الفصل الثاني

في مكان آخر وتحديداً جنوب سيناء بمنطقة الحدود كان هناك معسكر وعدة خيام على بعد عدة أمتار من المعسكر وبإحدى تلك الخيام كان يجلس بداخلها شاب مفتول العضلات يظهر من بنيته الضخمة أنه جندي مقاتل لا يهاب شئ بل على العكس تماماً من يراه يهابه رغماً عنه، صوت قادم من الخارج لفت انتباهه فنهض من مكانه قلقاً وضربات قلبه تسارعت فهو منذ الصباح وبداخله وجل واضطراب لا يعلم سببه قلبه يخبره أن هناك شيئاً سيئاً على وشك الحدوث أو حدث لا يعلم ولكن ما يعلمه جيداً أن شعوره هذا لا يمكن أن يكون شعوراً وهمياً، خرج ليرى ما الأمر: 

- تميم أسرع هناك إتصال عاجل من منزلك، هيا تعجل

اتجه نحو غرفة القياده بالمعسكر ليجيب على تلك المكالمه العاجله والتي يشعر بأنها أتت بما يتنظره ومن المؤكد أنه لن يعجبه أبداً، رفع سماعة الهاتف ليضعها على أذنه ببطء لتتثاقل أنفاسه وتختنق فور سماعه صوت بكاء علم بسهولة أنه لشقيقته لكن سرعان ما سقط قلبه بين قدميه عندما هتفت ببكاء وشهقات متقطعه:

- تميم، أخي لقد.. لقد صدمت سيارة نغم، هناك شاحنة كبيرة صدمت سيارتها من الخلف وهي الآن بالعناية المركزة وحالتها حرجة أسرع بالمجيء أخي فالطبيب أخبرنا أن ليس لديها الكثير من الوقت

سقطت سماعة الهاتف من يده وتهاوى جسده على أرضية المكان فاقداً توازنه وقدرته على النهوض وصدى كلمات شقيقته مازال يتردد في أذنيه، توقف العالم من حوله لا يفكر إلا بها هي فقط زوجته وعالمه بالكامل رفيقة دربه وأم أولاده، عند تلك النقطه فقط استفاق من غيبوبته المؤقته ونهض بتعثر يركض بجنون وحالة مزرية يفزع لها قلب من يراه بها فهذا الرجل كان كالجبل شامخ لا يمكن أن يهتز ولو قابله الموت بفاجعته ورهبته، أما الآن هو يركض كطفل صغير ضاع من والدته وضل الطريق إليها إذا كان هو وحالته هكذا فما سيحدث لطفله الصغير كيف سيتحمل فراقه عن والدته وهو مازال لم عامه الأول كيف يمكنه ذلك يا الله أرفق بذلك الصغير واحفظها فقط لأجله فقلبه الصغير لن يفهم ولا يعلم كيفية التعامل مع تلك الفاجعه

 قبل ذلك بساعات على إحدى الطرق السريعة كانت تقود سيارتها بتوتر وقلق تضغط على بوق السياره كل دقيقه والأخرى حتى تفسح لها السيارات الأخرى الطريق لتواصل طريقها إلى المشفى فهي طبيبة أخصائية بأمراض القلب والأوعية الدموية تدعى "نغم" متزوجة من "تميم" وهو ضابط وجندي جسور يعمل بجنوب سيناء بمنطقة الحدود ولديهما طفل واحد "تيام" عمره عشرة شهور فقط، هي المتابعة والمسؤولة لحالة "حياه" منذ البداية هي من اكتشفت مرضها ومنذ ذلك الوقت وهي لم تتركها أبداً مهما كان الوقت وأياً كان العمل الذي لديها تتركه وتركض لإنقاذها اعتبرتها شقيقتها الصغرى وكانت دائمة التواجد معها كلما احتاجت لها واليوم أيضاً الآن هي بحاجة إليها ولكن لسوء الحظ كانت في طريقها إلى مدينة الإسكندرية لإجراء عملية جراحية لأحد المرضى ولكن فور أن علمت بذلك قامت بتأجيل العمليه وقررت العوده وعدم الذهاب وذلك لأن الحالة التي كانت ذاهبه لإجراء العملية له حالته ليست بخطورة وضع "حياه" فحالتها حياة أو موت ولكنها ستنقذها نعم ستفعل كما تفعل كل مرة والله سيساعدها بذلك كما يفعل دائماً

صرخت بضجر وخوف شديد وهي تشد على المقود ليصدر صوت إنذار قوي استمر لبعض الوقت بيننا هي تصرخ بهم:

- افسحوا الطريق ما بكم؟

ظلت في تلك الحاله من القلق والتوتر حتى خرجت إلى طريق أكثر هدوءً من السابق ولكنها لم تكن تعلم أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، فور خروجها إلى ذلك الطريق تفاجأت بعدة دراجات نارية تملئ الطريق يقودها مجموعة من المجانين يفعلون بها حركات بهلوانية خطره ودون سابق إنذار اندفعت تلك الدرجات نحو جهة الطريق التي كانت تسير بها حاولت تفادي الاصطدام بهم بصعوبة ولكن رغماً عنها فقدت السيطرة على السيارة، أصبحت سرعتها جنونيه وأخذت تدور بينهم تحاول النجاة بأي طريقة ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان وظهرت شاحنة ضخمة من العدم واصطدمت بسيارتها من الخلف لتفقد آخر أمل لها بالسيطرة عليها فور أن انقلبت السياره عدة مرات وهي بداخلها تشعر بشظايا الزجاج يخترق عنقها وجسدها بقسوة، استقرت السيارة على حافة الطريق ليتدلى ذراعها من نافذتها المفتوحة معلنة عن النهاية

تجهمر كثيف من الناس تجمع حول سيارتها منهم من يشفق على ما أصابها ومنهم من يحاول المساعده ولكن الغالبية العظمى بينهم يمسكون بهواتفهم لتصوير الواقعة لتوثيقها على حساباتهم الشخصية في مواقع التواصل الإجتماعي دون أدنى إحساس أو إنسانية منهم، انسابت دموع القهر من عينيها لا تستطيع الحركه بشكل نهائي ولو تحريك إصبع واحد حتى جسدها يذرف الدماء دون توقف، أصبحت رؤيتها مشوشة وبدأت الأصوات تتلاشي من حولها لتدرك بأنها  على وشك فقدان الوعي يالسخرية القدر فهي طبيبة كانت تقود بأقصى سرعتها لإنقاذ حياة فتاة بريئة تستحق فرصة أخرى للحياة ولكن الآن هي بحاجة إلى الإنقاذ لتفي بوعدها الذي قطعته على والدها بأنها ستكرث حياتها لإنقاذ حياة المرضى ولو كان على حساب حياتها، صوت قوي وصل إلى مسامعها قبل أن تغيب عن الوعي كلياً هاتفاً بصخب:

- افسحوا الطريق لقد أتت سيارة الإسعاف

                            ~~•~~

لاحقاً بالمشفى كانت تجلس "رقيه" على أرضية الغرفه تشهق باكية بألم وحرقة وهي تظن أن صديقتها المقربة قد فارقت الحياة وهذا ما جعل شقيقها ينهار بهذه الطريقة، لكنها شهقت فزعة وصدمة عندما وصل إلى مسامعها صوتاً هامساً بوهن: 

- يا ملكة الدراما كفي عن النواح، مازلت على قيد الحياة ولكني لن اصمد طويلاً وسأفارق الحياة بسبب عويلك بتلك الطريقة

نهضت بتعثر متجهة نحو الفراش لترى أن "حياه" تعافر لفتح جفونها بشكل كامل جلست بجوارها ثم قبضت على يدها ترفعها إلى شفتيها وهي تشهق باكية براحة تحمد الله:

- الحمد لله، الحمد لله لقد نجت صغيرتي أنتِ هنا نعم أنتِ معنا مازلتِ على قيد الحياة حمداً لله أنتِ بخير

- ليس مطولاً عزيزتي...

ثلاث كلمات كانت كافيه لتوقف قلبيهما أحدهما يعلم أن ما تفوهت به هو حقيقة وواقع لا مفر منه والأخرى ترفض تصديق هذا ودموعها خير دليل على رفضها لفكرة رحيلها عن هذا العالم، هتفت بها "رقيه" بغضب وهسترية:

- كفي عن التفوه بتلك الكلمات، أنتِ الآن بخير وستكوني دائماً ليس لديك حلاً آخر ولتعلمي ذلك أنا لن اسامحك لآخر يوم بعمري إذا استسلمتي للموت

- أيتها غبيه ومن أنا لأحارب الموت، إذا كان ملك الموت بذاته سيأتي له يوم ويموت كما ذكر في القرآن الكريم، فكيف لي أنا مجرد إنسان لا حول لي ولا قوة إلا بأمر الله عز وجل أن لا أموت كل نفس ذائقة للموت افهمي ذلك حتى تستطيعِ إعانة شقيقك فيما هو قادم

نظرت نحوه بألم وهو يقف بالجوار يتابع ما يحدث بينهما وحديثها إلى شقيقته عينيه غائمة بالألم والدموع تغرق وجهه من غزارة سقوطها عليه وكأنه استسلم للواقع وأنه سيفقدها لا محالة فهو حاول كثيراً منذ عدة أشهر وهو يحاول إيجاد متبرع بالقلب حتى تتم إجراء عملية زارعة قلب لها حينها فقط يمكنها أن تحيا بسلام وتعود لحياتها كما كانت، التفت وأعطاها ظهره لكي لا ترى دموعه وتحزن أكثر من حزنها وقهرتها على شبابها الضائع، في خضم مشاعرهم ونزيف قلوبهم دخلت طبيبة أخرى تعمل بالمشفى مع "نغم" و "هشام" هاتفة بلهفة ودموع متحجرة بعينيها:

- هشام تعال معي بسرعة أرجوك.

التفت ينظر إليها بقلق من حالتها المزريه، لكنه عاد ونظر إلى "حياه" المستلقيه على الفراش بحالة مزرية أكثر من أي وقت مضى عليها، نظر إليها وقال:

- ولكن...

قاطعته ببكاء: ليس هناك وقت رجاء أسرع فالأمر عاجل

ابتسامة باهته زينت ثغرها علم منها بأنها تريده أن يذهب معها ليساعد من يحتاج إليه اسبلت جفونها وعادت لفتحهما ببطء ووهن شديد وكأنها تخبره بأنها ستنتظر عودته ولكن بداخله يتساءل هل حقاً ستنتظره أم أن للقدر رأي آخر
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي