الفصل الأول
(الفصل الاول)
مازلت أتذكر هذا اليوم جيداً، اليوم الذي كان السبب في تغيير حياتي وتحويلي إلي الأفضل.
كانت الساعة في مقربة الثانية بعد منتصف الليل، وعادت هي إلي المنزل تترنح كعادتها في الأيام الأخيرة، هي إمرأه في عقدها الرابع، وبالرغم من أنوثتها المتفجرة بذلك الفستان الأحمر الذي يظهر اكثر مما يخفي، ولكن هناك بعض التجاعيد علي رقبتها أثر تقدمها في العمر.
وكان هو بجانبها يتسلي بمالها في الملاهي الليلية.
هذا ما أدركتُهُ بعد سنين، وحمدت ربي علي قدري الذي كنت اظنه بغبائي سيء، كان يقف بمنتهي الثقة كان يعرف جيداً كيف يسيطر عليها فقط في عمره الخامسة والعشرون كان يعي كل خطوه يسير نحوها، ما الذي يريد؟! وماذا يفعل ليحصل عليه؟! أما هي فلا.
كان يحتضنها في سكينة وهدوء حتي مررت أنا بجانبهم، وكان الظلام حالكاً عدا من نافذة زجاجية يدخل منها شعاع من النور، كنت معتادة علي الجلوس في الظلام في الفترة الأخيرة، ضغط على زر الإضاءة كحركة تلقائية منه عندما وجدوا شيء يتحرك بجانبهم فاشعل أضاءت المنزل بأكملها، فصرخت علي توبخني قائله:
-أخبرتكِ لكِ إلا تتسللي هكذا مثل الأشباح في الظلمات تفزعينني حقاً، خاصه بهذا الشعر المجعد والمتطاير، وما بال ملابسك المتسخة؛ أظنكِ لم تغيريها منذ شهور، أشعر بأن الحياة قد سلبت منكي.
نظرت لها؛ وقلت:
-الحياه وهم؛ ولا وجود للعالم فهو شيء خيالي وجد فقط في أذهان الموتى امثالنا.
-لقد جُننتي.
صمتت قليلاً ونظرت له بعد أن كانت تنظر إلي الأرض وكان هو ينظر إليها ممسكاً قلمه وعدة أوراق في صمت اعتقدها تفكر ماذا ستقول؟! فقد مر علي صمتها طويلا وكان يفكر في مدة المعاناة التي تعرضت لها لتصل لذلك.
أخرجته من شروده قائله:
- سأتحدث هكذا طوال اليوم ؟! لقد تعبت كثيراً ومللت ايضا.
رمقها بنظرة من خلف نظارته الطبية فنظرت إلى كفيها التي كانت تفرقهما بشدة ثم نظرت له بعينين دامعتين؛ كانت لاتزال براءة الأطفال علي وجهها
فقال لها:
- تمضي سوي ثلاث دقائق، أعلم أن هذا مرهق ولكن يجب أن نتحدث هكذا لفترة أطول وهذا في مصلحتكٍ أتريدي أن تعودي لجلسات الصدمات الكهربائية مرة أخري؟!
نظر اليها بإهتمام في انتظار رد منها حتي هزت رأسها نافيه؛ فاردف:
-اذن هيا لتستعيد ذكرياتك ونخرجها من عقلك تمام لكي تستريحي من أوجاعكِ؛ ومع ذلك أن تعبت يمكننا أن نتوقف قليلا لتستريحي مدة عشر دقائق.
حينها لم تعطيني جوابا شافيا غير صمتها الذي اتخذته موافقه علي عرضي، هممت انا بالمغادرة ولكنها لم تتركني أذهب فقد صرخت علي قائله:
-لا تذهب.
فنظرت لها بغير تفهم وكانت التساؤلات تملأ وجهي فقالت لي، وكأنها لا تريدني أن أسالها بشيء:
- في النهار، وأنا أخشاه كثيراً.
- تقولي؟! هل يخشي احد النهار؟! لكن ماذا سيحدث لكي أن حل بكي الليل؟!
- ليس من المفترض أن يخشي أحد الليل بظلامه فيه الهدوء الراحة ولكن في النهار يكون عليك أعيونا الناس وتساؤلاتهم بلا شفقة أو رحمة ستجد إنتقادهم لك دون أن تشركهم أنت في حياتك، اقسم لك أن الظلام أهون عليك منهم.
مطت شفتاي ثم جلست ثانيه وقد لفتت نظري تلك الطريقة التي تتحدث بها؛ وكأن موضوع الليل والنهار كان شاغلها اعواما فخطر ببالي حل لذلك فقلت لها:
-وجهه نظر تحترم؛ إذا ستقصي علي حتي تتعبي ثم ابدا انا برواية قصتي حتي اتعب وهكذا حتي يصبح النهار فيسكن في قلبك السكينة والطمأنينة بدخول الليل، ما رايك؟!
-وهل تمتلك قصه؟!
- منا لا يمتلك واحدة، فيها من الحزن والفرح جنبا الي جنب، يشارك كل منهما الآخر في كل تفاصيل حياتك لينسجا معا بطريقة ما، ويخلقا قصة لشخص ما تختلف عن تلك التي تسبقها فهذه سنة الحياه.
نظرت اليها أتأمل وجهها، انتظر فقط جملة واحدة حتي أطلقتها من بين شفتيها:
-موافقة.
اسمي أمير سيد الشرقاوي، عائله أبي من العائلات الكبيرة والمشهورة أيضاً في الشرقية؛ كان لأبي أب ظالماً قرر بعد وفات جدتي الفترة التي سبقت وفاته بقليل أن يقتسم أملاكه في الشرقية بين عمي وعمتي؛ كانت عمتي هي أكبر أبنائه ومات قبل أن يطمئن عليها مع زوج لها؛ أما عمي فكان الأصغر سنن وكان ضريراً منذ ولادته ولهذا أشفق عليهم جدي؛ ولم يكتب لأبي سوى بيت هنا في القاهرة وما حفزه علي ذلك ان أبي كان أكثرهم ذكاء؛ وبعد فترة من وفاه جدي لم أذكر منها شيء سوى ما حكي لي ..
قررنا الإنتقال إلي هنا وعلي حسب كلام أمي عشنا حياة صعبة في بداية مشوارنا في القاهرة؛ كان منزلنا عبارة عن جدران لا أثاث ولاسجاد ولاستائر فقد جئنا من المنصوره بملابسنا فقط، كان أبي يعمل دوامين في النهار، وعملت أمي أثناء دوام أبي الأول، حتي بدأوا في جمع الاموال وبدأوا في شراء أثاث للمنزل، وقام بفتح دكان اسفل منزلنا اصبحت أمي تجلس فيها حتي عودت أبي من العمل ليجلس هو فيها؛ وتدريجيا تناسي أبي أن له أخوه في الشرقية.
أما نحن فقد مرت علينا طفوله مبتوره الفرحه لا العاب ولا انشطه لتنميه الذكاء ولا حلويات كباقي الأطفال في عمرنا، ولقد من الله علي أبي بأطفال نضج فقد فهمنا ما نمر بيه من حياه قاسيه وتاقلمنا علي التقشف، ولكن عندما فتحها الله علي والدي لم يبخل علينا أنا وأختي ابداً وحاول تعويضنا بشتي الطرالطرق.
- يا أدهم لقد أنقذتني اليوم، عندما اتصلت بي أثناء دوامي في المستشفى.
- دائما منقذك يا أمير أعترف قليلاّ، ولكن الأهم الآن من ماذا أنقذتك؟!
-منها!
-اتقصد تلك الفتاه التي تقوم بعلاجها في المستشفي.
- أخبرك عنها؟!
- أنك تفقد الذاكرة كثيراً في تلك الأيام، أنت من أخبرتني عنها أيها المغفل تقريبا منذ اسبوع عندما قلت لي سأخبرك عن فتاه رائعة، ومريضه في المستشفى؛ أين عقلك يا رجل؟!
-أخذته هي مني ورحلت.
صمت لبرهه كأنه يتذكر شيئا ما، ثم قال:
- أريدها أن تشفي سريعاً فهذا المرض شديد الخطورة، أفعل كل ما بوسعي لذلك صدقني.
مر دقائق من الصمت الثقيل، علم فيها أدهم أن أمير منزعج جداً لم تكن هذه هي الحالة الأولي لأمير، ولكنها الأولي لأدهم الذي تأثر فيها بطريقه أمير.
كان امير منشغل فالمستشفي منذ استلامه هذه الحاله ولم يكن لديه الوقت أن يجلسا ويتحدثا، كل وقته كان ينصب في رساله الدكتوراه.
صمت أدهم هو الآخر، أرد أن يجعل أمير يتحدث أكثر ليزيح عن قلبه كل تلك الغمه، ثم اردف أمير بمراره وعجز:
-أتعلم! أريد أن يأتي النهار سريعاً، أريد أن أذهب اليها، لأعلم من هذا القاسي الذي أوصل بها الحال لذلك من الذي أرادت حياه الموت لأجله.
-هل حياه هو اسمها؟!
- نعم؛ حياه كامل مسعد.
- كامل مسعد رجل الأعمال المشهور الذي توفي منذ شهور؟!
- أعلم بالضبط، لكن ممكن لما لا!
- يا لها من صدفه، ومن معه كل تلك الاموال لما يحزن ويكتئب؟! لما؟!
قطع امير كلامه، قائلا:
-الحياه ليست عباره عن نقود وأموال فقط، إن لم تجد أحد بجانبك يمسح لك دمعك وأنت تبكي، ويمسح علي ظهرك وأنت حزين، وتشتركان في الضحك، وقتها ستعلم إن الأموال مجرد أوراق لا قيمه لها.
-أنا أخالفك الرأي، أنا سأمسح علي دمع نفسي، وأمسح علي ظهر نفسي، وسأتشارك الضحك مع الأموال، ووقتها سأعلم إن لا قيمه للبشر.
- هي الطبيعة البشرية، يعتقد أن راحته فيما لا يملك، ولكنه يتناسى أن راحته تكمن في الرضا، الرضا بما يملك.
- تسيئ فهمي يا أمير أنا راضي تمام، ولكن سأرضي أكثر إن أسرعت قيادتك تلك فأنا اتضور جوعا.
وصل إلي المنزل في منتصف الليل ودخل علي غرفته مباشرة وبعد أن غير ملابسه جلس علي مكتبة الغرفة وقام بفتح أحد الإدراج من المكتب وأخرج دفتر كبير وضعه أمامه كان الدفتر له غلاف سميك ويتجاوز عدد صفحاته الالف، ولكنها جميعها خاليه.
كان داخله يموج بالأفكار والكلمات والحروف تتهاوي امام عينه لا يعرف بماذا يبدأ؟!
حاول ترتيب أفكاره وصفهم جمب بعضهم البعض حتي يعرف من أين سيبدأ الكتابه ؟!
ماذا يكتب في تلك السطور الخاوية كانت مخاوفه كبيره جعلت عقله يرسل عليه جمل الإحباط كانت الأسئلة تعجزه عن الرد ماذا لو لم يستطع؟! ماذا لو اخفق؟! ماذا لو تعسر؟! ماذات كثيره تحيطه والأجابات ذهبت أدراج الرياح.
كان يريد رساله الدكتوراه له في نفس مستوي رساله الماجستير الذي قدمها منذ شهور ....
كان لا يدري كيف سيفعلها فهذا امر صعب؟!
ولكنه كان يعتقد ذلك أيضا في رساله الماجستير ولكنها مرت بسلام وبتقدير امتياز أيضاً.
كانت يده ترتجف قبل الإقبال علي ذلك الأمر، كما كانت تفعل دائما مع الإقبال علي كل شيء جديد ومهم بالنسبة له، هذا بسبب له التوتر الزائد الذي يحمله تجاه فعله لذلك الشي.
هز راسه بقوه، كمحاوله منه لنفض كل تلك الافكار السلبية التي تحاوطه حاول تهدأت نفسه.
" وقال بصوت مسموع : معني انني وجدت موضوع رسالتي ووجدت مريض لذلك المرض الذي سأشخص عليه الحالة هذا يعني أنني سأنجح بأذن الله ".
في صباح اليوم التالي، ذهب إليها في المستشفي ودخل عليها الغرفة، ولكنه لم يجدها فطرق عليها باب الحمام فلم يسمع جوابا فخرج مسرعاً، وقد ارتسمت علي وجهه لوحه بديعه من القلق والتوتر، سأل أحد الممرضات، قائلاً:
- أين ذهبت المريضة ` غرفه ١٠٥ ` ؟!
لكنه لم يجد رد شافيا غير بعض علامات الأستفهام علي وجهها، فذهب إلي غرفت الممرضات، فوجد بداخلها ثلاثة ممرضات فسالهن:
- أين ذهبت المريضة ` غرفه ١٠٥ ` ؟!
فأجابته احدهن، قائله:
- هنا، ستجدها بكل تأكيد في غرفتها.
كان على وشك أن يصرخ بها، أو يسبها على تلك الإجابة الغبيه، ولكن قاطعته زميلاتها الاخرى، قائله:
- بالتأكيد ذهب الى الغرفة قبل أن يأتي الينا، فان وجدها هناك فلما هو هنا أيتها الغبيه؟!
وببرود متناهي أجابتهم الثالثة، قائله:
- لا أظن أنها خرجت، فمن أول يوم جاءت فيه تلك الفتاه غريبه الأطوار إلى هناء وهي لا تخرج من غرفتها، حتى إنها لا تتحدث مع أحد، ولا يأتي أحد لزيارتها، وحتى قبل أن تأتي إلينا دكتور أمير وها هي ستكمل الثلاثة أشهر معنا ولا يعلم أحد عنها شيء سواء أسمها، ولا نراها الا عندما ندخل اليها.
كده أن يستشيط غضبان عندما سمع منهن هذا الحوار وبتلك الطريق، لم يعي على نفسه سوي وهو يصرخ عليهن، قائلا:
- هل أصاب عقلكن شيء؟! أنا أظن أنكن جننتن، نعم هذا ما حدث بالفعل هناك مريضه مفقودة ولا يعلم احد شيئا عنها، أعتقد أن مراقبتها ومراقبه جميع المرضى من مسئوليتكن الخاصة أنتن الممرضات، سأذهب الى المدير واشتكى اليه حالا.
كان قد خرج من الغرفة عندما لحقته أحدهن؛
وقالت له بلهجه يملاها التوسل:
-أرجوك لا تفعل ذلك، سيتم طردنا بلا رحمه ؛ ما رايك أن أنزل إلي قسم المراقبة وأري تسجيلات الكاميرات، أنا أعلم شكلها، وأنت أذهب إلي غرفتك، وسأتحدث معك أن حدث جديد.
- موافق، ولكن سيتم معاقبه كل ممرضات الدور أن خرجت الفتاه من باب المستشفي، حتي وإن وجدت بعد ذلك.
في الواقع لم يكن بيده اي اختيار اخر، كان سائرا إلي الغرفة وعقله يموج يمينا ويسارا، كان قلبه يرجف من القلق عليها وبدأ بطرح الأسئلة السلبية التي دائما ما تأتي في الوقت الخطأ.
جلس يفكر أين هي الان؟!
ماذا قد يكون حدث لفتاه رقيقه مثلها؟!
هل هي بخير ام قامت بقتل نفسها؟!
هل من المعقول أن تكون قد خرجت في ضوء النهار؟!
كيف وهي تخشي؟!
قام ضميره برمي جميع الاخطاء والتهم عليه؛ انت من تأخرت اليوم في الاستيقاظ، كعادتك ستظل مهمل.
ماذا لو استيقظت مبكرا ؟!
وماذا لو وجاءت إلي المستشفي مبكرا ؟!
الم يكن بإمكانك أن تجدها علي البوابة الرئيسية ؟!
لم يستطع حتى دخول غرفة، وذهب مباشرة الي` غرفه ١٠٥` حيث كانت تجلس حياه قبله رحيلها.
ظل يبحث في جميع أنحاء الغرفة فقام فتح الستائر، ونظر جيدا في الحمام واسفل السرير.
ثم جلس علي الكرسي بجسد منهمك فقد قبل أن يمر عليه ساعه في غيابها.
ثم اقتحم نظره فجاءة الخزانة كانت شامخه في أحدي أركان الغرفة، ليست الغرفة بالكبيرة الواسعة لينسي منها جزءا ربما سرعته خوفه وقلقه عليها، نعم الخوف يفعل الكثير.
لم يفكر كثير توجهه مسرعا إلي الخزانة بخطوات راجفه يأمل أن يجدها بداخله.
وبالفعل وجدها نائمه في سكينه وهدوء محاطه بظلامها التي تهواه، فحملها بين زراعيه كطفلته المدللة التي نامت بعد يوم شاق لها في مدينه الملاهي، أو ربما ككومه من غزل البنات يحميها من الماء حتي لا تذوب.
كان يحملها ويضمها إلي صدره بقوه ليتأكد أنه لم يضيعها ثم وضعها بحنان فوق السرير، وسحب يده برفق من اسفل راسها حتي لا تستيقظ فوجهها يظهر عليه الارهاق، ولكنه فشل في ذلك.
لقد استيقظت علي الفور، وانتفضت جالسه، وحاولت أن تهم ذاهبه إلي الخزانة لتدفن نفسها فيها من جديد، ولكنه منعها فصرخت، وبكت فضمها إليه، فدست راسها في صدره، وتشبثت بذراعه، وغرزت أظافرها بقوه وكأنها تريد أن تستمد بعض من الأمان، صدرها يعلوا وينخفض بقوه وكأنها تركض في الأولمبيات.
كانت تمسك هي بيدي، وأنا أمسح لها علي شعرها لتهدئ من روعها، ثم وضعت يدي علي ظهرها وضممتها الي صدري لأتأكد بأنني وجدتها بالفعل.
وبعد دقائق مرت علي سريعة ودت لو أنها دهراً بأكمله دق باب الغرفة ابعدت نفسي عنها قليلاً فدلفت الينا تلك الممرضة ونظرت إلي حياه غير مصدقه ما تراه، فقلت لها:
- ماذا تريدي؟!
-لا شئ كنت آتيه لأخبرك إني لم اجدها علي جميع تسجيلات الكاميرات، أي أنها لم تخرج من المستشفي، وأظنها لم تخرج من الغرفة ايضا.
مازلت أتذكر هذا اليوم جيداً، اليوم الذي كان السبب في تغيير حياتي وتحويلي إلي الأفضل.
كانت الساعة في مقربة الثانية بعد منتصف الليل، وعادت هي إلي المنزل تترنح كعادتها في الأيام الأخيرة، هي إمرأه في عقدها الرابع، وبالرغم من أنوثتها المتفجرة بذلك الفستان الأحمر الذي يظهر اكثر مما يخفي، ولكن هناك بعض التجاعيد علي رقبتها أثر تقدمها في العمر.
وكان هو بجانبها يتسلي بمالها في الملاهي الليلية.
هذا ما أدركتُهُ بعد سنين، وحمدت ربي علي قدري الذي كنت اظنه بغبائي سيء، كان يقف بمنتهي الثقة كان يعرف جيداً كيف يسيطر عليها فقط في عمره الخامسة والعشرون كان يعي كل خطوه يسير نحوها، ما الذي يريد؟! وماذا يفعل ليحصل عليه؟! أما هي فلا.
كان يحتضنها في سكينة وهدوء حتي مررت أنا بجانبهم، وكان الظلام حالكاً عدا من نافذة زجاجية يدخل منها شعاع من النور، كنت معتادة علي الجلوس في الظلام في الفترة الأخيرة، ضغط على زر الإضاءة كحركة تلقائية منه عندما وجدوا شيء يتحرك بجانبهم فاشعل أضاءت المنزل بأكملها، فصرخت علي توبخني قائله:
-أخبرتكِ لكِ إلا تتسللي هكذا مثل الأشباح في الظلمات تفزعينني حقاً، خاصه بهذا الشعر المجعد والمتطاير، وما بال ملابسك المتسخة؛ أظنكِ لم تغيريها منذ شهور، أشعر بأن الحياة قد سلبت منكي.
نظرت لها؛ وقلت:
-الحياه وهم؛ ولا وجود للعالم فهو شيء خيالي وجد فقط في أذهان الموتى امثالنا.
-لقد جُننتي.
صمتت قليلاً ونظرت له بعد أن كانت تنظر إلي الأرض وكان هو ينظر إليها ممسكاً قلمه وعدة أوراق في صمت اعتقدها تفكر ماذا ستقول؟! فقد مر علي صمتها طويلا وكان يفكر في مدة المعاناة التي تعرضت لها لتصل لذلك.
أخرجته من شروده قائله:
- سأتحدث هكذا طوال اليوم ؟! لقد تعبت كثيراً ومللت ايضا.
رمقها بنظرة من خلف نظارته الطبية فنظرت إلى كفيها التي كانت تفرقهما بشدة ثم نظرت له بعينين دامعتين؛ كانت لاتزال براءة الأطفال علي وجهها
فقال لها:
- تمضي سوي ثلاث دقائق، أعلم أن هذا مرهق ولكن يجب أن نتحدث هكذا لفترة أطول وهذا في مصلحتكٍ أتريدي أن تعودي لجلسات الصدمات الكهربائية مرة أخري؟!
نظر اليها بإهتمام في انتظار رد منها حتي هزت رأسها نافيه؛ فاردف:
-اذن هيا لتستعيد ذكرياتك ونخرجها من عقلك تمام لكي تستريحي من أوجاعكِ؛ ومع ذلك أن تعبت يمكننا أن نتوقف قليلا لتستريحي مدة عشر دقائق.
حينها لم تعطيني جوابا شافيا غير صمتها الذي اتخذته موافقه علي عرضي، هممت انا بالمغادرة ولكنها لم تتركني أذهب فقد صرخت علي قائله:
-لا تذهب.
فنظرت لها بغير تفهم وكانت التساؤلات تملأ وجهي فقالت لي، وكأنها لا تريدني أن أسالها بشيء:
- في النهار، وأنا أخشاه كثيراً.
- تقولي؟! هل يخشي احد النهار؟! لكن ماذا سيحدث لكي أن حل بكي الليل؟!
- ليس من المفترض أن يخشي أحد الليل بظلامه فيه الهدوء الراحة ولكن في النهار يكون عليك أعيونا الناس وتساؤلاتهم بلا شفقة أو رحمة ستجد إنتقادهم لك دون أن تشركهم أنت في حياتك، اقسم لك أن الظلام أهون عليك منهم.
مطت شفتاي ثم جلست ثانيه وقد لفتت نظري تلك الطريقة التي تتحدث بها؛ وكأن موضوع الليل والنهار كان شاغلها اعواما فخطر ببالي حل لذلك فقلت لها:
-وجهه نظر تحترم؛ إذا ستقصي علي حتي تتعبي ثم ابدا انا برواية قصتي حتي اتعب وهكذا حتي يصبح النهار فيسكن في قلبك السكينة والطمأنينة بدخول الليل، ما رايك؟!
-وهل تمتلك قصه؟!
- منا لا يمتلك واحدة، فيها من الحزن والفرح جنبا الي جنب، يشارك كل منهما الآخر في كل تفاصيل حياتك لينسجا معا بطريقة ما، ويخلقا قصة لشخص ما تختلف عن تلك التي تسبقها فهذه سنة الحياه.
نظرت اليها أتأمل وجهها، انتظر فقط جملة واحدة حتي أطلقتها من بين شفتيها:
-موافقة.
اسمي أمير سيد الشرقاوي، عائله أبي من العائلات الكبيرة والمشهورة أيضاً في الشرقية؛ كان لأبي أب ظالماً قرر بعد وفات جدتي الفترة التي سبقت وفاته بقليل أن يقتسم أملاكه في الشرقية بين عمي وعمتي؛ كانت عمتي هي أكبر أبنائه ومات قبل أن يطمئن عليها مع زوج لها؛ أما عمي فكان الأصغر سنن وكان ضريراً منذ ولادته ولهذا أشفق عليهم جدي؛ ولم يكتب لأبي سوى بيت هنا في القاهرة وما حفزه علي ذلك ان أبي كان أكثرهم ذكاء؛ وبعد فترة من وفاه جدي لم أذكر منها شيء سوى ما حكي لي ..
قررنا الإنتقال إلي هنا وعلي حسب كلام أمي عشنا حياة صعبة في بداية مشوارنا في القاهرة؛ كان منزلنا عبارة عن جدران لا أثاث ولاسجاد ولاستائر فقد جئنا من المنصوره بملابسنا فقط، كان أبي يعمل دوامين في النهار، وعملت أمي أثناء دوام أبي الأول، حتي بدأوا في جمع الاموال وبدأوا في شراء أثاث للمنزل، وقام بفتح دكان اسفل منزلنا اصبحت أمي تجلس فيها حتي عودت أبي من العمل ليجلس هو فيها؛ وتدريجيا تناسي أبي أن له أخوه في الشرقية.
أما نحن فقد مرت علينا طفوله مبتوره الفرحه لا العاب ولا انشطه لتنميه الذكاء ولا حلويات كباقي الأطفال في عمرنا، ولقد من الله علي أبي بأطفال نضج فقد فهمنا ما نمر بيه من حياه قاسيه وتاقلمنا علي التقشف، ولكن عندما فتحها الله علي والدي لم يبخل علينا أنا وأختي ابداً وحاول تعويضنا بشتي الطرالطرق.
- يا أدهم لقد أنقذتني اليوم، عندما اتصلت بي أثناء دوامي في المستشفى.
- دائما منقذك يا أمير أعترف قليلاّ، ولكن الأهم الآن من ماذا أنقذتك؟!
-منها!
-اتقصد تلك الفتاه التي تقوم بعلاجها في المستشفي.
- أخبرك عنها؟!
- أنك تفقد الذاكرة كثيراً في تلك الأيام، أنت من أخبرتني عنها أيها المغفل تقريبا منذ اسبوع عندما قلت لي سأخبرك عن فتاه رائعة، ومريضه في المستشفى؛ أين عقلك يا رجل؟!
-أخذته هي مني ورحلت.
صمت لبرهه كأنه يتذكر شيئا ما، ثم قال:
- أريدها أن تشفي سريعاً فهذا المرض شديد الخطورة، أفعل كل ما بوسعي لذلك صدقني.
مر دقائق من الصمت الثقيل، علم فيها أدهم أن أمير منزعج جداً لم تكن هذه هي الحالة الأولي لأمير، ولكنها الأولي لأدهم الذي تأثر فيها بطريقه أمير.
كان امير منشغل فالمستشفي منذ استلامه هذه الحاله ولم يكن لديه الوقت أن يجلسا ويتحدثا، كل وقته كان ينصب في رساله الدكتوراه.
صمت أدهم هو الآخر، أرد أن يجعل أمير يتحدث أكثر ليزيح عن قلبه كل تلك الغمه، ثم اردف أمير بمراره وعجز:
-أتعلم! أريد أن يأتي النهار سريعاً، أريد أن أذهب اليها، لأعلم من هذا القاسي الذي أوصل بها الحال لذلك من الذي أرادت حياه الموت لأجله.
-هل حياه هو اسمها؟!
- نعم؛ حياه كامل مسعد.
- كامل مسعد رجل الأعمال المشهور الذي توفي منذ شهور؟!
- أعلم بالضبط، لكن ممكن لما لا!
- يا لها من صدفه، ومن معه كل تلك الاموال لما يحزن ويكتئب؟! لما؟!
قطع امير كلامه، قائلا:
-الحياه ليست عباره عن نقود وأموال فقط، إن لم تجد أحد بجانبك يمسح لك دمعك وأنت تبكي، ويمسح علي ظهرك وأنت حزين، وتشتركان في الضحك، وقتها ستعلم إن الأموال مجرد أوراق لا قيمه لها.
-أنا أخالفك الرأي، أنا سأمسح علي دمع نفسي، وأمسح علي ظهر نفسي، وسأتشارك الضحك مع الأموال، ووقتها سأعلم إن لا قيمه للبشر.
- هي الطبيعة البشرية، يعتقد أن راحته فيما لا يملك، ولكنه يتناسى أن راحته تكمن في الرضا، الرضا بما يملك.
- تسيئ فهمي يا أمير أنا راضي تمام، ولكن سأرضي أكثر إن أسرعت قيادتك تلك فأنا اتضور جوعا.
وصل إلي المنزل في منتصف الليل ودخل علي غرفته مباشرة وبعد أن غير ملابسه جلس علي مكتبة الغرفة وقام بفتح أحد الإدراج من المكتب وأخرج دفتر كبير وضعه أمامه كان الدفتر له غلاف سميك ويتجاوز عدد صفحاته الالف، ولكنها جميعها خاليه.
كان داخله يموج بالأفكار والكلمات والحروف تتهاوي امام عينه لا يعرف بماذا يبدأ؟!
حاول ترتيب أفكاره وصفهم جمب بعضهم البعض حتي يعرف من أين سيبدأ الكتابه ؟!
ماذا يكتب في تلك السطور الخاوية كانت مخاوفه كبيره جعلت عقله يرسل عليه جمل الإحباط كانت الأسئلة تعجزه عن الرد ماذا لو لم يستطع؟! ماذا لو اخفق؟! ماذا لو تعسر؟! ماذات كثيره تحيطه والأجابات ذهبت أدراج الرياح.
كان يريد رساله الدكتوراه له في نفس مستوي رساله الماجستير الذي قدمها منذ شهور ....
كان لا يدري كيف سيفعلها فهذا امر صعب؟!
ولكنه كان يعتقد ذلك أيضا في رساله الماجستير ولكنها مرت بسلام وبتقدير امتياز أيضاً.
كانت يده ترتجف قبل الإقبال علي ذلك الأمر، كما كانت تفعل دائما مع الإقبال علي كل شيء جديد ومهم بالنسبة له، هذا بسبب له التوتر الزائد الذي يحمله تجاه فعله لذلك الشي.
هز راسه بقوه، كمحاوله منه لنفض كل تلك الافكار السلبية التي تحاوطه حاول تهدأت نفسه.
" وقال بصوت مسموع : معني انني وجدت موضوع رسالتي ووجدت مريض لذلك المرض الذي سأشخص عليه الحالة هذا يعني أنني سأنجح بأذن الله ".
في صباح اليوم التالي، ذهب إليها في المستشفي ودخل عليها الغرفة، ولكنه لم يجدها فطرق عليها باب الحمام فلم يسمع جوابا فخرج مسرعاً، وقد ارتسمت علي وجهه لوحه بديعه من القلق والتوتر، سأل أحد الممرضات، قائلاً:
- أين ذهبت المريضة ` غرفه ١٠٥ ` ؟!
لكنه لم يجد رد شافيا غير بعض علامات الأستفهام علي وجهها، فذهب إلي غرفت الممرضات، فوجد بداخلها ثلاثة ممرضات فسالهن:
- أين ذهبت المريضة ` غرفه ١٠٥ ` ؟!
فأجابته احدهن، قائله:
- هنا، ستجدها بكل تأكيد في غرفتها.
كان على وشك أن يصرخ بها، أو يسبها على تلك الإجابة الغبيه، ولكن قاطعته زميلاتها الاخرى، قائله:
- بالتأكيد ذهب الى الغرفة قبل أن يأتي الينا، فان وجدها هناك فلما هو هنا أيتها الغبيه؟!
وببرود متناهي أجابتهم الثالثة، قائله:
- لا أظن أنها خرجت، فمن أول يوم جاءت فيه تلك الفتاه غريبه الأطوار إلى هناء وهي لا تخرج من غرفتها، حتى إنها لا تتحدث مع أحد، ولا يأتي أحد لزيارتها، وحتى قبل أن تأتي إلينا دكتور أمير وها هي ستكمل الثلاثة أشهر معنا ولا يعلم أحد عنها شيء سواء أسمها، ولا نراها الا عندما ندخل اليها.
كده أن يستشيط غضبان عندما سمع منهن هذا الحوار وبتلك الطريق، لم يعي على نفسه سوي وهو يصرخ عليهن، قائلا:
- هل أصاب عقلكن شيء؟! أنا أظن أنكن جننتن، نعم هذا ما حدث بالفعل هناك مريضه مفقودة ولا يعلم احد شيئا عنها، أعتقد أن مراقبتها ومراقبه جميع المرضى من مسئوليتكن الخاصة أنتن الممرضات، سأذهب الى المدير واشتكى اليه حالا.
كان قد خرج من الغرفة عندما لحقته أحدهن؛
وقالت له بلهجه يملاها التوسل:
-أرجوك لا تفعل ذلك، سيتم طردنا بلا رحمه ؛ ما رايك أن أنزل إلي قسم المراقبة وأري تسجيلات الكاميرات، أنا أعلم شكلها، وأنت أذهب إلي غرفتك، وسأتحدث معك أن حدث جديد.
- موافق، ولكن سيتم معاقبه كل ممرضات الدور أن خرجت الفتاه من باب المستشفي، حتي وإن وجدت بعد ذلك.
في الواقع لم يكن بيده اي اختيار اخر، كان سائرا إلي الغرفة وعقله يموج يمينا ويسارا، كان قلبه يرجف من القلق عليها وبدأ بطرح الأسئلة السلبية التي دائما ما تأتي في الوقت الخطأ.
جلس يفكر أين هي الان؟!
ماذا قد يكون حدث لفتاه رقيقه مثلها؟!
هل هي بخير ام قامت بقتل نفسها؟!
هل من المعقول أن تكون قد خرجت في ضوء النهار؟!
كيف وهي تخشي؟!
قام ضميره برمي جميع الاخطاء والتهم عليه؛ انت من تأخرت اليوم في الاستيقاظ، كعادتك ستظل مهمل.
ماذا لو استيقظت مبكرا ؟!
وماذا لو وجاءت إلي المستشفي مبكرا ؟!
الم يكن بإمكانك أن تجدها علي البوابة الرئيسية ؟!
لم يستطع حتى دخول غرفة، وذهب مباشرة الي` غرفه ١٠٥` حيث كانت تجلس حياه قبله رحيلها.
ظل يبحث في جميع أنحاء الغرفة فقام فتح الستائر، ونظر جيدا في الحمام واسفل السرير.
ثم جلس علي الكرسي بجسد منهمك فقد قبل أن يمر عليه ساعه في غيابها.
ثم اقتحم نظره فجاءة الخزانة كانت شامخه في أحدي أركان الغرفة، ليست الغرفة بالكبيرة الواسعة لينسي منها جزءا ربما سرعته خوفه وقلقه عليها، نعم الخوف يفعل الكثير.
لم يفكر كثير توجهه مسرعا إلي الخزانة بخطوات راجفه يأمل أن يجدها بداخله.
وبالفعل وجدها نائمه في سكينه وهدوء محاطه بظلامها التي تهواه، فحملها بين زراعيه كطفلته المدللة التي نامت بعد يوم شاق لها في مدينه الملاهي، أو ربما ككومه من غزل البنات يحميها من الماء حتي لا تذوب.
كان يحملها ويضمها إلي صدره بقوه ليتأكد أنه لم يضيعها ثم وضعها بحنان فوق السرير، وسحب يده برفق من اسفل راسها حتي لا تستيقظ فوجهها يظهر عليه الارهاق، ولكنه فشل في ذلك.
لقد استيقظت علي الفور، وانتفضت جالسه، وحاولت أن تهم ذاهبه إلي الخزانة لتدفن نفسها فيها من جديد، ولكنه منعها فصرخت، وبكت فضمها إليه، فدست راسها في صدره، وتشبثت بذراعه، وغرزت أظافرها بقوه وكأنها تريد أن تستمد بعض من الأمان، صدرها يعلوا وينخفض بقوه وكأنها تركض في الأولمبيات.
كانت تمسك هي بيدي، وأنا أمسح لها علي شعرها لتهدئ من روعها، ثم وضعت يدي علي ظهرها وضممتها الي صدري لأتأكد بأنني وجدتها بالفعل.
وبعد دقائق مرت علي سريعة ودت لو أنها دهراً بأكمله دق باب الغرفة ابعدت نفسي عنها قليلاً فدلفت الينا تلك الممرضة ونظرت إلي حياه غير مصدقه ما تراه، فقلت لها:
- ماذا تريدي؟!
-لا شئ كنت آتيه لأخبرك إني لم اجدها علي جميع تسجيلات الكاميرات، أي أنها لم تخرج من المستشفي، وأظنها لم تخرج من الغرفة ايضا.