الفصل الرابع

في الغرفة المجاورة، تجلس السيدة ميمي على طرف الفراش بينما تجلس الصغيرة أرضاً بين قدميها موصدة العينين مستمتعة بتلك القشعريرة الناتجة عن تمشيط السيدة لخصلاتها الكستنائية المموجة

انتهت السيدة من صنع جدائل خصلاتها، ثم هتفت متسائلة في حماس:
_ هيا، أخبريني ما رأيك؟

ركضت لينا ناحية المرآة لتنظر إلى جديلتها حديثة الصُنع، اتسع ثغرها بإبتسامة رقيقة وهللت بسعادة طفولية:
_ إنها رائعة جداً، تشبه جديلة أمي التي تصنعها لي

أشفقت السيدة ميمي على حالها ثم فردت ذراعيها لها مشجعة إياها على أخذ عناق دافئ:
_ اقتربي يا لينة

تقدمت الفتاة بخطوات راكضة نحوها إلى أن استكانت بين أضلعها، أوصدت عينيها وأطلقت العنان لعبراتها في السقوط هاتفة بحزن:
_ لماذا تركتنا أمي ورحلت؟ ألا تعلم أنه لا يوجد غيرها عائلنا؟

لم تستطيع السيدة ميمي التماسك أمام جملتها وأجهشت باكية بألم شديد قد شعرت به من خلف كلماتها البريئة، حاولت استعادة رونقها حتى لا تزيد من عبئ الفتاة وهتفت محاولة التخفيف من عليها:
_ إننا جميعاً راحلون إلى الله، لكن هناك فرق، فمن من الناس من رحلوا قبلنا لكن حتماً سوف نلتقي بهم في الجنة إن شاء الله، هل تعرفين أن الجنة وصفها لنا الله بأنها خلابة وشديدة الجمال، إدعِ الله بأن يرزقنا إياها يا صغيرتي

رفعت الفتاة رأسها لتقابل عيناي السيدة ميمي وهتفت داعية:
_ اللهم نسألك دخول الجنة حتى ألتقي بأمي وأحمد

زمت ميمي شفتيها بحزن مصحوب بالتأثر الشديد، لم يكن في مقدرتها سوى مأزرتها بإعادتها إلى صدرها وهتفت بنبرة حنونة:
_ إن شاءالله عزيزتي، هيا خذي قسطاً من الراحة بالتأكيد أنتُ متعبة

لم تعارضها الفتاة بل حبوت على الفراش حتى وصلت لنقطة ما فيه ثم أوصدت عينيها لكنها سرعان ما انتفضت من مكانها فتسائلت ميمي عن سبب ذعرها:
_ ما بكِ يا لينة لماذا تركضين هكذا؟

أخبرتها الفتاة وهي تبحث في حقيبتها عن شيء ما:
_ دُميتي..

لم تفهم عليها السيدة ميمي إلا بعد أن رأت دميتها ذات الشعر الذهبي، عادت إليها لينا وقامت باحتضان دميتها ثم جذبت يد ميمي ووضعت على رأسها وهمست لها:
_ أتلو لي آيات من القرآن حتى أغفو سريعاً مثلما كانت تفعل أمي

تشكلت إبتسامة عفوية على شفتي ميمي ورحبت بفكرتها للغاية، بدأت تتلوا بعضً من الآيات الكريمة التي تحفظها إلى أن شعرت بسكون وتيرة أنفاس الصغيرة فتأكدت أنها قد غفت، قامت بدسر الغطاء أعلاها ثم أخفضت من إضاءة الغرفة وانسحبت إلى الخارج بهدوء.

سارت نحو غرفةٍ ما وولجت إليها حتى وقفت أمام الفراش الكائن في آخرها، مالت بجسدها على ذاك النائم وقامت بهزه برفق إلى أن تمتم بنعاس:
_ اتركيني أغفى قليلاً بعد، فالوقت مازال باكراً

رفضت تركه معللة أسبابها:
_ انهض يا زياد، يكفي نوم، سوف تفوت ميعاد صفك

لم يكترث لها فتوجهت بخطاها نحو النافذة وقامت بإزاحة الستائر من عليها أولاً ثم قامت بفتحها فتسلل الضوء عمودياً على عيناي زياد الذي تأفف بحنق:
_ سحقاً للصف والدراسة، لا أريد أن أذهب اليوم، أتركيني أُكمل نومي

هتفت بصرامة لكنها حافظت على مستوى صوتها لكي لا تزعج من في المنزل:
_ بالطبع لا، انهض يكفيك هذا القدر يا كسول، لقد سئمت من ذلك المشهد المتكرر كل صباح، سأخرج الآن لكي أحضر لك فطوراً شهياً لحين انتهائك من ارتداء ثيابك

أغلقت الباب فور انتهاء جملتها وتوجهت إلى المطبخ لكي تحضر له فطور، نهض الآخر متذمراً فلا يريد الذهاب بتاتاً، النوم أفضل بكثير من ذاك التعليم التي لا فائدة منه بالنسبة إليه.

بدل ثيابه إلى الزي المدرسي ذات القميص الأزرق والبنطال الجينز وكذلك قام بارتداء جوربه الأبيض ثم انحسب من غرفته إلى الخارج فكانت والدته في إنتظاره أمام باب المطبخ حاملة بإحدى يدها شطيرة شهية وباليد الأخرى كوب من الحليب.
 
تأفف الولد بتزمجر، أوصد عينيه لبرهة ثم أعاد النظر إليها معاتباً بسخرية:
_ ما هذا الآن يا أمي بربك؟!، هل يقف أمامك طفل صغير حتى تحضري له شطائر الجبن وكوباً من الحليب الساخن؟، لقد كبرت يا أمي، اجتازت هذا العام المرحلة الإعدادية إن كنتِ لا تتذكرين

بلا مبالاة ونظرات يتوهج فيهما الإصرار:
_ لن تذهب إلى أي مكان قبل أن تتناول شطيرتك

رفعت كوب الحليب وتابعت وعينيها يشع منهما التحدي:
_ وبالتأكيد احتساء كوب الحليب كاملاً، وإذا أطالت الحديث سوف أقوم بطهي بيضة من أجلك كما كنت أفعل في السابق

أسرع زياد في الركض نحوها ثم لَقِفَ منها كوب الحليب وقام بإحتساءه دفعه واحدة، أنزل يده ومسح على فمه بإهبامه ثم تمتم عالياً وهو يتناول منها الشطيرة:
_ سوف أتناولها في المدرسة

حذرته بحزم:
_ إذا لم تتناولها سوف يخبرني العصفور بذلك

التفت زياد برأسه معلقاً بسخرية:
_ نسيتِ تخبريني بأنها ستركض خلفي إذا لما أتناولها

أكدت والدته بعفوية:
_ بالتأكيد سيحدث ذلك

انفجر زياد ضاحكاً ثم انسحب سريعاً بعدما التقط حقيبة ظهره وغادر قبل أن ينال نصيباً من الترهات الصباحية التي لا تنتهي، عادت السيدة ميمي إلى المطبخ وقامت بإخراج دجاجة سمينة من الثلاجة لكي تقوم بطهيها حتى تُشبع بطون الصغار.

                                ***

بعد مرور بضعة ساعات، استيقظ يوسف من غفوته ولازال يشعر بالنعاس مسيطراً عليه لعدم كفايته من النوم، تثائب بصوت عالٍ قطعه فور انتباهه لنوم علي بجانبه، نهض بحذر ثم خرج من غرفته باحثاً عن هاتفه الخلوي.

فرك عينيه فمازال النوم ينتابه، لم يصل إلى هاتفه بالسرعة التي ظنها فنادى بصوته الأجش على والدته:
_ هل رأيتِ هاتفي يا أمي؟

أخرجت رأسها من باب المطبخ وأجابته بنبرة بعيدة:
_ تركته في غرفتي عزيزي

حرك رأسه متذكراً مكانه، توجه نحو الغرفة واقتحمها دون تردد فلا يتذكر أن هناك من ينام في الغرفة، توجه نحوها وقام بدسر الغطاء أعلاها ثم وقف يطالعها بشفقة وآسى شديدين، فالفتى سَيُصلب جزعه يوماً ويكون رجلاً قادراً على تحمل مسؤولياته بنفسه ؛ لكن ماذا عنها؟ فتاة يتيمة وحيدة بمفردها في الحياة، حتماً سيكون الله لطيفاً بها فإنها مؤنثة غالية.

زم يوسف شفتيه للجانب بتهكم فلا يملك فعل أي شيء يستطيع تعويضهما بها عن فراق أعزتهم، فأي عوضاً سيسد تلك الفجوة التي حدثت فجاءة وقلبت حياتهم الهادئة التي يملئها لعب الصغار ورائحة طعام الذي يُطهى بحب وفرحة لقاء الأخ أياما من بين شهور عدة.

أخرج تنهيدة مهمومة ثم عاد للبحث عما جاء لأجله، أخذ هاتفه وبهدوءً أغلق باب الغرفة، استلقى على أقرب أريكة قابلته وهتف بالبسملة قبل أن يحاول التواصل مع عم الصغار.

أرسل له رسالة كان محتواها كالآتي:
( السلام عليكم، انا يوسف الراوي صديق أحمد ابن أخيك، أرجوا منك أن تتواصل معي في أقرب فرصه لديك لضرورة الأمر )

أغلق هاتفه ووضعه جانباً ثم رفع نظريه للأعلى متمنياً بأن يجيبه في أقرب فرصة حتى يسترد  أمانة شقيقة، أنتبه على صوت والدته المتسائلة:
_ ما كل تلك الأطعمة عزيزي؟

نهض عن مقعده وبخطوات راكضة توجه إلى المطبخ، ضرب جبينه براحة يده مستاءً من تناسيه الأمر:
_ لقد نسيت تماماً

رفع بصره على والدته بتزمجر مواصلاً بملامح غاضبة:
_ قامت والدة أحمد رحمة الله عليهما بتحضيرهم، فقمت بأخذه لنقوم بتوزيعه على المساكين والفقراء صدقة لروحهما

رمقته ميمي شاعرة بكم الإحباط الذي سيطر عليه، تنهدت قبل أن تحاول التخفيف من على عاتقه:
_ لا علاقة لك بتناسي الأمر عزيزي، لا تحزن سوف أصنع لك أشهى الأطعمة وتقوم بتوزيعهم مثلما أردت

شكل بسمة ممتنة على محياه وبحرج سألها:
_ لا يكفينا معاش والدي، فكيف ستجدين المال من أجل الطعام؟

اقتربت منه وملست على كتفه بحنو أمومي وردت عليه بنبرة راضية:
_ النقود تكفي بفائض، لا تهتم لتلك المسألة

نكس رأسه بخجل وبعزيمة هتف:
_ علي أن أجد عملاً في أقرب وقت حتى وإن كلف الأمر أقبل وظيفة عامل نظافة

ضربت ميمي على صدرها فسببت الذعر في قلب يوسف الذي هلل متسائلاً:
_ ماذا هناك يا أمي؟

بعبوس أجابته بحنق:
_ عن أي عامل نظافة تتحدث أنت، إن لم تملك وظيفة في شركة ذو مكانه مرموقة فالله الغني، هل درست إدارة الأعمال من أجل وظيفة عامل النظافة؟!

تشدق يوسف قبل أن يردف مقالاً من شأنه:
_ ماذا ستفعل شهادتي يا أمي حباً في الله، ألا ترين من هم حولكِ، لا أحد يعمل بشهادته في بلدنا هذه

تشكل التقزز على تقاسيم ميمي بسبب استسلامه وهدرت به شزراً:
_ تلك هي حجة الحمقى مثلك، الذين لا يريدون المحاولة مراتٍ عديدة حتى يصلون إلى مرداهم في النهاية، أنت فريد من نوعك يا بني، ذكي ولك كاريزما مختلفة، أنسيت أنك كنت من الأوائل على دفعتك سنوات جامعتك؟

أزفر يوسف أنفاسه على مهل ناهياً الحوار بقوله:
_ نسأل الله التساهيل يا أمي

جذب انتباههم رنين هاتف السيدة ميمي التي أمرت ولدها قائلة:
_ من فضلك يا يوسف أعطني هاتفي

أولاها ظهره ثم هرول بقدميه خلف مصدر الرنين إلى أن جاء به فسألته بفضول:
_ من المتصل؟

أجابها وهو يقلب عينيه:
_ من ستكون بالتأكيد السيدة إيمان

غمزت إليه معدلة على تلقيبه بمكر:
_ قُل زوجتي المستقبليه

رفع يوسف شفتيه العُليا مستاءً مما تفوهته وصاح بإزدراء:
_ خذي هاتفك يا ميمي، أنا مخطئ من البداية أنني وقفت أتحدث معكِ

مسحت ميمي يديها المتسخة في المنشفة التي تركتها على الطاولة الرخامية وأجابت على المتصلة بترحيب حار:
_ عزيزتي مونة، لقد اشتقت إليكِ كثيراً يا حبيبة عمتك

طالعت يوسف المستند على الباب بإبتسامة تشكلت فجاءة ومن ثم عادت لترد على الطرف الآخر:
_ نعم عزيزتي، لقد عاد سالماً حمداً لله

صمت حل لبرهة تلاه ترحيب حافل:
_ سيزداد المنزل بهجة بوجودكم، أبلغي عائلتك سلامي لحين لقائهم

أنهت الإتصال لتخبره بما دار بينهن فتفاجئت به يلحقها بكلماته:
_ خالك سيأتي برفقة زوجته وإبنته لكي يطمئنوا عليك

أماءت له عدة مرات مؤكدة فرفع كتفاه بفتور وهو يتمتم بنذق:
_ بالله عليكِ ما الذي كنا ننتظره بعد ذلك الإتصال؟، أشعر بأنهم سوف يتقدمون لخطبتي يوماً ما

انفجرت والدته ضاحكة وتمتمت من بين ضحكها المستمر:
_ أظن ذلك أيضاً، ليس ببعيد عنهم

سيطرت على نوبة ضحكها واسترسلت متابعة حين لم ترى في الأمر عائقاً:
_ وما المشكلة في ذلك يابني، نحن جميعاً على يقين بأنها تكِن لك حباً، ماذا لو تقدمنا لخطبتها الآن فهي مازال أمامها عامان لكي تنهي دراستها وكذلك أنت بحاجة إلى مدة كافية حتى تُكون نفسك، والفتاة من عائلتنا ولن تطمع في الكثير

طالعها بأعين متسعة لا يصدق أنها رتبت الأمور بتلك السهولة، وبذهول شديد هدر:
_ أعلم تلك المسائل جيد المعرفة، انظري يا أمي أنتم لا ترون وجهة نظري، ابنة أخيكِ هذه لا أراها سوى أخت لي، وإن كنتم لا تقدرون ذلك فتلك هي مشكلتكم، ثم إنني مازال أمامي الكثير لأفعله قبل خطوة الزواج، يجب أن أجد عملاً يناسبني أولاً، ثم أكون نفسي ثانياً وقبل أن أحقق أهدافي لن أخضع لزيجتى من ابنة أخيكِ أو غيرها كما أن هناك الأهم من بين ما أخبرتك به.


أجبرت ميمي حواسها على الانتباه جيد فتابع هو:
_ ماذا سأفعل إن لم أستطيع الوصول إلى عن التوأمان؟

لم تستطيع الرد عليه في اللحظة ذاتها بينما حرك رأسه مستنكراً تلك الظروف التي دقت بابه دون سابق إنذار فهتفت هي بقلة حيلة:
_ ليس لدي ما أقوله لك، لكنني متأكدة أن نصيبكما حتى وإن لم يكن كما تمنينا لن يكون إلا خيراً لكما، ولا تحمل هماً للأولاد نحن نتكفل بهم إن لم تستطيع الوصول إلى عمهما، خير إن شاء الله

"يارب"
دعا يوسف ربه راجياً بينما أردفت هي بحنو:
_ لقد انتهيت من طهي الطعام، هل تريد أن تأكل؟

بحماس حرك يوسف يده على بطنه بحركات دائرية شاعراً بالجوع:
_ أتمنى ذلك، إنني أتضور جوعاً

أشارت إليه بإصبعها قبل أن تخبره:
_ أمهلني دقيقة وسيكون الطعام جاهزاً

انسحب هو إلى الخارج وتفقد هاتفه على أملاٍ أن يكون هناك إجابة من الرجل، لكن تفقده بات دون فائدة، لم يستهين بالأمر وظل ممسكاً بهاتفه حتى لا يفوت وصول الرسالة إن جائته من الأساس.


                               ***
انتهى يوسف من أداء صلاة العصر ثم تفاجئ باليد التى حاوطت عنقه، التفت ليرى هوية الفاعل فأبتسم عفويا ظاهراً غمزة وجنته اليُسرى مرحباً:
_ حمداً لله على سلامتك يا أخي

بمشاكسة أجابه أخيه:
_ سلمك الله أيها عسكري

قهقه يوسف ودعا له باللحاق به عاجلاً:
_ ستدور الأيام وتتبدل الأدوار وحينذاك سأكون مصيبة رأسك، انتظر وسترى

شكل زياد بسمة سمجة على محياه وأخبره عما ينوي فعله:
_ لن ألتحق بالجيش من الأساس

لكزه يوسف في صدره بقوة هاتفاً بحنق:
_ هه، كأنك تملك غير ذلك

غمز إليه زياد بتحدٍ وإصرار متوهجان في عيناه:
_ سترى حينذاك

فر زياد هارباً من أمامه فلحق به يوسف وأرغمه على التوقف مستفسراً عن نواياه الخفية:
_ ماذا يعني هذا الهراء؟، الجيش يخلق منك رجلاً، انتظر هنا أم أنك تريد أن تظل مراهقاً حقير؟

تملص زياد من بين يدي يوسف وهو يصيح عالياً بازدراء بائن:
_ يكفى ذلك يا أخي..

صُوبت حدقتاه على نقطة ما خلف يوسف وردد متسائلاً:
_ من هذه؟

توجهت الأنظار على النقطة ذاتها الذي يسير إليها زياد بحدقتيه، ابتسم لها يوسف وحثها على المجيء:
_ تقدمي يا لينة لأعرفكِ على أخي الصغير

لكزه زياد في كتفه بخفة هامساً بفضول:
_ قُلت لك من هذه؟

بدأ يوسف في تعريف هويتهم لبعضهما البعض وهو يشير عليهم بالتناوب:
_ لينة، زياد

مد زياد يده إليها ليصافحها فتراجعت للخلف ثم اقتربت من يوسف واختبئت خلف ساقيه فهي لا تعتاد التعامل مع الجنس الآخر من خلف تحذيرات والدتها المستمرة، قطب زياد جبينه بتهكم لفعلتها كما أنه لوى شفتيه للجانب معلقاً بالسخرية:
_ ماذا هناك؟ حتماً لن آكُلكِ

نهره يوسف بحزم:
_ يكفيك وقاحة زياد، والآن على غرفتك سآتي خلفك، أريد التحدث معك

تجهمت تعابير الآخر وبعناد ساحق ردد:
_ أنا سوف أتسكع قليلاً

أمسكه يوسف من ذراعه وشد عليه بقوة لم يتحملها زياد فآنة بألم:
_ اترك يدي ماذا تفعل بربك؟

أعاد يوسف تكرار أمره بإصرار وشدة:
_ افعل ما أمرتك به

تأفف زياد بنزق من تلك اللهجة الآمرة أمام فتاة في عمره، توجه إلى غرفته مطلقاً زمجرة واضحة لم يبالي لها يوسف فتلك هي مرحلة المراهقة وعليه أن يتعامل معه بحرص وحذر.

استدار بجسده نحو الصغيرة وأردف بنبرة هادئة عكس الذي يتحدث بها لتوه:
_ هل تشعرين بالجوع؟

ترددت كثيراً قبل أن تومي برأسها مؤكدة سؤاله فنادى يوسف بنبرته الرخيمة على والدته وطلب أن تحضر للفتاة طعام حتى تُشبع معدتها بينما هو تقدم إلى غرفة شقيقه متوعداً لعدم احترامه أمام الفتاة حتى وإن كانت صغيرة العمر فعليه احترامه أمام نفسه أولاً قبل أن يحترمه أمام الجميع.

أغلق الباب بعدما ولج إليه وبأعين يتوهج فيهما الوعيد هتف بحنق:
_ إن حدث ذلك مرة أخرى ورفضت أمراً لي لن أشفق عليك، عليك احترامي أمام الجميع

لم يجيبه زياد بل ظل منكس الرأس وهو يعتلي الفراش عاقد ذراعيه معلناً تمرده، فصاح الآخر بغضب:
_ أتحدث معك، أجبني

"أعتذر، سأفعل ما تريده"
هتف بها زياد بعدم رضاء بينما توجه يوسف إليه وجلس أمامه ثم قص عليه مقتطفات مما حدث له في اليومين الماضيين معللاً وجود الصغار في منزلهم وأنهى جملته بتحذيره:
_ وطوال مدة مكثوهم هنا عليك معاملتهم بلطف وذوق، لا أريد مشاجرات مفهوم؟

أماء له بقبول هاتفاً بتأثر لسماعه قصتهم:
_ مفهوم

أنتبه كليهما إلى الجرس فتمتم يوسف مستاءً:
_ غزاة التتار قد وصلوا

انفجرا كليهما ضاحكين ثم انسحب واحد تلو الآخر خارج الغرفة ليكونوا في استقبال خالهم وعائلته.

" مرحباً يا أخي، المنزل ازداد نوراً يا هادية بوجودكما"

هتفت ميمي مرحبة بهم بحفاوة بينما علق يوسف ممازحاً:
_ لقد بالغتي في الأمر كثيراً يا أمي

اتسعت حدقتي ميمي عليه معاتبة إياه بنظراتها بينما لم يكترث هو لها فأجابه خاله بمرح:
_ لولا أنني اشتقت إليك وإلى مزاحك لكنت أجبتك بردٍ يليق بك، حمداً لله على سلامتك يا يوسف

بإمتنان رد عليه:
_ سلمك الله من كل ضُر يا خالي

دعتهم ميمي إلى الجلوس في الصالون بينما رحبت به هادية بمبالغة لم يهضمها يوسف:
_ عادت بهجة المنزل مرة أخرى بعودتك يا يوسف، أمل أن تفاجئنا بأمر خطبتك عن قريب

أراد يوسف قطع أي ذرة تفكير لديها في خطب إبنتها المصون بقوله: 
_ إذاً ستنتظرون الكثير بعد، أنا لا أفكر في الزواج الآن، هناك ماهو أهم لأعطيه اهتمامي أكثر من مسألة الزواج

علقت هادية مازحة:
_ فهمت وجهة نظرك الآن، لا تريد التعجل واقحام نفسك في مصيبة

حاول يوسف التحلي بالقليل من الصبر لكي يواصل ذاك الحوار الغير مرحب به:
_ بالتأكيد ستحل مصيبة على رأسي إن تزوجت بفتاة لا أحبها

تعمد النظر إلى ابنة خاله موحياً إليها رسالة بكلماته وتابع مالم ينهيه:
_ لكننى إذا نويت الزواج فلن أتزوج إلا لمن يدق لها قلبي ويختارها عقلي لتكون شريكة عمري وأحلامي، وهذه لن تكون مصيبة كما تلقبينها يا زوجة خالي، وإلى أن تظهر فتاة أحلامي سأجتهد في تكوين ما يليق بزوجة يوسف الراوي

حديثه ألجم ألسنة هادية وإبنتها المبجلة، لم يعرفا مجالاً للرد عليه بعد أن أظهر إليهن أنها بعيدة كل البعد عن مخيلته، طالعته والدته بنظرات مشتعلة معاتبة لكلماته التي لم ترأف بالفتاة، وكعادته لم يكترث كثيراً فالأمر لا يهمه.

بعد قليل جاءت لينا راكضة إلى السيدة ميمي وهتفت في حماس:
_ لقد أنهيت طعام...

توقفت عن الحديث حين رأت أناس تجهل هويتهم، شعرت بالحرج الشديد فاحمرت وجنتيها خجلاً استشفه الجالسين، أرادت ميمي محي الخجل عنها حيث قالت مشجعة:
_ بالهناء والشفاء صغيرتي، تعالي لأقوم بغسل يديكِ

وجهت بصرها علي أخيها ومن معه وقالت معتذرة:
بعد إذنكم ثانية
_ عفواً منكما أهملاني ثانية

خرجت مع الفتاة بينما سألت إيمان بفضول أنثوي:
_ من هذه الفتاة يا يوسف؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي