الفصل الثاني

في أحد القرى الريفية البسيطة، قامت بأداء صلاة الفجر ثم بدأت في تحضير ما لذ وطاب لفلذة كبدها، ابنها البكري رب منزلهم، صنعت له جميع الأطعمة التي يحبها وتشتهيها نفسه، كما أنها أوصت أحد شباب البلدة بحضور فرقة موسيقية التى تحيي حفلات الزفاف لكي تستقبل غاليها استقبال حافل.

انتهت من الأعمال التي رتبت لفعلها ثم جلست على الأريكة الهذيلة التي جار عليها الزمن وترك أثره في خشبها وباتت ضعيفة هاشة، مالت برأسها على راحة يدها مستندة بمرفقه على جدار الأريكة في انتظار عودة ولدها.


"هل جاء أحمد يا أمي"
تسائلت الصغيرة ذات العشر أعوام متلهفة لعودته، أعدلت السيدة من ميل رأسها مجيبة إياها بفروغ صبر:
_ لم يصل بعد يا صغيرتي، اذهبي وابحثي عن أخيكِ "علي" ولا تعودي إلا برفقته، عليه أن يكون في استقبال أخيه حين يصل سالماً.

أماءت لها بقبول فهذا ما تريده "التسكع" بعيداً عن المنزل، فذلك من الممنوعات هنا في القرية أن تُحرم الفتيات من اللعب منذ عمر التاسعة لاعتقادهم أن هذا عار لعائلتها وفي المستقبل لن يتقدم أحد لخِطبتها.

بعد مدة غفت السيدة مكانها فلقد طال الإنتظار كثيراً، انتفضت من مكانها حين صغت إلى سؤال إحداهن:
_ ألم يصل أحمد بعد يا خالتى إجلال؟

تشدقت "إجلال" متهكمة وأجابتها بنفاذ صبر:
_ لا لم يصل بعد يا سعاد، أدعوا الله أن يعود إلي سالماً معافى

انتبهت كلتاهن على مكابح سيارت الشرطة التى لم تتوقف صافرتهم مُعلنا عن وصولهم، نهضت "إجلال" عن مقعدها وقد شعرت بشيء غريب داخلها ناهيك عن تلك الوخزة التي قبضت قلبها رعباً، لا تعلم لما هي باتت مذعورة لكنها تشعر بعدم الراحة فور رؤيتها لسيارات الشرطة.

خرجت من شرودها على صوت "سعاد" وعينيها مازالت معلقة على السيارة التي تقترب منهن وكأن منزلها المقصود:
_ لمن جاءوا هؤلاء يا تُرى؟

لم تجيبها فلم يكن لديها الشجاعة الكافية لتجاريها في الحديث، وضعت يدها على قلبها في انتظار سماع ما هو الأسوء على الإطلاق، توقفت السيارت أمام المنزل ثم ترجل منها بعض الظباط متسائلين عن منزل ما.

اجتمع أغلب أهالي القرية إثر وجود الشرطة في المكان ليعلموا سبب عن وجودهم، توجهت الأنظار جميعها على السيدة "إجلال" التي رجف جسدها وقُبض قلبها حين رأتهم يقتربون بخطاها منها.

وقف أمامها أحد الظباط ذات الرتُبة العالية والمكانة المرموقة وبهدوءٍ يسبق العاصفة أخبرها:
_ أنتِ المدعوة إجلال والدة العسكري أحمد نعمان فاضل؟

بصعوبة بالغة قابلتها في الحركة أماءت له مؤكدة هويتها فتابع هو ما عليه إخباره:
_ أنا اللواء أيمن البسيوني، البقاء لله يا أمي، ولدُكِ مات شهيداً

صراخ دون غيره دوى في رأسها، تريد العويل لكن لسانها قد شل تماماً، توقف عقلها فور تلقيها الخبر وشعرت بأن حركة جسدها قد تقيدت، تجمدت مكانها فقط تطالع من هم حولها في سكون مريب لم يشعر به البعض من خلف أقاويل الواقفين مثل: 
_ لا حول ولا قوه الا بالله رحمة الله عليه
_ كان أطيب الناسِ
_ آه عليك يابُني، مازال عمرك صغيراً جداً على الموت
_ ستموت والدته بأزمة قلبية حتماً
_ نحتسبه إن شاء الله شهيداً

شعرت السيدة "إجلال" بهزة قوية لم تعلم هوية فاعلها، فقط كلمات القائد يتردد صداها داخل عقلها لا تسمع أياً مما يتناولوه من حولها، تحاول ابنتها اختراق جدار عقلها لتأتي بإجابة تطمئنها لكنها تفشل في جذب انتباه والدتها فتابعت هزها بقوة أكبر:
_ من هؤلاء يا أمي، ماذا يحدث؟

ارتفع صراخ الفتاة بتوجس شديد حين سقطت والدتها مغشي عليها:
_ أمي، انهضي

تدخل شقيقها هاتفاً بذعر تملكه فور سقوط والدته:
_ أمي، أجبيني يا أمي

اقترب منه أحد أهالي البلدة مبعداً إياه عن والدته:
_ تعالى معي يا علي يجب علينا استلام جثمان أخيك، والنسوة سوف تساعدن والدتك

"جثمان وشهيد"
ماذا يهذي هذا الرجل، دفعه علي بقوته الصغيرة وظل يطالع من هم حوله بذهول، فعقله الصغير مازال لا يستوعب عن ماذا يتحدثون، اقترب منه القائد وأحاطه بذراعه وبهدوءٍ قال:
_ تعالى معي

سار معه علي وهو لا يعلم وجهته لكنه ارتاب هيئته وخصيصاً زيه الرسمي بينما اقتربت بعض النسوة من السيدة "إجلال" يحاولون إيفاقتها بشتى الطرق.

أشار القائد إلى "علي" بالصعود إلى أحد السيارات القاطنة في المكان، أمر عسكري كان يجلس بجوار الصندوق الخشبي أن يفتحه وبالفعل امتثل لأمره ووضع غطاء الصندوق جانباً فظهرت ملامح "أحمد" جيداً.

وضع "علي" كلتى يديه على فمه مانعاً خروج شهقاته القوية أمام الجميع، بأعين جاحظة ظل يطالع شقيقه وهو لا يصدق أنه بالفعل قد مات، أنه جثة كما أخبره ذلك الشرطي.

زم شفتيه التي ترتجف بشدة محاولاً السيطرة على عبراته لكن ألمه كان أكبر من أن يمنع بكائه في الخروج، سقطت عبراته على مقليته ومازالت عينيه مثبتة على أخيه، لا يقدر على فعل شيء سوى مطالعته دون إبداء ردة فعل.

في الخلف يحاول "يوسف" الصمود قدر المستطاع أمام ما يجري أمام مرأى عينيه دون أن يبكي، مشهد الفتاة وهي تجسي على ركبتيها تتوسل والدتها أن تنهض يؤلم قلبه، وقوف توأمها أمام شقيقه الأكبر مصدوماً من حاله يزيد من ألم جوفه، شعر بالإختناق يحتاجه بسبب بكائه الذي يحشره داخله، كتم أنفاسه بصدمة كبيرة اعتلت وجهه حين هتفت إمرأة من النسوة المحاوطين للسيدة "إجلال":
_ لا حول ولا قوه إلا بالله خالتي إجلال ماتت!!

حالة من السكون حلت لبرهة، فالجميع الآن بين ذهولاٍ وعدم استيعاب، مزيج من الخوف والرغبة في أن يكون ذاك كابوساً لا أكثر.

أخرجهم عويل الصغيرة وهي تهز والدتها بقوة تتوسلها بألا تتركها وحيدة، لم تكف عن النواح ولم ينجحن النسوة في تهدئتها بل كانت تزداد تمرداً كلما حاولوا إبعادها عن والدتها.

ترجل "علي" من السيارة بعدما أيقن أنه عليه مسايرة ما يحدث لكونه الرجل الوحيد الأن وعائل شقيقته، على الرغم من صِغر عمره إلا أنه عزم أن يكون جديراً بهذا الدور المفاجئ.

توجه ناحية شقيقته وأحاط كتفيها بذراعه ثم توجه بها داخل المنزل ومنه إلى غرفتها، أرغمها على الجلوس على الفراش وأشار إليها بالصمت فلم تطيل فيما تفعله وامتثلت لأمره دون مجهود منه.

عاد إلى الخارج وقام بمساعدة رجال الشرطة وبعض من أهالى البلدة في توصيل أحبته إلى مثواهم الأخير ومن ثم عاد برفقة القائد الذي حرص على عدم مغادرة المكان قبل أن يسلمهم لأحد أقاربهم.

"أين هم أقارب المرحومين، ليظهروا حتى نسلمهم الأطفال"
صاح "أيمن" غاضباً حين لم يرى من الأقارب حاضرون، توجه إليه الحاج "حسان" من كبار البلدة وقام بالرد عليه:
_ لديهم شقيق والدتهم وهذا لم يكن على علاقة وطيدة بهم فبينهما مشاحنات عِدة بسبب الميراث، ولديهم من الأعمام اثنين لكن هناك واحداً توفاه الله والآخر خارج البلاد.

نفخ "أيمن" بضجر بائن وحاول الوصول إلى خالهم بقوله:
_ ليدلني أحدكم عن منزل خالهم، لأذهب بنفسي إليه وأُسلمه الأطفال

أعطاه "حسان" عنوان خالهم فانصرف "أيمن" برفقة رجاله ويوسف متجهين إلى المنزل المقصود، توقفت السيارات خلف بعضهم أمام المنزل ثم ترجلا "أيمن" و"يوسف" وسارا خلف بعضهم نحو الباب الذي طرقه "أيمن" بقوة.

فُتح الباب بعد لحظات من قِبل رجل سمين يرتدي سُترة بيضاء وسروال قطني واسع بعض الشيء، حدجهم بنظرات مرتابة حين رأى سيارات الشرطة وكذلك الزي الذي يرتديه أيمن، حمحم وسالهم بتلعثم ونظراته تمرر بين الواقفين:
_ ماذا هناك أيها الضابط؟

بحزم ونبرة جادة عرف "أيمن" عن هويته:
_ أنا اللواء أيمن البسيوني، جئت إليك لكي أُسلمك أبناء شقيقتك رحمة الله عليها وذلك لأن أخيهم الأكبر قد استُشهد أمس 

الأن فهم الأمر، حرك رأسه حين أطمن قلبه لعدم وجود أمرا يدينه ثم فرد قامته المنحنية وبجمودٍ أبدى لامبالاة لحديثه:
_ رحمة الله على الجميع، انظر أيها الضابط لا يوجد لدي شقيقة ولا أعلم عمن تتحدث، هما لا يعنوني وأرفض البتة استلام أياً منهما

كاد أن يغلق الباب في وجههم إلا أن "أيمن" لحق به وبملامح غاضبة انفعل عليه:
_ بالتأكيد أنت مختل، أين مروءتك وشهامتك يا رجُل، لقد أخبرتك للتو أن والدتهم وأخيهم قد توفاهم الله وأنت تخبرني أنهما لا يعنوك؟!

قلب الرجل عينيه بإزدراء وحدثه بفتورٍ:
_ نعم لا يعنوني، خذهم أنت وقُم بتربيتهم

لم يستطيع "أيمن" كبح غضبه تلك المرة، اقترب منه وكاد أن يفتك به إلا أن تَدخُل "يوسف" منعه من الوصول إليه، وقف "يوسف" حائلاً بينهما وحاول تهدئة روعه:
_ اهدأ قليلاً، لا يجدر عليك فعل ذلك

نهره أيمن بعصبية بالغة:
_ ألا ترى ماذا يهذي هذا الحقير؟

انتبه أيمن لخروج سيدة في مقتبل الثلاثينات تبدوا أنها زوجته، قامت بترديد بعض الكلمات في أذنه وبعد ذلك لاحظ الجميع هدوء الرجل وتحول حالته:
_ تراجعت عن قراري، سوف أتسلم الأطفال

لم يطمئن يوسف لتلك الموافقة المفاجأة فمن يراه قبل ثوانٍ يظن أنه بلا قلب فما حدث في تلك الدقائق المعدودة لكي يبدي موافقته برعايتهم حتماً هناك ثمة حقارة ستُحاك ما إن أطمئن ذلك الرجل بذهاب رجال الشرطة.

انسحب أيمن ورجاله بينما لم يبرح يوسف القرية قبل أن يتأكد بنفسه من رعاية الرجل للأطفال، انتظر حتى تأكد من ذهاب السيارات وعاد إلى المنزل لا يعلم كيفية الوثوق في الرجل، في النهاية هما وصية صديقه وواجب عليه الاطمئنان عليهم.

شعر بالتعب ينهال منه بسبب عدم نومه مدة طويلة ناهيك عن كل الأحداث التي سلبت طاقته كاملة، جلس أرضاً أسفل نافذة المنزل ولم يشعر بعينيه التى زاغت في النوم، قلق على نبرة غاضبة تصيح عالياً:
_ لا أعلم لماذا قمت بسماع تراهاتك السخيفة واستلمت هؤلاء الحمقى، ماذا سأفعل بهم الآن؟

أخفضت زوجته من نبرتها وبدهاء ماكر أردفت:
_ لابد من موافقتك أمام الضابط حتى يذهب من هنا، والآن عليك إخراجهم من منزلي على الفور، اذهب بهم إلى أقرب دور أيتام ثم عُد في الخفاء سريعاً دون أن يراك أحدهم

ظهرت إبتسامة خبيثة لدهاء زوجته اللامحدود وتمتم مفتخراً بها:
_ أحسدكِ على أفكارك الشيطانية، سوف أذهب أنا لإلقاء هؤلاء الأغبياء في مكانٍ ما بعيداً عن هنا وأعود قبل أن تشرق الشمس ويراني أحدهم

كان يصغي لحوارهما بذهول شديد أهناك بشر بتلك الأخلاق المتدنية؟، حمد الله على عدم ذهابه وبقائه في الوسط، تخفى يوسف خلف أحد الأشجار المجاورة للمنزل، انتظر خروج ذلك الرجل البغيض وتبعه حارصاً على عدم انتباه الآخر له، بعد سير بالأقدام ما يقرب على الثلاثون دقيقة وصلا الرجل إلى مرداه.

"دار البدور لإعالة الأيتام"
قرأ يوسف المدون على اليافطة الورقية التي تعلو باب ذاك المبني العريق، شعر لوهلة بأنه سيهدم إن مرت عليه ريح عاتية بسبب قِدمه.

سحب الرجل يديه من بين كفوفهم الصغيرة ثم أولاهما ظهره ليعود حيثما جاء، تبعته الصغيرة متسائلة في خوف:
إلى أين أنت ذاهب يا خالي، أسوف تتركنا بمفردنا؟

لم يتعب نفسه في النظر إليه وألقى مافي جوفه على نفس وضعه:
_ سوف أعود إلى دياري، انتظروا أنتم هنا فلن أتحمل مسؤوليتكما، أنتما مصيبة على الرأس ولست مستعداً لمواجهتها.

أنهى جملته وتابع سيره عائدا إلى منزله بينما أجهشت الفتاة باكية بمرارة الفراق مختلطة بالخوف فالمكان شديد الظلام من حولهما، هدوء مخيف خشته كثيراً، حاول "علي" تهدئة روعها على الرغم من خوفه الشديد هو الآخر، عانقها بقوة وملس على خصلاتها بحنو دون حديث.

صرخت الفتاة عالياً حين شعرت بظلام داهمهما، استدار "علي" بمروءة لكي يحمي شقيقته من ذاك الدخيل، أوقفها خلفه ونظر إليه فشعر بأنه سبق ورأى تلك الملامح من قبل، نعم لقد تذكره أنه كان برفقة رجال الشرطة على ما يبدوا أنه واحد منهم.

_ "تعاليا معي"
أردفها يوسف بعدما حسم بألا يعود من دونهما، قابل جمودٍ مصحوب بالخوف في ملامحهما فأراد طمأنتهم ناحيته:
_ اطمئنوا أنا صديق شقيقكم أحمد، وهو من أخبرني بأن اعتنيا بكما في حين حدوث مكروه له، هيا تعاليا معي لنعود معاً إلى منزلي

شهقت الفتاة بذعر وكأنه اقترف خطأ فادح، اقتربت من أخيها وهمست له لكن نبرتها كانت واضحة ليوسف:
_ حذرتني أمي من الذهاب مع الرجال وخصيصاً دخول بيوتهم

أسرع يوسف في توضيح سوء الفهم الحادث بقوله:
_ لا تقلقي لست أمكث في المنزل بمفردي، فهناك والدتي وأخي الصغير في نفس عمركما، بالإضافة إلي وجود أخيكِ ألا يكفي؟

اختبئت الفتاة خلف أخيها بخوف فلم يجد يوسف ما يفعله ليطمئن قلبها، أولاهما ظهره وطالع السماء لعله يأتي بفكرةٍ يمكنها إقناعهما، تنهد بضجر بائن فلا أفكارٍ مناسبة لديه في تلك الأثناء.

بعد مرور عدت دقائق راودته فكرة تمنى نجاحها وبدأ على الفور في تنفيذها، بحث عن هاتفه في جيبه، كان مغلقا حتماً أثار القلق في قلب والدته الآن، لكنها بالتأكيد ستلتمس له العذر إن علمت بما مر عليه منذ البارحة.

هاتفها على الفور حين أعيد تشغيل الهاتف، جائه صوتها القلق من الجانب الآخر:
_ أين أنت يابُني ولماذا هاتفك مغلق إلى الآن، لقد قلقت عليك بشدة وخشيت أن يكون أصابك مكروه

أخذ نفساً قبل أن يردف بنبرة مرهقة:
_ أنا بخير يا أمي، سأخبركِ بحقيقة الأمور عندما أعود بإذن الله

اقترب من الصغيران وتعمد فتح مكبر الصوت وتابع استرساله وعينيه معلقة على الفتاة حتى يبث فيها الطمأنينة:
_ بالمناسبة يا أمي، برفقتي زميلان وأريد اصطحابهما إلى المنزل لكنهما محرجان من وجودك ولا أعلم ما علي فعله الآن!

أسرعت والدته هاتفة بإسيتاء واضح:
_ أي حرج يتحدثون عنه، فإن لم تسعهم الأرض أحملهم فوق رأسي، أعطهم الهاتف حتى أتحدث معهم بنفسي، لكن أخبرني أولاً من هما؟ هل من أصدقائك الذين أعرفهم؟

شعر يوسف بالراحة من خلف كلمات والدته العفوية التي نجحت في تبخر القلق من عيناي الفتاة، لقد استشف ذلك حين أزاحت يدها من على ذراع شقيقها .

أعاد وضع الهاتف على أذنه كما أغلق المكبر وأجابها ممتناً:
_ لا، لا تعرفيهما يا أمي لكنكِ سوف تحبينهما كثيراً، والآن سوف أغلق، لا تقلقي علي، أمامي مايقرب الساعتين حتى أصل إليكِ

أنهى الإتصال وأعاد النظر إليهما، مد يده لهما وشجعهم على العودة معه:
_ تأكدتوا بأني لست بمفردي، هيا بنا نرحل من هنا قبل أن نفوت ميعاد القطار

اقتربت الفتاة أولاً فكانت دوماً ما تتحدث هي وتبادر في فعل كل شيء عكس أخيها تماماً، صامت لا يتحدث منذ أن رآه، حتماً من أثر الصدمة، عزم يوسف بأن يحادثه لكن أولاً عليهما العودة إلى الديار ليكون معه على انفراد.

أمسك كليهما بيديه فصاح يوسف وهو لا يدري وجهتهم الصحيحة:
_ أنا أجهل الطُرق هنا، إذا أمكن تُعِلِمُوني طريق العودة حتى نجمع ثيابكما قبل أن نغادر

سحب "علي" يده من بين يدي يوسف وتقدم بخطوات راكضة إلى الأمام، أسرع يوسف في اللحاق به لكي لا يفقده محذراً:
_ انتظر يا علي سوف نَضِل طريقنا

أنتبه على صوت الفتاة وهي تحلل سبب ركض أخيها:
_ إنه سوف يعود بنا إلى الديار، هو على عِلم بجميع الطرقات، أنا لست بماهرته لا أعلم سوى ما يحيط بمنزلنا فقط

أماء لها يوسف بتفهم ثم أسرع من خطواته لكي يلاحق خطوات الفتى، عادوا إلى ديارهم فوقف يوسف يطالع الباب بخيبة أمل أخرى، فكيف سيفتحه الآن بالتأكيد لن يكسره!

تأفف بضجر فكلما شعر بأنهما قد اجتازا خطوة يعود إليها من جديد، صاح متسائلاً لربما يملكون حلاً:
_ كيف سنقوم بفتح ذلك الباب؟

هرولت الفتاة نحو البساط الكائن أمام الباب وسحبت من أسفله مفتاح المنزل ثم قامت بإعطائه ليوسف مرددة:
_ تضع أمي مفتاح احتياطياً أسفل البساط نستخدمه في الحالات الطارئة

رمقها يوسف بنظرات مشفقة على حالهم الذي تبدل تماماً، حاول ألا يتأثر كثيراً فهناك قطار عليهم لحاقه قبل أن أن يمر ميعاده، أسرع ناحية الباب وقام بفتحه ثم استدار إليهما وحثهم على الإسراع:
_ أحضروا ماهو ضرورياً بالنسبة لكما في أسرع وقت ممكن

هرولت الفتاة أولاً إلى غرفتها بينما لاحظ يوسف عدم تحرك الصبي وعينيه مصوبة على نقطة ما خلفه، التفت برأسه ليرى على ماذا ينظر فتفاجئ بالأطعمة الموضوعة على الطاولة، يبدوا أنه كان هناك استقبال حافل ينتظر صديقه رحمة الله عليه.

شعر بغصة مريرة في حلقه كما شعر بحرارة العبرات التى سقطت كالشلال على مقلتيه حزناً على رفيقه، لقد كان عاماً فقط من وقت تعارفهم إلا انه التمس فيه مروءة وشهامة أحمد، لقد كان حقاً خير صديق.

مسح عبراته بأنامله ثم أعاد النظر إلى علي، دنى منه وربت على كتفه مآزرا إياه في محنته:
_ أريد منك أن تضعني في اعتبار الأخ من الآن، أنا هنا دائماً إذا كنت بحاجة إلى التحدث

اكتفى علي برمقه بنظرات جامدة، حاول يوسف مساعدته فقال:
_ هيا أرني غرفتك لأساعدك في تحضير حقيبتك

توجه علي إلى غرفته فتبعه يوسف، طالعها بآسى وحسرة حين اكتشف أنها غرفة مشتركة له ولأخيه، ساعده بما استطاع فعله وكان يختلس النظر على الصورة الفوتوغرافية الموضوعة أعلى الكومود من حين لآخر وهو يدعوا له بالرحمة.

أنهى ثلاثتهم تجهيز مستلزماتهم ووقفوا في منتصف الردهة يطالعون المنزل للمرة الأخيرة، ابتسم يوسف حين جائته فكرة ما وعزم على تنفيذها لكن لن تحدث إلا بمساعدة الصِغار.

تنهد وبنبرة متحمسة وجه حديثه لهما:
_ أريد منكما أن تساعداني في تعبئة الطعام قبل أن يفسد

تدخلت الفتاة متسائلة في فضول:
_ ماذا ستفعل به؟

وضح لها يوسف ما يريد فعله مختصراً:
_ خذوا حاجتكم منه لتتناولوه أثناء عودتنا في القطار والبقية سوف نقوم بتوزيعه على المساكين

تحمست الفتاة لما أخبرها به وهللت عالياً:
_ ونطلب منهم الدعاء لأمي وأحمد؟

تلألأت العبرات في عيناي يوسف مشفقاً عليها، أخذ شهيقاً عميق وحاول استعادة نفسه سريعاً وأعاد ترديد كلماتها كتأكيد لها:
_ ونطلب منهم الدعاء لوالدتك وأحمد رحمة الله عليهم

ابتسمت له برقة ثم شرع ثلاثتهم في وضع الأطعمة في أكياس بلاستيكية ثم قاموا بوضع جميعها في حقيبة قماشية تعود للسيدة إجلال كانت تستخدمها لوضع الخضراوات والفاكهة فيها حين تقوم بشرائهم حتى يسهل عليها حملهم.

أحكم يوسف من إغلاق باب المنزل جيداً ثم تابع سيره متجهاً إلى محطة القطار التي دله على طريقها "علي" دون حديث فقط يسبقهم بخطواته وهم يتبعانه.

حل الصمت مدة طويلة قبل أن تقطعه الفتاة بسؤالها:
_ لماذا تركنا خالي في منتصف الطريق وغادر؟ أليس هو عائلنا الوحيد ويجدر عليه حمايتنا؟!

توقف يوسف عن السير والتفت برأسه إليها وطالعها لوقت، لقد ذكرته بسؤالها عما غاب عن ذهنه، فغر فاهه وقام بسؤالهم مستفسراً:
_____
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي