المقابلة لهم، وجلست "نورا" في مكانها وقالت بإرتياح:

ـ أشعر بالتعب، هذا الجو البارد في القاعة سيجعلني أنام.

لم تمر عشر دقائق على جلوسهم ليرتاحوا إلا وسمعوا فتاة تقول بأعلى صوتها:

ـ هناك محاضرة للمستوى الأول في القاعة السادسة، هيا أسرعوا.

نهضتا "دينا" و"نورا" بسرعة ورمتا بالعصير في سلة المهملات،وقالت "دينا" موجهة كلامها لـ "تالين" التي لم تتحرك من مكانها:

ـ هيا تحركي بسرعة وإلا سنتأخر.


أكملت "تالين" آخر رشفة عصير وتنهدت قائلة:

ـ لم العجلة؟ انتظري قليلا.


حملت "دينا" أشياءها وهي تقول في عجلة:

ـ يمكنك اللحاق بنا.

ثم التفتت إلى "نورا" متابعة:

ـ هيا بنا.

بعد خروجهم بدقائق،نهضت "تالين" ببطء، وحين خرجت توقفت عن السير قائلة في توتر:

ـ يا إلهي،لا أعرف إلى أين اتجهوا؟

وتذكرت كلام الفتاة وتابعت طريقها راكضة لا تعلم مكان تلك المحاضرة.


وفي مكان آخر كانت "سما" منهمكة بالرسم مع "آدم" في الغرفة،والتقطت "سما" اللون الأبيض ووجدته قد نفذ من اللون فقالت في ضجر:

ـ لقد إنتهى اللون الأبيض.

فرمته على "آدم" وأمسكه بيده وتابعت كلامها قائلة بجفاء:

ـ إذهب لشراء واحد آخر.

شعر "آدم" بالملل وقال في تسائل:

ـ لماذا لا تذهبين أنتى؟

صرخت في وجهه قائلة في غضب:

ـ إذهب وإلا فلن أتمكن من إكمالها هيا بسرعة.

ضغط "آدم" على اللون بقبضة يده وعرف بأن "سما" منفعلة بسبب ما حدث لهذا فضل عدم الرد عليها وحمل نفسه للخارج.

ركض "آدم" في الممر الفارغ بسرعة متوجها إلى محل أدوات الرسم وهو يقول مبتسما:

ـ سوف تغضب كثيرا لو تأخرت.


من جهة أخرى ما زالت "تالين" تبحث عن المكان دون جدوى وبدأ القلق ينتابها كثيرا, وعند إحدى الزوايا اتجهت إلى الجهة اليسرى واصطدم بها "آدم" بقوة لأنه كان يركض ووقع فوقها، سقطت "تالين" على رأسها مما أفقدها وعيها بينما أصيب "آدم" بخدش في كتفه الأيمن وحين نهض
ورأى "تالين" أصيب بالذعر ووضع يده على كتفها وهزها وهو يرتجف قائلا في قلق:

ـ يا آنسة،هل أنتى بخير؟


فتحت "تالين" عينيها قليلا ولم تدرك ما هي عليه، وكان صوت نبضات قلبها يتردد في أذنها مع ألم في رأسها، لم تتمكن "تالين" من رؤية "آدم" بوضوح لأنها لم تستعد وعيها تماما، قام "آدم" بحملها بين ذراعيه فآلمه كتفه لكنه تحمل ليأخذها إلى الطبيب.

توترت "دينا" كثيراً أثناء المحاضرة وهي تضرب بقدمها على الأرض وتتسائل في نفسها:

ـ ما الذي تفعله تلك الغبية حتى الآن؟

إنتهى الطبيب من معاينة "تالين" ثم جلس على كرسي مكتبه،وسأله "آدم" عن حالتها فأجابه قائلا في اطمئنان:

ـ إنها بخير، لقد أغمي عليها بسبب الصدمة فقط،لا داعي للقلق.

شعر "آدم" بالارتياح ووضع يده على صدره قائلا:

ـ الحمدلله،لقد كاد قلبي يتوقف.

ثم جلس بجانبها ووضع يديها بين كفيه وقال بحزن شديد:

ـ أنا آسف.

هبطت الطائرة على مطار تلك المدينة، ونزل الركاب وارتسمت على وجههم علامات التعب والإرهاق، وفي صالة المطار الكبيرة،كان هناك شاب يسحب الحقيبة على الأرض ويسير بجانب فتاة أكبر منه سنا،وتوقفت عن السير فجأة وقالت بسعادة:

ـ وصلت أخيرا،لقد إشتقت إلى هذه المدينة كثيرا.

قال لها شقيقها الذي يسير بجانبها في تعب:

ـ ما دمتى بكل هذا النشاط، لماذا لا تقومين بحمل الحقيبة بدلا عني؟

إلتفتت "ملك" إليه وقالت بإبتسامة صافية:

ـ حمل الحقائب تعتبر رياضة جيدة لك، أنا متعبة وأريد أن أصل للمنزل لكي أنام.


جثم شقيقها على ركبتيه وقال في إرهاق شديد:

ـ يالكى من فتاة كسولة.

بعدها قام بإيقاف سيارة أجرة وركب فيها مع "ملك" وبعد مرور بضع الوقت وصلوا إلى المنزل،اتجهت "ملك" إلى غرفتها بأسرع مما يمكن ورمت بجسدها على السرير وقالت بسعادة:

ـ كم هذا مريح!

لم تتمكن "ملك" من تغيير ملابسها،لأنها غطت في نوم عميق ولم تشعر بشيء من شدة التعب.

في الجامعة، تخيلت "تالين" أشياء غريبة وهي نائمة، وخيل إليها بأنها تسمع صوتا مألوفا يعتذر إليها بحرارة وتوسل
فقالت في داخل نفسها:

ـ صوت من هذا؟

وفتحت عينيها ببطء،ورأت "آدم" يمسك بيدها، فاتسعت عيناها وأبعدت يدها عن قبضته بسرعة، فاندهش ثم ابتسم
بإرتياح وقال:

ـ حمدلله على سلامتك.

سألته "تالين" في حيرة:

ـ ما الذي حدث؟

أجابها "آدم" بكل لطف:

ـ لقد إصطدمت بكى فجأة،وسقطتى على الأرض ثم قمت بحملك إلى هنا، أنا آسف لما حدث.


ارتبكت "تالين" كثيرا وهي تتحدث إليه:

ـ لا داعي للإعتذار،لم يحدث شيء.

ثم تابعت محدثة نفسها في سعادة غامرة:

ـ تمكنت من رؤيته أخيرا، لا أصدق بأنه يجلس بجانبي في هذه اللحظة.

وقطع انسجامها صوت تساؤله وهو يقول:

ـ لم أتمكن من معرفة اسمك، هل يمكنك أن...

قاطعته قائلة في سرعة:

ـ "تالين" إسمي "تالين".

إبتسم في وجهها قائلا بإعجاب:

ـ إسم جميل.

أحست "تالين" بقليل من الخجل وقالت:

ـ شكرا لك.


عند كل دقيقة تمر،يزداد توتر "دينا" وقلقها عليها ولم يتبقى سؤال إلا وخطر في ذهنها، ولم تطمئن حتى سمعت المعلم يعلن عن انتهاء وقت المحاضرة فانطلقت من مكانها بسرعة من دون أن تخبر "نورا" إلى أين ستذهب.


اتجهت "دينا" إلى المكان الذي كانت تجلس فيه مع "تالين" لكنها لم تجد أي أثر لأغراضها وركضت عبر الممرات ويدور في ذهنها سؤال واحد:

ـ أين ذهبت؟


في تلك الأثناء، كان "سيف" يقف في إحدى زوايا الطابق السفلي، وأخرج هاتفه من جيبه وحدد على رقم "ملك" وضغط طلب إتصال، رن هاتف "ملك" وهو داخل حقيبتها، وهي تغط في النوم,، وتخيلت بأنها تسمع صوت الرنين وحركت ذراعها وأسقطت الحقيبة على الأرض
من دون أن تشعر وتابعت نومها، تنهد "سيف" في يأس وأغلق الهاتف قائلا:

ـ لابد بأنها متعبة جدا،ولم تتمكن من الرد.


فجأة رأت "دينا" بالمصادفة "تالين" تخرج مع "آدم" من إحدى الغرف واتجهت نحوهما،قالت "تالين" بهدوء:

ـ أشكرك على إهتمامك بي.

هز "آدم" رأسه نفيا وهو يقول:

ـ لا داعي للشكر.

ثم سمعا صوت "دينا" تقول وهي تتنفس بصعوبة:

ـ وجدتك اخيرا, أين كنتى؟

أجابتها "تالين" في أسف:

ـ المعذرة، لقد حدثت أمور كثيرة،سأطلعك عليها لاحقا.

إقترب "آدم" من "دينا" وانحنى قائلا:

ـ أرجوا المعذرة، أنا السبب فيما حدث، أرجوكى إعتني بها.


رمت "سما" فرشاة التلوين على الطاولة بقوة، وعضت شفتيها قائلة في ضيق:

ـ ياله من شخص عديم الفائدة.

وخرجت من الغرفة في الوقت الذي كان فيه "آدم" عائدا إلى هناك، ورأته بالصدفة وقالت بصوت غاضب:

ـ ما الذي كنت تفعله طوال الوقت؟

بدا وجه "آدم" شاحباً وهو يقول بصوت منخفض:

ـ أنا آسف "سما".


ثم حركت عينيها ونظرت إلى الجرح الذي بكتفه فأمسكت بيده وجرته إلى الداخل،وهو مندهش من تصرفها الغريب، واجلسته على الكرسي وقالت بلطف وهي تبتسم في وجهه:

ـ سأعالج جرحك، أبقى في مكانك ريثما أعود.


وضع "آدم" يده على كتفه المصاب وأغمض عينيه مبتسما بإرتياح.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي