الفصل الثاني
ما إن عرف ديفيد بهوية تلك الفتاة التي أمامه حتى صدم، فلم يتوقع أن يجد أميرة مملكته بمفردها هنا دون أي حرس أو مرافق لها.
لكن إليزابيث فهمت صدمته بطريقة أخرى، إنتظرت منه أن ينحني أمامها كي يحييها كعادة كل من يلتقون بها، هذا الأمر الذي تكرهه كثيراً.
ما لم تعرفه سبب ألم قلبها؛ مجرد تخيلها قيامه بذلك، لكن رد فعله لم تتوقعه منه، أو بالأدق من أي فرد من العامة:
- كيف تم السماح لك أن تتجولي بمفردك؟ دون حرس يقوم بحمايتك! أليس لروحك أي قيمة لديهم أم ماذا!
صرخت به غاضبة بسبب طريقة كلامه لها وقالت:
- من تظن نفسك لكي تتكلم معي هكذا؟! دعني أذكرك أن خروجي بمفردي أو بحرس هو شأني الخاص، وهذا لا يعنيك أبدا.
بعد إنتهاء كلامها أشارت له بأصابع يديها البيضاء الصغيرة تأمره بالانصراف.
كان يتحدث بداخله بأن لديها كل الحق في غضبها منه، فلا شأن له بها، ولكن لا يعرف لماذا شعر بالخوف عليها مع أنها لا تعني له شيئا، لكن ما إن أشارت له بتلك الطريقة المتعالية تأمره بالإنصراف كأنه حشرة مزعجة ٱمامها تأمرها بأن تغرب عن وجهها، حتى تدفقت الدماء الحارة بعروقه من شدة غضبه، ووجد نفسه يمسكها من كتفها يهزها بغضب قائلاً:
- أيتها الطفلة الصغيرة المدللة، ألم تتعلمي كيف تحترمي الآخرين، حتى لو كانوا من طبقة أقل منك، أَم نشأتك المتعجرفة علمتك فقط إزدراء من هم أقل منكِ مرتبة، وأيضاً أريد أن أخبرك عن رأيي بك، ألا وهو أنك مجرد طفلة لا تفعل أو تفقه شيئاً بحياتها سوى ركوب الخيل وشراء الملابس وحضور الحفلات التافهة،لا يحق لها التحدث معي بتلك الطريقة لمجرد أنها ورثت لقب الأميرة دون استحقاقه! هذا غير أنك لا تعرفي معنى الشكر، يا لكي من متكبرة.
ما إن أنهى حديثه حتى أبعدها عنه بقسوة شديدة دون قصد منه، ووضع يديه في جيوبه ينظر لها بقسوة، غير مكترث لتلك الدموع التي تتساقط بغزراة على خديها شديدي الحمرة بسبب عنفه معها التي لم تتلاقه من قبل في حياتها كلها.
بينما هي كانت تنظر إلى الأرض، تبدو لمن يشاهدها الآن طفلة تم تأنيبها بواسطة والدها بسبب خطأ قد إرتكبته
أكمل حديثه بعد أن هدأ:
- عندما رأيتك قبل أن تسقطي من فوق الحصان اعتقدتك..
صمت فجأة مبتلعاً ريقه بصعوبة، ثم أكمل مردفاً وهو ينظر بعيداً عنها:
-على ما يبدو أنما سأقوله لا يهم الآن.
تركها وغادر بعد أن قال تلك الجملة الغامضة
دون أن ينتظر رد منها.
ما إن غادر حتى جلست على الأرض، تبكي بشدة، فلأول مرة تشعر بهذا الكم من الإهانة والذل، لكن لما تشعر بأنها استحقت ذلك الكلام بدلاً من الغضب منه ومعاقبته لفعل ذلك! فلو عرف أي شخص من عائلتها بما فعله معها الآن لتم فصل رأسه عن جسده!
بعد مرور عدة أيام، كان الأمير أليكسندر يجلس مع والده الملك والأرشيدوق يناقشون أمور المملكة، حتى قاطعهم دخول الأمير إيفان فنظروا إليه كلاً من الملك والدوق ماركس بإستغراب عن سبب مجيئه، ليقول أليكسندر لهم بدون إكتراث:
-لقد أرسلت بطلب حضور الأمير إيفان، كي يحضر إجتماعنا فهذه مملكته أيضاً، ولقد حان الوقت له لمعرفة ما يحدث بها، هذا طبعاً بعد إذن جلالتك.
جلس إيفان بجوار أخيه وهو يشعر بالسعادة، لينظر والدهم بفخر على ولي عهده موافقاً على قراره، فلطالما شعر بالخوف على أبنائه بعده موته من إمكانية حدوث نزاع فيما بينهم بسبب العرش، ولكن ما يحدث أمامه الآن لم يشاهده قبلاً، ولا بينه وبين أخيه الأصغر الذي توفى بسبب تمرده عليه مما تسبب ذلك في إعدامه.
وما إن إنتهى الإجتماع حتى خرج الدوق، وظل الأب وأبنائه سوياً، وما إن هم إيفان بالإنصراف حتى أخبره والده بأن يبقى فهناك شيء يريد أن يخبرهم به:
- أبنائي الأحباء لا تعرفون كم أشعر بالسعادة من الذي يحدث بينكم هذه الأيام من وفاق وإحترام، أجد مدى قربكم لبعض من مجرد رؤيتي لكم، فهذه العلاقة يجب أن يكون دائماً، ولا تسمحوا لأي شخص في تفرقتكم فوحدتكم هي سر قوتكم.
رد عليه إيفان بسعادة:
- لا تقلق يا والدي لن يستطيع أي شخص تفريقنا، ولا حتى الشيطان بحد ذاته، فأنا أحترم أخي الأكبر وأجد أنه الشخص الوحيد الأحق بخلافتك بعد عمر طويل لك، وسأحميه بروحي، وأيضا أريد أن أخبرك أني لن أطمع بالعرشما حييت، أدامك الله لنا يا والدي فوق رؤوسنا طول العمر.
دمعت عينا الملك بفخر، كم هو فخور به الآن وتمنى لو كان سمع هذه الجملة أيضاً من أخيه المرحوم ولو لمرة واحدة، حينها لم يكن سيأمر بإعدامه وكان الآن مازال بجانبه، إعترف بنفسه أنه وفق في ترك أمر إيفان لأليكسندر، ولفت انتباهه رد فعل إبنه على كلام إيفان لينتبه لما سيقوله له:
أليكسندر بابتسامة:
- إيفان أنت لا تريد العرش لكي لا تتزوج، فمن واجب ولي العهد أن يتزوج، وأنت لا تريد ذلك.
رد عليه إيفان بمكر، بينما كان سعيداً بأن أخيه يمازحه:
- أليكس عزيزي أنت تفهمني جيداً، فأنا كالطير يهاجر من مكان إلى مكان، لا يحب البقاء في مكان واحد.
ضحك كلاً من أليكسندر والملك على كلامه.
قال الملك بجدية بعد توقفهم عن الضحك موجهاً كلامه إلى إبنه الأكبر أليكسندر منتهزاً فرصة حديثهم عن الزواج:
- لقد وجدت لك عروس جميلة يا بني، بها خصال رائعة سوف تنال إعجابك.
قطب أليكسندر جبينه فور سماع حديث والده له، فهو لا يريد أن يتزوج بتلك الطريقة ولكنه واجب وعليه تنفيذه.
كم تمنى دوماً بأنه لم يولد الأول، لكي لا يحمل ذلك العبء الذي فوق كتفيه، ولكنها إرادة الله ليقول ببطىء:
- هل أستطيع أن أخمن من هي، فأنا أعرف كل الفتيات النبيلات هنا.
صَفَّر إيفان متناسياً الآداب الملكية، ما أن سمع حديث أخيه مردفاً:
-لم أعتقد انك تهتم بالفتيات أخي لدرجة معرفتك لهن.
غضب أليكسندر دون وعي منه:
-كيف تجرأ وتفعل ما فعلته الآن، ما الفرق بينك وبين العامة.
صمت كي يهدأ قليلاً، ثم قال له:
-لست مهتماً بتلك السطحيات، ولكن بما أنني أعرف مصيري وهو الزواج بإحداهن، كان علي التحري عن جميع الفتيات النبيلات، كي لا أقع بأي خطأ غير مقصود وهو الاختيار الخاطئ.
قال والدهم وهو يعرف بداخله أنه يضغط على إبنه:
- أحسنت بني، لطالما كنت فخور بذكائك ولكن التي إخترتها لك لم تنشأ هنا.
انصدم كلاهما، فالمعروف هو أن على ولي العهد أو أي فرد من النبلاء، عدم الزواج من العامة حتى لو كانوا من الأثرياء.
رد عليه أليكسندر قائلاً:
-لكن يا والدي أنت تعرف..
قاطعه الملك قائلاً:
- أتريد أن تذكرني بقوانين مملكتي بني؟! أنسيت أنني الملك؟!
إنحني أليكسندر مسرعاً، ما إن قال والده ذلك معتذراً، ليردف له قائلاً:
- فلتغفر لي زلة لساني، جلالتك.
رد على إبنه مبتسماً:
-إرفع رأسك أليكسندر فأبنائي لا ينحنون لا تنسى ذلك، من أريدك أن تتزوج بها هي إبنة أخي الراحل.
إيفان دون تفكير:
-لم أكن أعرف أن لدينا إبنة عم.
رد أليكسندر على كلام أخيه بينما كان ينظر إلى والده:
- لست وحدك أخي هنا الجاهل بأمر مهم كهذا.
رد الملك عليهم بهدوء:
-أنا أيضاً لم أكن أعرف سوى من فترة قريبة، فيبدو أن أخي آرثر أخفى عني حمل زوجته، ما إن قرر سلبي العرش خوفاً من أن أعدمهم معه إن فشل في مخططه، ما لا يعرفه أني لم أكن لأفعل ذلك حتى لو كان القانون ينص على ذلك.
هنا قال إيفان بتسرع:
- لكنك قتلته و..
صرخ أليكسندر به مقاطعاً كلام أخيه،بينما كان يمسك برقبته:
- كيف تجرؤ على قول ذلك.
قال والدهم بحزن:
-دعه أليكسندر فهو لا يعرف ما حدث، ومن حقه أن يعرف، لكن ليس الآن.
إبتعد أليكسندر عنه، وهو ينظر إليه بغضب ليقول إيفان آسفاً لما حدث:
- لم أقصد أن أجرحك يا والدي بحديثي، لكن لطالما أردت معرفة حقيقة موت عمي الوحيد.
قال والده بطريقة يحاول أم يهدأ بها إبنه وهو يطلب من الصبر:
-لا تستعجل بني، سوف أخبرك بالحقيقة يوماً ما، لكن ما يجب أن تعلم بأنَّ والدك قد تعرض للخيانة.
ما إن سمع إيفان حديث والده الحزين، شعر بالحزن و الخزي من نفسه فيبدو أن والده لا يثق به كرجل ناضج يستطيع تحمل الحقيقة، هذا الأمر قتله في صميم قلبه، ليقول بصوت غير مكترث خافياً بذلك حزنه وانكساره:
- كما تريد أبي والآن اعذروني، هناك أمر يجب علي فعله بعد قليل.
إنصرف قبل سماع أي رد منهم خوفاً من أن لا يستطيع السيطرة على مشاعره، فهو إن تحكم بها الآن لن يستطيع التحكم بها بعد قليل.
ما لا يعرفه أن عيناه قد فضحته، ولما لا والموجود أمامه هو والده وأخيه الذين هم أكثر الناس دراية به.
ما إن غادر حتى إلتفت أليكسندر إلى والده مردفاً:
-لا تحزن والدي سيأتي يوم ويتفهمك.
تنهد الملك وأغمض عيناه يتسائل هل أخطأ أنه لم يخبر إبنه على ما اقترفه عمه الحبيب، وأنه حاول قتله عندما تم خطفه عندما كان صغيراً، لذلك قام بإعادمه.
ما إن خرج إيفان حتى قرر الذهاب من القصر، لعله ينسى بذلك الألم الذي شعر به، جلس بالحديقة ليتذكر مقابلته لأخته منذ يومين.
قابل إليزابيث قادمة من الإسطبل وملابسها متسخة لينصدم من رؤيتها فيقول لها:
-مدللتي الصغيرة هل كنت تحاربين أم ماذا؟!
ما إن شاهدته إليزابيث حتى خفق قلبها من شدة الخوف، فهو مهما كان رقيق القلب، سوف يغضب إذا علم ما حدث ويتحول إلى شخص آخر، لكن يصادف أن أحد الأمور التي قد تغضبه حدوث شيء لها مهما كان صغيراً، وإذا علم بما حدث معها مع ديفيد سيقطع رأسه على الفور وهي لا تريد ذلك.
قررت إستفزازه محاولة منها تغيير الموضوع قائلة:
-إيفان أمازلت حياً؟! إعتقدت أن والدنا الحبيب قد قتلك بسبب شيء لم أعرفه بعد.
ضحك على تلك الطفلة الصغيرة، التي لم تكبر بعد،
فهو يعرفها جيداً، ويبدو أن هناك شيئا لا تريد منه أن يعرفه، لا بأس بذلك مادامت بخير.
قرر مسايرة حديثها، قال بغضب مصطنع:
- ما الذي تقوليه لي الآن؟ يبدو أننا أكثرنا من تدليلك كثيراً، لدرجة جعلتك تنسي كيف تحترمي من هم أكبر منك سنناً.
فور سماعها لقول أخيها حتى أدمعت عيناها وتألمت، هي لم تحزن بسببه فهي تعرف أن إيفان يمزح معها، ولكن كلامه ذكرها بما قاله لها ديفيد.
قطب إيفان حاجبيه من النظرة الحزينة التي إرتسمت على وجه شقيقته والدموع التي تتلألأ في عينيها، قد تسقط في أي وقت، ليأخذها بحضنه معانقاً لها بقوة، ثم همس لها قائلاً بعد أن أخطأ فهم حزنها:
- لم أقصد أن أجرحك، كيف لم تعرفي بأنني أمزح معك؟
ردت عليه قائلة بصوت ضعيف من شدة حزنها الذي لم يلحق أن يجف وينتسى:
- أعرف، اعذرني أخي لم أقصد أن أقلقك، لكن لا أعرف ما بي هذ الأيام صدقاً.
بعد أن أنهت حديثها حتى ضحكت محاولة منها إضفاء بعض المرح، بعد أن كان ساد صمت بينهم، أردفت بعدها قائلة:
-يبدو أنني قد جننت وسوف يكتب عني بالتاريخ أنني الأميرة المجنونة.
قاطعها إيفان ضاحكاً:
- أنا من سأجعل المؤرخ يكتب ذلك إذا لم أعرف الآن، ما إذا كنتي تبكين أم تضحكين! لأن على ما يبدو أنني لم أعد أفهم ما يحدث معك.
ردت عليه بسرعة قائلة:
-أنا بخير حقاً، صدقني يا إيفان، كل ما أريده الآن هو النوم، لذلك سوف أتركك وأذهب كي أرتاح قليلاً...
قبل أن تكمل حديثها وجدت الخادمة تنحني لهم برأسها تحييهم، ثم تقول وعيناها مازالت علي الأرض، توجه الحديث لها:
- سمو الأميرة، جلالة الملكة تريدك بغرفتها بعد عصر اليوم.
ثم إنصرفت بعد أن أمرتها إليزابيث بذلك، لكن ليس بيديها كالعادة:
- حسناً يمكنك الإنصراف
ثم قالت لأخيها بحنق مصطنع:
- أردت القول لك، بأنني أريد الذهاب إلى النوم كي أرتاح قبل أن تناديني جلالة الملكة، و تبدأ دروسها معي حول تعليمي ما معني أن أكون أميرة.
ضحكت مع إن إنتهت من الحديث مما جعله أخيها يضحك هو الآخر، لكن إليزابيث توقفت عن الضحك ما إن وجدت شقيقها ينظر اليها بنظرة غريبة، قالت له:
- لما تنظر لي بتلك الطريقة الغريبة؟!
رد عليها يجيبها بهدوء:
- مندهش فقط.
ردت عليه بتساؤل:
- ما سبب إندهاشك الآن؟ أنا لم أفعل شيئاً يستدعي ذلك.
إيفان بابتسامة هادئة:
- بل فعلت فلأول مرة أجدك لطيفة مع الخدم.
أجابته وهي تشعر بغصة في حلقها:
- حقاً! لم أكن أعرف أنني كنت متعالية هكذا.
رد عليها ممازحاً إياها:
- يحق لك التعالي عزيزتي.
إليزابيث:
- مضحك جداً.
توقفت عن الكلام ثم قالت بتأفف طفلة صغير تم منعها من الحلوى:
-سأذهب الآن كي أجهز، لأن والدتنا الحبيبة قد تقتلني إذا تأخرت عليها، وأنا كما تراني جيداً لست مستعدة لمقابلتها حيث أريد قبل رؤيتها أن أغفو قليلاً بغرفتي.
تركته وغادرت دون أن تهتم لما يفكر به، عن ما يحدث معها فلقد شعر بأن بها شيئاً مختلف، لا يعرف ما هو!
هذا ما جعله يتذكر تلك المحادثة التي مرت بينهم، فعلى ما يبدو أن هناك ما يزعج أخته ويوترها، قرر الذهاب إليها كي يتحدث معها لربما تخبره بشئ دون وعي منها، أو تكون هدأت قليلاً وبذلك تقول له ما كان يوترها ويحزنها، وسبب تغيرها في معاملتها لتلك الخادمة، هل هناك شئ يحدث معها.
شعر بالتعب بسبب جلوسه الحديقة ودرجة حرارة عالية اليوم، وقف كي يذهب إلى غرفته كي يستريح قليلاً بها ثم يذهب إلى شقيقته كما قرر أن يفعل فهو لا يريد أن تشعر بالوحدة مثله عندما لا تجد من تتحدث معه عن أحزانها.
لكن إليزابيث فهمت صدمته بطريقة أخرى، إنتظرت منه أن ينحني أمامها كي يحييها كعادة كل من يلتقون بها، هذا الأمر الذي تكرهه كثيراً.
ما لم تعرفه سبب ألم قلبها؛ مجرد تخيلها قيامه بذلك، لكن رد فعله لم تتوقعه منه، أو بالأدق من أي فرد من العامة:
- كيف تم السماح لك أن تتجولي بمفردك؟ دون حرس يقوم بحمايتك! أليس لروحك أي قيمة لديهم أم ماذا!
صرخت به غاضبة بسبب طريقة كلامه لها وقالت:
- من تظن نفسك لكي تتكلم معي هكذا؟! دعني أذكرك أن خروجي بمفردي أو بحرس هو شأني الخاص، وهذا لا يعنيك أبدا.
بعد إنتهاء كلامها أشارت له بأصابع يديها البيضاء الصغيرة تأمره بالانصراف.
كان يتحدث بداخله بأن لديها كل الحق في غضبها منه، فلا شأن له بها، ولكن لا يعرف لماذا شعر بالخوف عليها مع أنها لا تعني له شيئا، لكن ما إن أشارت له بتلك الطريقة المتعالية تأمره بالإنصراف كأنه حشرة مزعجة ٱمامها تأمرها بأن تغرب عن وجهها، حتى تدفقت الدماء الحارة بعروقه من شدة غضبه، ووجد نفسه يمسكها من كتفها يهزها بغضب قائلاً:
- أيتها الطفلة الصغيرة المدللة، ألم تتعلمي كيف تحترمي الآخرين، حتى لو كانوا من طبقة أقل منك، أَم نشأتك المتعجرفة علمتك فقط إزدراء من هم أقل منكِ مرتبة، وأيضاً أريد أن أخبرك عن رأيي بك، ألا وهو أنك مجرد طفلة لا تفعل أو تفقه شيئاً بحياتها سوى ركوب الخيل وشراء الملابس وحضور الحفلات التافهة،لا يحق لها التحدث معي بتلك الطريقة لمجرد أنها ورثت لقب الأميرة دون استحقاقه! هذا غير أنك لا تعرفي معنى الشكر، يا لكي من متكبرة.
ما إن أنهى حديثه حتى أبعدها عنه بقسوة شديدة دون قصد منه، ووضع يديه في جيوبه ينظر لها بقسوة، غير مكترث لتلك الدموع التي تتساقط بغزراة على خديها شديدي الحمرة بسبب عنفه معها التي لم تتلاقه من قبل في حياتها كلها.
بينما هي كانت تنظر إلى الأرض، تبدو لمن يشاهدها الآن طفلة تم تأنيبها بواسطة والدها بسبب خطأ قد إرتكبته
أكمل حديثه بعد أن هدأ:
- عندما رأيتك قبل أن تسقطي من فوق الحصان اعتقدتك..
صمت فجأة مبتلعاً ريقه بصعوبة، ثم أكمل مردفاً وهو ينظر بعيداً عنها:
-على ما يبدو أنما سأقوله لا يهم الآن.
تركها وغادر بعد أن قال تلك الجملة الغامضة
دون أن ينتظر رد منها.
ما إن غادر حتى جلست على الأرض، تبكي بشدة، فلأول مرة تشعر بهذا الكم من الإهانة والذل، لكن لما تشعر بأنها استحقت ذلك الكلام بدلاً من الغضب منه ومعاقبته لفعل ذلك! فلو عرف أي شخص من عائلتها بما فعله معها الآن لتم فصل رأسه عن جسده!
بعد مرور عدة أيام، كان الأمير أليكسندر يجلس مع والده الملك والأرشيدوق يناقشون أمور المملكة، حتى قاطعهم دخول الأمير إيفان فنظروا إليه كلاً من الملك والدوق ماركس بإستغراب عن سبب مجيئه، ليقول أليكسندر لهم بدون إكتراث:
-لقد أرسلت بطلب حضور الأمير إيفان، كي يحضر إجتماعنا فهذه مملكته أيضاً، ولقد حان الوقت له لمعرفة ما يحدث بها، هذا طبعاً بعد إذن جلالتك.
جلس إيفان بجوار أخيه وهو يشعر بالسعادة، لينظر والدهم بفخر على ولي عهده موافقاً على قراره، فلطالما شعر بالخوف على أبنائه بعده موته من إمكانية حدوث نزاع فيما بينهم بسبب العرش، ولكن ما يحدث أمامه الآن لم يشاهده قبلاً، ولا بينه وبين أخيه الأصغر الذي توفى بسبب تمرده عليه مما تسبب ذلك في إعدامه.
وما إن إنتهى الإجتماع حتى خرج الدوق، وظل الأب وأبنائه سوياً، وما إن هم إيفان بالإنصراف حتى أخبره والده بأن يبقى فهناك شيء يريد أن يخبرهم به:
- أبنائي الأحباء لا تعرفون كم أشعر بالسعادة من الذي يحدث بينكم هذه الأيام من وفاق وإحترام، أجد مدى قربكم لبعض من مجرد رؤيتي لكم، فهذه العلاقة يجب أن يكون دائماً، ولا تسمحوا لأي شخص في تفرقتكم فوحدتكم هي سر قوتكم.
رد عليه إيفان بسعادة:
- لا تقلق يا والدي لن يستطيع أي شخص تفريقنا، ولا حتى الشيطان بحد ذاته، فأنا أحترم أخي الأكبر وأجد أنه الشخص الوحيد الأحق بخلافتك بعد عمر طويل لك، وسأحميه بروحي، وأيضا أريد أن أخبرك أني لن أطمع بالعرشما حييت، أدامك الله لنا يا والدي فوق رؤوسنا طول العمر.
دمعت عينا الملك بفخر، كم هو فخور به الآن وتمنى لو كان سمع هذه الجملة أيضاً من أخيه المرحوم ولو لمرة واحدة، حينها لم يكن سيأمر بإعدامه وكان الآن مازال بجانبه، إعترف بنفسه أنه وفق في ترك أمر إيفان لأليكسندر، ولفت انتباهه رد فعل إبنه على كلام إيفان لينتبه لما سيقوله له:
أليكسندر بابتسامة:
- إيفان أنت لا تريد العرش لكي لا تتزوج، فمن واجب ولي العهد أن يتزوج، وأنت لا تريد ذلك.
رد عليه إيفان بمكر، بينما كان سعيداً بأن أخيه يمازحه:
- أليكس عزيزي أنت تفهمني جيداً، فأنا كالطير يهاجر من مكان إلى مكان، لا يحب البقاء في مكان واحد.
ضحك كلاً من أليكسندر والملك على كلامه.
قال الملك بجدية بعد توقفهم عن الضحك موجهاً كلامه إلى إبنه الأكبر أليكسندر منتهزاً فرصة حديثهم عن الزواج:
- لقد وجدت لك عروس جميلة يا بني، بها خصال رائعة سوف تنال إعجابك.
قطب أليكسندر جبينه فور سماع حديث والده له، فهو لا يريد أن يتزوج بتلك الطريقة ولكنه واجب وعليه تنفيذه.
كم تمنى دوماً بأنه لم يولد الأول، لكي لا يحمل ذلك العبء الذي فوق كتفيه، ولكنها إرادة الله ليقول ببطىء:
- هل أستطيع أن أخمن من هي، فأنا أعرف كل الفتيات النبيلات هنا.
صَفَّر إيفان متناسياً الآداب الملكية، ما أن سمع حديث أخيه مردفاً:
-لم أعتقد انك تهتم بالفتيات أخي لدرجة معرفتك لهن.
غضب أليكسندر دون وعي منه:
-كيف تجرأ وتفعل ما فعلته الآن، ما الفرق بينك وبين العامة.
صمت كي يهدأ قليلاً، ثم قال له:
-لست مهتماً بتلك السطحيات، ولكن بما أنني أعرف مصيري وهو الزواج بإحداهن، كان علي التحري عن جميع الفتيات النبيلات، كي لا أقع بأي خطأ غير مقصود وهو الاختيار الخاطئ.
قال والدهم وهو يعرف بداخله أنه يضغط على إبنه:
- أحسنت بني، لطالما كنت فخور بذكائك ولكن التي إخترتها لك لم تنشأ هنا.
انصدم كلاهما، فالمعروف هو أن على ولي العهد أو أي فرد من النبلاء، عدم الزواج من العامة حتى لو كانوا من الأثرياء.
رد عليه أليكسندر قائلاً:
-لكن يا والدي أنت تعرف..
قاطعه الملك قائلاً:
- أتريد أن تذكرني بقوانين مملكتي بني؟! أنسيت أنني الملك؟!
إنحني أليكسندر مسرعاً، ما إن قال والده ذلك معتذراً، ليردف له قائلاً:
- فلتغفر لي زلة لساني، جلالتك.
رد على إبنه مبتسماً:
-إرفع رأسك أليكسندر فأبنائي لا ينحنون لا تنسى ذلك، من أريدك أن تتزوج بها هي إبنة أخي الراحل.
إيفان دون تفكير:
-لم أكن أعرف أن لدينا إبنة عم.
رد أليكسندر على كلام أخيه بينما كان ينظر إلى والده:
- لست وحدك أخي هنا الجاهل بأمر مهم كهذا.
رد الملك عليهم بهدوء:
-أنا أيضاً لم أكن أعرف سوى من فترة قريبة، فيبدو أن أخي آرثر أخفى عني حمل زوجته، ما إن قرر سلبي العرش خوفاً من أن أعدمهم معه إن فشل في مخططه، ما لا يعرفه أني لم أكن لأفعل ذلك حتى لو كان القانون ينص على ذلك.
هنا قال إيفان بتسرع:
- لكنك قتلته و..
صرخ أليكسندر به مقاطعاً كلام أخيه،بينما كان يمسك برقبته:
- كيف تجرؤ على قول ذلك.
قال والدهم بحزن:
-دعه أليكسندر فهو لا يعرف ما حدث، ومن حقه أن يعرف، لكن ليس الآن.
إبتعد أليكسندر عنه، وهو ينظر إليه بغضب ليقول إيفان آسفاً لما حدث:
- لم أقصد أن أجرحك يا والدي بحديثي، لكن لطالما أردت معرفة حقيقة موت عمي الوحيد.
قال والده بطريقة يحاول أم يهدأ بها إبنه وهو يطلب من الصبر:
-لا تستعجل بني، سوف أخبرك بالحقيقة يوماً ما، لكن ما يجب أن تعلم بأنَّ والدك قد تعرض للخيانة.
ما إن سمع إيفان حديث والده الحزين، شعر بالحزن و الخزي من نفسه فيبدو أن والده لا يثق به كرجل ناضج يستطيع تحمل الحقيقة، هذا الأمر قتله في صميم قلبه، ليقول بصوت غير مكترث خافياً بذلك حزنه وانكساره:
- كما تريد أبي والآن اعذروني، هناك أمر يجب علي فعله بعد قليل.
إنصرف قبل سماع أي رد منهم خوفاً من أن لا يستطيع السيطرة على مشاعره، فهو إن تحكم بها الآن لن يستطيع التحكم بها بعد قليل.
ما لا يعرفه أن عيناه قد فضحته، ولما لا والموجود أمامه هو والده وأخيه الذين هم أكثر الناس دراية به.
ما إن غادر حتى إلتفت أليكسندر إلى والده مردفاً:
-لا تحزن والدي سيأتي يوم ويتفهمك.
تنهد الملك وأغمض عيناه يتسائل هل أخطأ أنه لم يخبر إبنه على ما اقترفه عمه الحبيب، وأنه حاول قتله عندما تم خطفه عندما كان صغيراً، لذلك قام بإعادمه.
ما إن خرج إيفان حتى قرر الذهاب من القصر، لعله ينسى بذلك الألم الذي شعر به، جلس بالحديقة ليتذكر مقابلته لأخته منذ يومين.
قابل إليزابيث قادمة من الإسطبل وملابسها متسخة لينصدم من رؤيتها فيقول لها:
-مدللتي الصغيرة هل كنت تحاربين أم ماذا؟!
ما إن شاهدته إليزابيث حتى خفق قلبها من شدة الخوف، فهو مهما كان رقيق القلب، سوف يغضب إذا علم ما حدث ويتحول إلى شخص آخر، لكن يصادف أن أحد الأمور التي قد تغضبه حدوث شيء لها مهما كان صغيراً، وإذا علم بما حدث معها مع ديفيد سيقطع رأسه على الفور وهي لا تريد ذلك.
قررت إستفزازه محاولة منها تغيير الموضوع قائلة:
-إيفان أمازلت حياً؟! إعتقدت أن والدنا الحبيب قد قتلك بسبب شيء لم أعرفه بعد.
ضحك على تلك الطفلة الصغيرة، التي لم تكبر بعد،
فهو يعرفها جيداً، ويبدو أن هناك شيئا لا تريد منه أن يعرفه، لا بأس بذلك مادامت بخير.
قرر مسايرة حديثها، قال بغضب مصطنع:
- ما الذي تقوليه لي الآن؟ يبدو أننا أكثرنا من تدليلك كثيراً، لدرجة جعلتك تنسي كيف تحترمي من هم أكبر منك سنناً.
فور سماعها لقول أخيها حتى أدمعت عيناها وتألمت، هي لم تحزن بسببه فهي تعرف أن إيفان يمزح معها، ولكن كلامه ذكرها بما قاله لها ديفيد.
قطب إيفان حاجبيه من النظرة الحزينة التي إرتسمت على وجه شقيقته والدموع التي تتلألأ في عينيها، قد تسقط في أي وقت، ليأخذها بحضنه معانقاً لها بقوة، ثم همس لها قائلاً بعد أن أخطأ فهم حزنها:
- لم أقصد أن أجرحك، كيف لم تعرفي بأنني أمزح معك؟
ردت عليه قائلة بصوت ضعيف من شدة حزنها الذي لم يلحق أن يجف وينتسى:
- أعرف، اعذرني أخي لم أقصد أن أقلقك، لكن لا أعرف ما بي هذ الأيام صدقاً.
بعد أن أنهت حديثها حتى ضحكت محاولة منها إضفاء بعض المرح، بعد أن كان ساد صمت بينهم، أردفت بعدها قائلة:
-يبدو أنني قد جننت وسوف يكتب عني بالتاريخ أنني الأميرة المجنونة.
قاطعها إيفان ضاحكاً:
- أنا من سأجعل المؤرخ يكتب ذلك إذا لم أعرف الآن، ما إذا كنتي تبكين أم تضحكين! لأن على ما يبدو أنني لم أعد أفهم ما يحدث معك.
ردت عليه بسرعة قائلة:
-أنا بخير حقاً، صدقني يا إيفان، كل ما أريده الآن هو النوم، لذلك سوف أتركك وأذهب كي أرتاح قليلاً...
قبل أن تكمل حديثها وجدت الخادمة تنحني لهم برأسها تحييهم، ثم تقول وعيناها مازالت علي الأرض، توجه الحديث لها:
- سمو الأميرة، جلالة الملكة تريدك بغرفتها بعد عصر اليوم.
ثم إنصرفت بعد أن أمرتها إليزابيث بذلك، لكن ليس بيديها كالعادة:
- حسناً يمكنك الإنصراف
ثم قالت لأخيها بحنق مصطنع:
- أردت القول لك، بأنني أريد الذهاب إلى النوم كي أرتاح قبل أن تناديني جلالة الملكة، و تبدأ دروسها معي حول تعليمي ما معني أن أكون أميرة.
ضحكت مع إن إنتهت من الحديث مما جعله أخيها يضحك هو الآخر، لكن إليزابيث توقفت عن الضحك ما إن وجدت شقيقها ينظر اليها بنظرة غريبة، قالت له:
- لما تنظر لي بتلك الطريقة الغريبة؟!
رد عليها يجيبها بهدوء:
- مندهش فقط.
ردت عليه بتساؤل:
- ما سبب إندهاشك الآن؟ أنا لم أفعل شيئاً يستدعي ذلك.
إيفان بابتسامة هادئة:
- بل فعلت فلأول مرة أجدك لطيفة مع الخدم.
أجابته وهي تشعر بغصة في حلقها:
- حقاً! لم أكن أعرف أنني كنت متعالية هكذا.
رد عليها ممازحاً إياها:
- يحق لك التعالي عزيزتي.
إليزابيث:
- مضحك جداً.
توقفت عن الكلام ثم قالت بتأفف طفلة صغير تم منعها من الحلوى:
-سأذهب الآن كي أجهز، لأن والدتنا الحبيبة قد تقتلني إذا تأخرت عليها، وأنا كما تراني جيداً لست مستعدة لمقابلتها حيث أريد قبل رؤيتها أن أغفو قليلاً بغرفتي.
تركته وغادرت دون أن تهتم لما يفكر به، عن ما يحدث معها فلقد شعر بأن بها شيئاً مختلف، لا يعرف ما هو!
هذا ما جعله يتذكر تلك المحادثة التي مرت بينهم، فعلى ما يبدو أن هناك ما يزعج أخته ويوترها، قرر الذهاب إليها كي يتحدث معها لربما تخبره بشئ دون وعي منها، أو تكون هدأت قليلاً وبذلك تقول له ما كان يوترها ويحزنها، وسبب تغيرها في معاملتها لتلك الخادمة، هل هناك شئ يحدث معها.
شعر بالتعب بسبب جلوسه الحديقة ودرجة حرارة عالية اليوم، وقف كي يذهب إلى غرفته كي يستريح قليلاً بها ثم يذهب إلى شقيقته كما قرر أن يفعل فهو لا يريد أن تشعر بالوحدة مثله عندما لا تجد من تتحدث معه عن أحزانها.