3تميمة

عاد من ذاكرياته وهو يوقف سيارته أمام المنزل الذي باتت السماء تهدلا أمطارها عليه هو فقط، فعلم أن جدته تفعل شيئاً ما بالداخل،ليدلف عليها هاتفاً.

-ماذا تفعلين أيتها العجوز؟

- ها قد حضرت لما تأخرت يا غلام؟

- أصبح عمري خمسة وعشرون عاماً، وما زلت تناديني بغلام، متى ترضين عني وأكبر في نظرك يا جدتي.

إدارات وجهها له مبتسمة ثم عادت بنظرها إلى هذا الكتاب وقالت:

- سأصمت عنها عندما ينقطع زميلك وتصغر أذنيك أيها الفأر الكبير.

لم يعي لما تقول، إلا بعد أن جحظت عينه وارتاب في كلمتها، فهب واقفاً ينظر في المرأة حتى يطمئن على نفسه ليصرخ بفزع.

- أيتها العجوز الشمطاء ماذا فعلتي بي، أتحوليني إلى فأر وبعمري هذا يا لعنتي يا لعنه أضنة بأكملها؛ أعيدي هيئتي كما كانت في الحال.

مازلت غاضباً وغليظ الطباع يا فتى، أتعلم أنا أجلس هكذا منذ أن غادرت إلى عملك في الصباح،

اقرأ التعاويذ وأحضر أسحاري، أمطرت السماء فوق بيتنا كل هذا من أجل أن أضحك اليوم.

- كل هذا من أجل أن تضحكي!

فعلا انه شيئاً مهم للغاية تضحكين، ومن بالطبع سيكون سبب ضحكك غيري أنا،

فأر التجارب الذي تجرين عليه كل تجاربك يا جدتي العزيزة،

أقسم بربي إن لم تمحي ذلك الذيل وتعيديني إلى هيئتي سأمزق لكي كل هذه الكتب بيدي.

غضبت الجدة من تصريحه وهمت بالذهاب إلى غرفتها وهي تزجره بشدة.

- تتحداني أيها الفأر الكبير، إذا وأنا قبلت التحدي فلتمزقهم كما تشاء، أو تدعني اصعد إلى غرفتي أنعم ببعض الراحة وعليك أن تنتظرني حتى أفيق في الصباح.

- لا لن تبرحي مكانك حتى تعديني كما كنت، بربك جدتي لا تتركيني هكذا.

بضحكات متتالية أجابته وهي صاعدة:

- اقضي ليلتك هكذا وغداً سأعيدك إلى حالتك الطبيعية، والآن عليك بالهدوء وعدم إزعاجي أيها الفأر الوسيم، تصبح على خير يا غلامي.

-(ريا) أيتها اللعينة، اتتركيني لجنوني هذا وتذهبين للنوم.

- قولت لك إهداء ولا تغضب وإلا سأزيد من عقابك وأطيل المدة، ولا تنسى أن تأكل طعامك يا فأر.

ليستمع إلى صوت بابها ينغلق، وها هي قد تركته وبقي وحيداً مع كتابها المسحور،

سريعاً ما جرى نحوه وقرر أن يتفقده حتى يزيل تلك اللعنة عنه وهو يحدث نفسه،

- أخ يا جدتي لكم أردت أن أحرق تلك الكتب حتى تكفي عن اللهو بي هكذا، حسناً سأمحي سخريتك هذه من عليا بنفسي.

فتح الكتاب وبدء يقلب في صفحاته، لكن دون فائدة لم يفقه منه شيئاً،

قذفه من يده على الطاولة وجلس على مقعد جدته بضجر يحاول التفكير.

- آه يا ربي ماذا أفعل الآن بهذا الزميل، كيف لي أن أسهر مع رفاقي بأذني الطويلة هذه.

ليلمح بطرف عينه شيئاً يلمع يتدلى من بين طيات الكتاب،

إنها تميمة!

حاول اجتذابها لكن على ما يبدو أن شيئا عالقا بها
ليشدها مرة واحدة وستفاجئ بما رأست عينيه.

-من أنتي؟ ومن أين أتيتي ، لا تقولي لي إنك انتزعت من الورق.

- على مهلك يا صاح أنا اسمي (أرمينيا) وأنت بالفعل أخرجتني من الكتاب.

- ماذا لا بد وأنك معتوهة من المساكين الذين يأتون إلى جدتي.

ليفكر قليلا ويعود إليها قائلا:

- مؤكد أنك كنتي مختفية أسفل الطاولة، وعلقت تميمة قلادتك بالكتاب.

- نظرت إليه ثم التفتت إلى تلك الطاولة الصغيرة وهتفت مشيرة على نفسها:

- أنا بحجمي هذا اختفى تحت هذه الطاولة ضئيلة الحجم، هل أنت مختل عقلي يا هذا؟

رمقها من أعلى رأسها إلى أخمص أصابع قدميها.

- أظن أنها تكفي لكي تختفي تحتها يا صغيرة فمازلت طفلة، ويمكنك الاختباء أسفلها.

تعجبت مما يقول وزمجرت قائلة:

- عمري ثمانمائة وثلاثة وعشرون عام وتناديني بطفلة!

-ماذا أتهذين يا فتاة، لا يمكن أن يكون هذا عمرك، لا يوجد إنسان على وجه الأرض يملك مثل هذا العمر، هيا ارحلي من هنا أيتها الكاذبة.

تعجبت هي مما قاله وبدالته بنفس النظرة عندما وقف من مقعده ورأت هيئته.

- لكن أنا لست من بني الإنسان، وأظن أنك كذلك.

توقف عن السير ملتفتاً لها سائلا.

- ماذا تقصدين يا فتاة، ماذا تعني بقولك إني لست انسي.

- أعني هيئتك يا صاح، فأنا على حد علمي أن الإنس ليست إذنهم طويلة أو لهم ذيل طويل هكذا مثلنا.

في هذه اللحظة تمعن النظر منها ثم أيقن أنها بنفس الهيئة التي حولته إليها جدته.

- أنت لست إنسانة! بالفعل خرجت من بين طيات الكتاب..

إذا كنتي لست إنسانة فماذا تكوني؟

- كيف لا تعرف ماذا أكون وأنت مثلي؟-

أنا لست مثلك، انظري يا فتاة أنا ضحية لعنه تعويذة قد ألقتها علي الملعونة جدتي من هذا الكتاب، أما أنتي  فماذا تكوني؟

- قولت لك اسمي (أرمينيا) وأنا فتاة (من معشر بني القزامة )

وأنت من جذبتني من مكاني وأتيت بي إلى هنا وعليك أن تساعدني الآن.

-ومن يكونوا يا ترى معشر بني القزامة هؤلاء؟

- كيف لا تعرفنا نحن قبيلة من قبائل الجان.

اعتلي جانب شفاه ساخراً.

- وكيف أساعدك يا ترى وأنا لا أقوى على مساعدة نفسي، أنا لست من عشيرتك ورغم ذلك أصبحت مثلك ولا أقوى على إعادة جسدي إلى حالته.

وقف من على مقعده وقرر الصعود إلى غرفته غير مبالي بها.

-هيا اذهبي من هنا فأنا لا ينقصني متاعب ولا أقوى على مساعدتك.

وحين وقف أمامها ورأت طوله شهقت مفزعة

-هذا أنت!

بحركة لا إرادية التفت إليها، وبضمة حاجبيه سألها.

- أنا من! تشبهين علي يا فتاة.

- أنت هو ملكنا الملك ارمين المفقود.

تعجب من هرائها وأشار إلى نفسه.

- أنا الملك ارمين، ومفقود أيضاً، قولت لكي اذهبي من هنا أيتها القزمة هيا عودي من حيث جئت.

صعد إلى غرفته سريعاً وهي تعدو من خلفه حتى تلحق به

- أنا لست بقزمة، قولت لك اسمي ( أرمينيا) وأنت مليكي الملك (ارمين).

دلف إلى داخل غرفته ووقف على بابها ليمنعها من الدخول.

- وأنا قولت لكي أنني أدعى( أوان) ولست ملكاً كما تهزين أنت.

ليدفع الباب بكل قوته في وجهها ويستدير للداخل وهو يهذي

.-وكأن ما كان ينقصني الآن هو لقاء مع جنية من بني الأقزام.

- بني القزامة وليس الأقزام يا صاح.

شهق بفزع متفاجئا وهو يراها تتمدد على الفراش تضع قدماً فوق الأخرى وتمسك ذيلها الطويل تعبث به بين يديها.

- كيف ولجت إلى هنا وأنا قد أغلقت الباب بوجهك للتو.

- أنا لا يهمني أي باب، نحن القزامة نخترق البواب الموصودة يا مليكي.

- لا تناديني بتلك الكلمة مرة أخرى، واخرجي من رأسك الصغير هذا تلك الهراءات،

ثم اسمعي جيداً إلى ما أقول بأذنيك الكبيرة هذه،

أنا لست مثلك ولا تمتني أي صلة ببني جنسك هذا.

- إذاً عليك أن تعيدني إلى بني جنسي كما أخذتني من بينهم.

نفد صبره من تلك المتطفلة الصغيرة وصاح بعلو صوته وهو يضرب بقدمه أرجل الفراش.

- ريا يا جدتي أنت تنامي بسلام وتتركيني أنا لمتاعبك.
فتح الباب بقوة مهرولا نحو غرفة جدته يدق بابها بعنف وهي تلاحقه تكاد تلتصق به.

- استيقيظي في التو يا لعنه أضنة ، عليك أن تخلصيني من سحرك اللعين الآن.

بصوت متحشرج يملؤه النعاس أتته الإجابة دون أن تفتح له.

- أنت الآن تؤرقني في نومي يا غلامي وعليا أن أعاقبك، إذا فالتعلم أنني قد أطالت المدة إلى يومين آخرين يا أبا ذيل.

- آه يل سخرية القدر، وها أنا قد حصلت على لقب جديد، الآن ماذا عليا أن أفعل بهذه البلوى التي تلتصق بظهري.

- أعدني إلى عشيرتي.

هكذا كان ردها، ليستدير هو إليها ويزجها أمامه بهمجية:

- لما لا تذهبين أنت وعشيرتك إلى الجحيم وتريحني مما أنا فيه، هيا تحركي أمامي لنرى أن كنت سأقوي على أعادتك أم لا.

ترجل بها للأسفل وتقدم من ذلك الكتاب وهو ما زال محتجز يدها في قبضته، ليتركها وينحني على الطاولة فتح الكتاب ثم اعتدل قائلا:

- هيا تفضلي اذهبي من حيث جئت.

.-حسناً سأذهب لكن عليا أن اترك لك شيئاً تتذكرني به.

- لا أريد منكِ شيء فقط ارحلي عني.

أزاحت قلادتها من حول عنقه، وفتحت قبضته المغلقة ووضعتها بها ثم أغلقتها ونظرت إليه بابتسامة:

-عندما أعود هذه ستذكرك بي يا مليكي.

صعدت على تلك الطاولة ووقفت على إحدى صفحات الكتاب التي فتحها على صورة طريق ممتتد بين أراض مغطاة بالحشائش،

لتقفز بقدميها فتنشق الصورة وتسقط علي الطريق. ومن داخل الصورة أرسلت بيدها له سلاماً،

ليري الحروف تسطر أسفلها بكلمات بسيطة وكأنها تحدثه.

- إلى أن نلتقي يا مليكي (ارمين) .

اغلق الكتاب بيده مردداً:

- لا لقاء لنا مرة أخرى (أرمينيا) ، حمد لله أنك عودتي إلى عشيرتك وتخلصت منك،

الآن سأذهب لأخلد إلى نوم هادئ وفي الصباح سأجبر جدتي أن تعيدني إلى هيئتي الطبيعية وبعدها سوف أحرق هذا الكتاب بيدي وتنتهي قصتك للأبد.

صعد إلى غرفته ليغفو وهو يطبق بيده على تلك التميمة التي تركتها له،

وفي الصباح استيقظ مبكراً كعادته وشرع في عمل روتينه اليومي ووقف يرتدي حُلته الرسمية،

ليعوق ارتدائه لسروال حلته هذا الذيل الذي ذكره بما هو فيه
فذهب إلى جدته مزمجراً:

- أظن أن صباح اليوم الثاني قد آتي، هيا خلصيني من هذا الذيل ولا تسخري مني بتعويذاتك التافهة مرة أخرى.

لم تجبه ولم ترفع عيناها عن صفحة هذا الكتاب، ليشك في أمرها ويظن أنه قد حدث لها شيء فركع على إحدى ركبتيه أمامها وهزها هزة خفيفة.

- جدتي (ريا) هل أنت بخير؟

- انظر (أوان) أنت هنا!

أشارت بسباتها اليمني على إحدى صفحات الكتاب، لينظر هو على ما تشير ويرى صورته لكن بزي غريب وتاج فوق رأسه.

- هذا أنا لم تكن تكذب (أرمينيا) إذاً.

- (أرمينيا) ! من تكون تلك الفتاة؟

- هذه ما كنت أدق الباب أمس عليك من أجلها وأنت لم تفتحي لي وتريها مثلما رأيتها أنا.

- أراها! آه تقصد أن أراها في صور الكتاب، نعم لقد رأيتها وقرأت عنها في الكتاب.

- لا أقصد ذلك أقصد أنك كنتي ستريها بنفسها هنا في البيت.

- ماذا تقول؟ هل جننت ام ان تعويذتي قد أصرت على جسدك وعقلك لتتجسد شخصية أحدهم.

امسك الكتاب بإحدى يده ونظر الي صورته وكأنه ينظر إلى مرأته.

- لا يا جدتي انا لم اجن ولم اتجسد شخصية اي أحد ولا انا الملك (ارمين) كما لقبتني (أرمينيا) .

- تتحدث عنها وكأنك قابلتها بالفعل.

- اقسم لكي انني اخرجتها من بين طيات الكتاب، جذبتها من تميمة قلادتها.

ليتذكر تلك التميمة ويهتف وهو يصعد الدرج سريعاً.

- انتظري سأؤكد لكي صدق كلامي.

جلبها وحضر امامها في غضون لحظات باسط يده لها بها لتراها امام أعينها

- انظري هذه قلادتها تركتها لي أمس قبل أن تقفز داخل هذه الصورة.

اخذت من يده القلادة وقلبتها بين يدها ثم اخذت الكتاب منه وسريعاً ما بدأت تطوي صفحاته تبحث عن شيئاً ما وهي تلومه.

-لما تركتني نائمه، لماذا لم تقتحم عليا الغرفة كعادتك؟

- حتى لا تطيلي مدة عقابي، وترحمينني من هذا الذيل وهذه الأذن الطويلة.

- انت لا تفهم شيئاً تلك الجنية قد مستك بلعنتها ولن تتركك بحالك يا بني.

وقف مندهشاً مما تتفوه به، وإذا به يصيح.

- عن أيتها لعنه تتحدثين، تعرفين يا جدتي أنك لعنتي الوحيدة بل أنت لعنة اضنة بأكملها.

- كفى هراء يا غلام وانصت الي جيداً؛ سأقراء عليك الآن بعض الكلمات لأرجعك الي هيئتك،

وإن حدثا لك اي تغيرات او عودت الي هيئتك هذه، فاعلم انني ليس لي شأن بذلك.

- ليس لكي شأن بذلك، الا تلاحظين انكي أنت من تسببت في ايقاعي بهذا المأزق، من التي أتت بهذا الكتاب الي هنا،

من التي تبليني دائماً بأسحارها وتعويذاتها الفاشلة أليست أنت يا جدتي.
-قولت لك انتظر قليلا.

وضعت يدها على رأسه، وقرأت عليه بعض الكلمات لتبدء تلك التغيرات ان تتلاشى ويعود هو كما كان.

وبعد ذلك وقف معتدلا يهندم ملابسه وهو يهتف بلا مبالاه.

-وأخيراً رحمني الله من تعويذتك أيتها العجوز الخرفاء، سأذهب الآن الى عملي وأنت فالتحرقي ذلك الكتاب.

سخرت من كلمته قائلة.

- هذا الكتاب لا يحترق يا صغيري، لأن من صنعه مخلوقٌ من نار احذر انت على نفسك يا غلامي، وإذا شعرت بأي تغير عود الي في التو واللحظة.

اشاح لها بظهر يده واخذ تميمته من بين اشياءه واستعد للرحيل بلا مبالاه وهو يسخر منها.

- عجوز خرفاء.

اغلق باب البيت واتجه نحو سيارته ملقياً خلف ظهره كل تخاريف جدته، وعندما جلس خلف عجلة القيادة وشرع في وضع المفتاح في مكانه

لكنه توقف و اخذ يتأمل القلادة بتميمتها البلورية زات الألوان المزرقشة التي تسحر العين،

اعجبته تلك القلادة حقاً، وكأن ما قالته له جدته قد محي من ذاكرته بمحاية ليحدث نفسه قائلاً:

- هذه القلادة جميلة جداً وتميمتها براقه، يبدو أنها تميمة مسحورة سأرتديها لتجلب لي الحظ وسأتفأل بها.

ليرتديها ويتأهب للذهاب سريعاً بسيارته إلى عمله. لكنه لف القلادة حول عنقه وحمل معها عتق بغيض نغز في قلبه بطريقة غريبة، ليباشر عمله طيلة يومه وهو يتسأل.

- ماذا يحدث لي؟ انا لا أشعر بالراحة هناك شئ يضيق صدري، على أن أنهي كل أعمالي سريعاً واذهب الي جدتي لربما تكون هذه العجوز رايا قد قرأت تعويذة لتأرقني بها طيلة اليوم.

وعندما عاد إليها وجدها منهمكة في قراءة كتاب جديد.

- ماذا تقرئين حذار أن يكون هذا كتاب جديد، أياكي أن تقرئي أي شيء عليا اليوم فأنا أشعر بضيق ولا أريد ما يزهق عقلي يكفيني أنكى من تسببتي به يا جدتي.

رفعت عيناها عن الكتاب لترمقه من أعلى رأسه إلى أسفل قدميه ثم ضحكت وقالت له.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي