قلب رجل و 99 أنثى البارت الأول
*"قلب رجل و99 أنثى" "البارت الأول"*
الألم والأمل كلاهما شيء لا محيص منه، فالأول مُقدَّر لنا والأخير باختيارنا، الألم يعمل كقاذفات الهون وتأثيره بالسلب على الأفئدة مؤكد ولا مفر من إلحاقه بنا حتى نمسي أنقاضاً تذروها الرياح، ولكن يأتي الأمل مواجهاً له فيبعث الحياة فيما كاد أن يقضي نحبه تواً.
الألم والأمل يضربان مثلاً كقوى الشر وقوى الخير والنصر حليف الشعور الأقوى بداخلنا.
في يوم حامٍ وطيس كانت إمرأة في وسط الأربعينات تجلس في ردهة المنزل الذي يتكون من طابق واحد، به نافذة تطل على ساحة القرية،
كانت تلك المرأة تنظر في الفراغ وقد استحوذ الحزن على ملامحها الملائكية رغم الكبر، كانت تضع رأس صغيرتها التي تبلغ من العمر إحدى عشر عاماً على فخذها وأخذت تمسد على شعرها الحريري،
فوجئت كلتاهما بمن يركل باب المنزل الذي صنع من بقايا النخيل، فكان من السهل أن ينتزع الباب إثر الركلة القوية من الرجال الذين بات سائر أهل القرية يعرفونهم من ثيابهم التي صُممت خصيصا لهم،
لقد أطلق عليهم أهل القرية لقب " الجلادون" فما إن اقتحموا منزل أحدهم يكون قد قضي الأمر ويكون ذلك الشخص المسكين سيورد مورد الهلاك لا محال.
انتفضت الصغيرة عندما رأت الهلع والتوجس في عينا والدتها التي صارت ترتعد وتتصبب عرقاً من شدة خوفها، اختبأت الصغيرة خلف والدتها ولم تكف عن البكاء،
وازداد نحيبها عندما تحدث أحد الجلادين قائلا:
_لقد صدر الأمر من حاكم القرية، لم يعد أمامك خيار أخر، فإما أن تتزوجي وإما الموت.
جمعت تلك المرأة رباطة جأشها،
وقالت بثبات بالرغم من الخوف الذي تمكن من أواصر قوتها:
_حاكمكم ظالم وسيُعاقب ذات يوم على ظلمه، أعدك سيدي إن كنت حينها على قد الحياة فلن أتظاهر بالرحمة من أجله حتى وإن رق قلبي شفقةً على حاله،
تبسَّم الجلاد وقال بصوته الرخيم:
_ إذاً أعدكِ، حينها لن تكوني على قيد الحياة.
أشار ذلك الجلاد للبقية فاتجهوا نحو تلك المرأة وأمسكوا بها، حاولت الصغيرة أن تردعهم حتى أنها صارت تضربهم بقبضتها الصغيرة التي بالكاد لن يشعروا بها مع ضخامة أحجامهم إلا أن كرامتهم لا تسمح بأن يتطاول عليهم أحد،
اتجه نحوها أحدهم ووجَّه لها صفعة سقطت أرضا على أثرها ولم تكف عن البكاء، لم يكن ألم الصفعة أشد من ألم فراق والدتها التي ستلقى حتفها.
نظرت الصغيرة "جويرية" لهؤلاء الجلادون فرأتهم كالوحوش الهائجة، بالطبع هم كذلك، كانوا يمسكون بوالدتها من كلا ذراعيها ويتجهون بها نحو باب المنزل رغماً عنها،
كانت تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تتملص من بين قبضاتهم ولكن بلا شك لم تستطع أن تتغلب عليهم فبكل محاولاتها لم يحرَّك لهم ساكناً ولم يتأثر أي منهم.
في ساحة القرية
أتى أحد الجلادين ونصب جزع النخلة الذي اعتادوا عليه سائر الأهالي فبمجرد نصب ذلك الجزع يعرفون جميعاً أن أحدهم سيُعدم، كان الجزع مثبت جيداً في الأرض لذا فلن يستطع أي من المذنبون الفرار أو التملص.
تجمعت الأهالي والتفوا حول ذلك الجزع بينما أتوا الجلادون وبين أيديهم والدة جويرية، أمسك بها أحدهم والآخر أتى بحبل متين وأحكم العقدة حول جسدها وجعلها مثبته بإحكام مع الجزع.
كانت جويرية تهرول ورائهم حتى تلحق بهم ولكنهم كانوا أسرع منها، كل ما كان يجول في خاطرها أنها ستساعد والدتها كي تتخلص من أولائك الأوغاد،
كان عندها يقين وإيمان بأن والدتها ستستطع أن تتخلص منهم وتعود إلى صغيرتها سريعا حتى تصنع لها لعبة كما وعدتها قبل أيام.
انغمست جويرية وسط الزحام حتى أصبحت قبال والدتها، شهقت بالبكاء، لم تستطع أن تتفوه بكلمة واحدة كانت تظن أنه حالما تصل إلى الساحة ستجد جثمان ذلك الوغد الذي لطم جويرية ولكنها كانت ستتقيأ أحشائها حزناً عندما رأتها بتلك الحالة،
فجأة أفسح الناس الطريق من خلف جويرية فنظرت سريعا، حينها رأت كرسي خشبي مزخرف وُضع عند الشجرة الرابضة في مواجهتها، لم يمر سوى عدة ثوانٍ حتى أتى رجل يبدو عليه أنه رُدَّ إلى أرذل العمر، جلس على كرسيه بكبرياء إنه حاكم القرية،
ففور وصوله الساحة إنحنى كل الأهالي.
كانت الإبتسامة تتسع أعلى شفتيه كلما رأى الإحترام والتقدير والخوف من جهة رعيته فيظن بذلك أنه يفعل الصواب.
مد الحاكم يده على جانبه الأيسر فوضع الجلاد القوس والسهم في قبضته، نظر الحاكم إلى والدة جويرية وقال:
_ ما إسمكِ يا امرأة؟!.
كانت نظراتها تجاهه ثاقبه، تود لو أن بإمكانها الإفلات فقط من أجل أن تُريق دمائه ستعتبر ذلك شرف كبير لها لأنه حينها ستكون تخلصت من مخاوفها ومخاوف الجميع،
نظر الحاكم إلى أحد الجلادين فاتجه نحوها ولطمها بقوة قائلاً:
_حينما يتحدث إليكِ الحاكم لا تطيلي النظر إليه بل ضعي رأسك في الأرض وأجيبيه، أظهري بعض الإحترام والولاء لحاكمك قبل موتك، رفعت رأسها بشموخ وقالت وهي تنظر لعينيّ الحاكم:
_إسمي عائشة،
نظر إليها الحاكم وقد بدا على وجهه التعصّب فقال:
_ما إسم زوجك؟!.
نظرت إليه بحقد وقالت:
_صادق، هل تتذكره!! ذلك الخادم المخلص الذي قتلتموه دون شفقة أو رحمة لا بُد وأنك تتذكر،
تدفق الدم في وجه الحاكم حتى صار أحمر اللون فقال:
_هذا مصير الخائنين، هل إشتقتِ إليه؟! سنرسلكِ إليه وسيكون ذلك من دواعي سروري، ولكن كما تعلمين أنا لا أريد أن أشكك رعيتي في رفق قلبي لذلك لديكِ فرصة أخيرة للنجاة حتى من أجل تلك الصغيرة الجاثية على ركبتيها أمامك، إما أن تتزوجي وإما الموت،
نظرت عائشة في الفراغ وقالت وهي تتعمد عدم النظر إلى الحاكم:
_لقد أخبرت أعوانك من قبل أنني لم ولن أتزوج، لقد سبق لي الزواج وتوفى زوجي وكما عهدت على نفسي أنني لن أتزوج من بعده، فلنلتقي أنا وهو في الجنة هذه علاقة لا ترحب بطرف ثالث، أهذا الرد يكفي!!.
تبسَّم الحاكم ووجّه حديثه لجويرية قائلا:
_آمل أن تكوني قد فهمتِ الآن يا صغيرتي، والدتك تتخلى عنك وتأبى اغتنام الفرصة كي تظل من أجلك، فور موتها لا تنعتيني بالحاكم الظالم اتفقنا!!.
نظرت جويرية إلى والدتها وقالت:
_لا يوجد رجل أحق بأمى أكثر من أبي، إن قوانينكم مجحفة بنا،
تحرك أحد الجلادون ناحية جويرية وقد نوى أن يلقنها درساً على وقاحتها مع الحاكم،
وما إن اقترب منها حتى صاح الحاكم قائلا:
_اتركها وشأنها، حديث الصغار لا يؤخذ في عين الإعتبار،
كانت أحاديث الناس الجانبية تزعج عائشة ولكنها لم تكترث، نظرت نحو الحاكم فوجدته يمسك بالقوس خاصته والسهم ويصوّب نحوها،
ابتسمت عائشة ونظرت نحو جويرية وقالت:
_أحبكِ حباً جما يا عزيزتي ليحميكِ الله أينما كنتِ، أغمضت عينيها وتذكرت كل شعور جميل عاشته برفقة صادق زوجها ووالد جويرية
*فلاش باك*
كانت عائشة في سن الخامشة عشر عندما تعرفت على صادق الذي كان يبلغ من العمر حينها ما يقارب إلى الثانية والعشرون، التقيا حينما كانت في الأرض الزراعية التي تقبع خلف منزل والدها، أتى كي يرى والد عائشة ولكنه لم يكن هناك،
كان صادق ذلك الشاب اليافع الذي يتمتع جسده بالصحة والعافية، كان طويل القامة بشوش الوجه، لم تكن بشرته داكنه بل كانت قمحية زُيِّنت بلحية خفيفة زادته وسامة،
كانت الفتيات يتغزلن فيه أينما ذهب ولكنه لم يلقِ لهم بالا فقد تعلق قلبه بتلك الفتاة التي رآها في المزرعة، كانت تجمع الفاكهة الناضجة وتضعها في مكتل ومن ثَم تذهب به إلى أعوان الحاكم وتأخذ منهم العملات الفضية وأحيانا عملات نحاسية،
كان صادق يراقبها عن كُثب، لقد أُثِر بكل ما تفعل وقد حفظ حديثها عن ظهر قلب، كانت ذكية تعي ما تفعل وكأنها فتاة في الثلاثين من عمرها، كانت تتحدث مع أعوان الحاكم بفطنة وذكاء حيث لم يستطع أي منهم أن يختلس أو ينصب عليها.
في يوم من الأيام قرر صادق أن يتحدث إليها، فقد قضى سنة بأكملها يراقبها أي صار عمرها ستة عشر عاماً، وهذا يعني أن عمرها قارب سن الزواج ومن الممكن أن يتزوجها شخص غيره وبالتأكيد هو لن يسمح بذلك فمنذ أن رآها أول مرة قد شغفته حباً.
ذهب إلى المزرعة ووقف عند البوابة وظل يراقب حركاتها إلى أن انتبهت إليه فاتجهت نحوه وقالت:
_مرحبا سيدي، هل تود أن تبتاع الفاكهة؟! أي منها تريد؟!.
نظر إلى عينيها البنية التي أثرته دون أدنى مجهود منها، كان يطيل النظر إليها ولم يتفوه بأي كلمة،
كادت أن تتحدث لولا أن قال بينما كان لا يزال ينظر لعينيها:
_الفاكهة التي أريدها بحثت عنها مليا ولم أجدها بعد، ولكن يبدو أنني عثرت عليها وأخيراً،
أخرجت عائشة قائمة من جيب معطفها ومدت يدها بها نحوه وقالت:
_هذه هي الأصناف المتوفرة لدينا،
أمعن النظر فيها وأخبرني إن وجدت ما تبحث عنه،
تبسم صادق وقال بابتسامة صعقت فؤاد عائشة ولكنها لم تبدي ذلك وتظاهرت بأنها لا تكترث،
ولكنها انتبهت للغمازة التي توجد في خده الأيسر:
_إن كانت كل تلك الأصناف الموجودة في القائمة فاكهة، فماذا تكونين أنتِ؟!،
نظرت إليه عائشة ورفعت حاجبها الأيمن وقالت:
_ ما رأيك في أن أصفعك بقوة حتى لا تجرؤ على مغازلتي ثانيةً؟! أغرب عن وجهي،
تركته عائشة وعادت إلى الداخل وهي تشعر أن الفراشات تتطاير من فؤادها.
بعد مرور يومين،
بعد انتهاء عائشة من عملها في المزرعة، عادت إلى منزل والدها، عندما دلفت إلى الداخل فوجئت به يجلس برفقة والدها، كانت تحدق فيه وقد اضطربت كثيراً، وعلى الرغم من ذلك كانت سعيدة للغاية.
مرت عدة أشهر ومن ثَم تزوج صادق من عائشة، كانا ثنائي غاية في الروعة، كان صادق يود لو أن يأتي لها بملء الأرض كل ما تشتهي، لم يكونا من الأغنياء في القرية ولكنهما أحبا بعضهما وقد أغناهم ذلك الحب.
كانت عائشة نعم الزوجة، في الأمور الجدية تكون امرأة ناضجة وتحسن التصرف في الأمور الأكثر تعقيداً، وأحيانا تكون كالطفلة ويصعب على صادق أن يرضي الطفلة التي تكمن بداخلها.
كان بيتهم صغير لا يسع سواهم وقلبيهما، كان صادق عندما ينتهي من عمله يذهب إلى مزرعة والد عائشة ويساعدها في عملها، كان يظل بالقرب منها عندما تتحدث مع المشترين،
كان يغار عليها ولم يتحمل مجرد حديثها مع أي رجل لذلك تولى هو أمر الشراء والبيع بدلا منها.
مرت السنين وحبهم ما زال كما هو بل وأصبح في تزايد، مع مرور الوقت كانا يحبان بعضهما كاللذان التقيا من جديد لم يمل أو يكل أي منهما، بل على النقيض تماما فقد كانوا أهل القرية دائما يتهاتفون حول قصتهما.
مرت سنوات ولم يُرزقا بطفل بعد، أصاب الحزن قلب عائشة حتى أصبحت لا تتحدث كثيرا، تظل تعمل طوال النهار حتى تغط في نوم عميق فور العودة للمنزل، كانت تظل تعمل كثيرا أكثر مما يجب عليها،
كانت تتهرب من الواقع الذي أطفأ شيء كان متوهج بداخلها، لم يمر ما تفعله عائشة على صادق مرور الكرام لذا قرر أن يتحدث معها في ذلك الشأن.
في يوم من الأيام استيقظت عائشة وأعدت الإفطار كالعادة، وتجنبت تبادل أطراف الحديث مع صادق، لم يروقه ذلك فجذبها وجعلها تجلس بجانبه وقال:
_هل فعلت شيء زعج زوجتي لذلك هي تتجنب الحديث معي؟!.
ابتسمت عائشة وحركت رأسها بالنفي، فابتسم هو بدوره وقال:
_إذاً لماذا زوحتي الجميلة حزينة هكذا؟!.
اغرورقت عينا عائشة وقالت وهي ترتشف دموعها:
_لقد مرت سبع سنوات ولم نرزق بطفل حتى الآن، إنني أشتاق لأن أحمل بين احشائي قطعة صغيرة منك،
كلما طرأ ذلك الموضوع في عقلي أشعر أن هناك خنجر ينغرس في قلبي ويتلفه،إنها أمنيتي الوحيدة أخشى أن لا تتحقق أبدا، أعلم أنك تتوق لأن تحمل طفلك بين يديك ولكنني لم أستطع بعد أن أحقق لك أمنيتك،
مسد صادق على شعر عائشة وقبَّلها في كلا خديها وقال مداعبا لها:
_ولمَ أتوق لذلك بينما أنتِ معي؟! أمر الإنجاب بيد الله وليس لنا في الأمر شيء لنفعله، أنا سعيد هكذا أنتِ طفلتي وصديقتي ووالدتي وأختي وحبيبتي،
أتعلمين سراً؟! ربما أخر الله أمر الإنجاب كي ننعم بسنوات الحب هذه فكما تعلمين الأطفال مزعجون للغاية ولن يتركون لنا بعض الوقت كي نقضيه سويا، إنها حكمة الخالق، ونحن لن نعترض على ذلك.
عندما بلغت عائشة سن الرابعة والثلاثون، كانت ما زالت تلك الفتاة التي عشقها صادق، لم يتغير شيء إنهما يحبان بعضهما البعض كما لو أن الحب خُلق خصيصا من أجلهم.
في يوم من الأيام شعرت عائشة بالدوار حتى أنها لم تستطع الذهاب إلى العمل، لم ترد إخبار صادق بذلك حتى لا ينشغل باله بها ولكنه سرعان ما لاحظ ذلك فكيف لا يشعر بها وقد أصبح ما يصيبها يصيبه!!!،
أتى لها بالحكيمة التي تعالج النساء، وعندما اتطلعت عليها أتت لهم بالبشارة التي انتظروها سنوات طويلة، لقد أخبرتهم أن عائشة تحمل بين أحشائها قطعة صغيرة من صادق،
لم تكن الدنيا برمتها تسع السعادة والإغتباط اللذان كانا يسيطران عليهما حينها، تلك لم تكن فرحتهم بمفردهم بل سائر أهالي القرية شاركتهم تلك الفرحة،
كانت الأيام تمر عليهم في سعادة عارمة وقد اعتادا كل ليلة بعد تناول العشاء أن يتحدثا إلى الجنين ويضحكان وكأنهم يتبادلون معه أطراف الحديث،
قبل أن يغط صادق في نوم عميق قالت له عائشة:
_ماذا تريد أن أنجب؟! فتاة أم صبي؟!.
نظر إليها صادق وقال:
_ما أريده حقا أن تضعي المولود وتكونا أنتما الإثنين بخير وصحة وعافية، إن كانت فتاة أود أن تكون تشبهك كثيراً، وإن كان صبي أريده يشبهك أيضا،
ضحكا هما الإثنين وقالت عائشة:
_إن كان صبي أوده أن يكون مثلك تماما حنون يحمل الرفق كله الذي بالعالم في قلبه، وأوده خفيف الظل مثلك أيضا،
ضحكوا وباتوا يخططون للمستقبل برفقة المولود وبعدها انخرطوا في النوم بثبات عميق
#صغيرة_الكُتَّاب
الألم والأمل كلاهما شيء لا محيص منه، فالأول مُقدَّر لنا والأخير باختيارنا، الألم يعمل كقاذفات الهون وتأثيره بالسلب على الأفئدة مؤكد ولا مفر من إلحاقه بنا حتى نمسي أنقاضاً تذروها الرياح، ولكن يأتي الأمل مواجهاً له فيبعث الحياة فيما كاد أن يقضي نحبه تواً.
الألم والأمل يضربان مثلاً كقوى الشر وقوى الخير والنصر حليف الشعور الأقوى بداخلنا.
في يوم حامٍ وطيس كانت إمرأة في وسط الأربعينات تجلس في ردهة المنزل الذي يتكون من طابق واحد، به نافذة تطل على ساحة القرية،
كانت تلك المرأة تنظر في الفراغ وقد استحوذ الحزن على ملامحها الملائكية رغم الكبر، كانت تضع رأس صغيرتها التي تبلغ من العمر إحدى عشر عاماً على فخذها وأخذت تمسد على شعرها الحريري،
فوجئت كلتاهما بمن يركل باب المنزل الذي صنع من بقايا النخيل، فكان من السهل أن ينتزع الباب إثر الركلة القوية من الرجال الذين بات سائر أهل القرية يعرفونهم من ثيابهم التي صُممت خصيصا لهم،
لقد أطلق عليهم أهل القرية لقب " الجلادون" فما إن اقتحموا منزل أحدهم يكون قد قضي الأمر ويكون ذلك الشخص المسكين سيورد مورد الهلاك لا محال.
انتفضت الصغيرة عندما رأت الهلع والتوجس في عينا والدتها التي صارت ترتعد وتتصبب عرقاً من شدة خوفها، اختبأت الصغيرة خلف والدتها ولم تكف عن البكاء،
وازداد نحيبها عندما تحدث أحد الجلادين قائلا:
_لقد صدر الأمر من حاكم القرية، لم يعد أمامك خيار أخر، فإما أن تتزوجي وإما الموت.
جمعت تلك المرأة رباطة جأشها،
وقالت بثبات بالرغم من الخوف الذي تمكن من أواصر قوتها:
_حاكمكم ظالم وسيُعاقب ذات يوم على ظلمه، أعدك سيدي إن كنت حينها على قد الحياة فلن أتظاهر بالرحمة من أجله حتى وإن رق قلبي شفقةً على حاله،
تبسَّم الجلاد وقال بصوته الرخيم:
_ إذاً أعدكِ، حينها لن تكوني على قيد الحياة.
أشار ذلك الجلاد للبقية فاتجهوا نحو تلك المرأة وأمسكوا بها، حاولت الصغيرة أن تردعهم حتى أنها صارت تضربهم بقبضتها الصغيرة التي بالكاد لن يشعروا بها مع ضخامة أحجامهم إلا أن كرامتهم لا تسمح بأن يتطاول عليهم أحد،
اتجه نحوها أحدهم ووجَّه لها صفعة سقطت أرضا على أثرها ولم تكف عن البكاء، لم يكن ألم الصفعة أشد من ألم فراق والدتها التي ستلقى حتفها.
نظرت الصغيرة "جويرية" لهؤلاء الجلادون فرأتهم كالوحوش الهائجة، بالطبع هم كذلك، كانوا يمسكون بوالدتها من كلا ذراعيها ويتجهون بها نحو باب المنزل رغماً عنها،
كانت تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تتملص من بين قبضاتهم ولكن بلا شك لم تستطع أن تتغلب عليهم فبكل محاولاتها لم يحرَّك لهم ساكناً ولم يتأثر أي منهم.
في ساحة القرية
أتى أحد الجلادين ونصب جزع النخلة الذي اعتادوا عليه سائر الأهالي فبمجرد نصب ذلك الجزع يعرفون جميعاً أن أحدهم سيُعدم، كان الجزع مثبت جيداً في الأرض لذا فلن يستطع أي من المذنبون الفرار أو التملص.
تجمعت الأهالي والتفوا حول ذلك الجزع بينما أتوا الجلادون وبين أيديهم والدة جويرية، أمسك بها أحدهم والآخر أتى بحبل متين وأحكم العقدة حول جسدها وجعلها مثبته بإحكام مع الجزع.
كانت جويرية تهرول ورائهم حتى تلحق بهم ولكنهم كانوا أسرع منها، كل ما كان يجول في خاطرها أنها ستساعد والدتها كي تتخلص من أولائك الأوغاد،
كان عندها يقين وإيمان بأن والدتها ستستطع أن تتخلص منهم وتعود إلى صغيرتها سريعا حتى تصنع لها لعبة كما وعدتها قبل أيام.
انغمست جويرية وسط الزحام حتى أصبحت قبال والدتها، شهقت بالبكاء، لم تستطع أن تتفوه بكلمة واحدة كانت تظن أنه حالما تصل إلى الساحة ستجد جثمان ذلك الوغد الذي لطم جويرية ولكنها كانت ستتقيأ أحشائها حزناً عندما رأتها بتلك الحالة،
فجأة أفسح الناس الطريق من خلف جويرية فنظرت سريعا، حينها رأت كرسي خشبي مزخرف وُضع عند الشجرة الرابضة في مواجهتها، لم يمر سوى عدة ثوانٍ حتى أتى رجل يبدو عليه أنه رُدَّ إلى أرذل العمر، جلس على كرسيه بكبرياء إنه حاكم القرية،
ففور وصوله الساحة إنحنى كل الأهالي.
كانت الإبتسامة تتسع أعلى شفتيه كلما رأى الإحترام والتقدير والخوف من جهة رعيته فيظن بذلك أنه يفعل الصواب.
مد الحاكم يده على جانبه الأيسر فوضع الجلاد القوس والسهم في قبضته، نظر الحاكم إلى والدة جويرية وقال:
_ ما إسمكِ يا امرأة؟!.
كانت نظراتها تجاهه ثاقبه، تود لو أن بإمكانها الإفلات فقط من أجل أن تُريق دمائه ستعتبر ذلك شرف كبير لها لأنه حينها ستكون تخلصت من مخاوفها ومخاوف الجميع،
نظر الحاكم إلى أحد الجلادين فاتجه نحوها ولطمها بقوة قائلاً:
_حينما يتحدث إليكِ الحاكم لا تطيلي النظر إليه بل ضعي رأسك في الأرض وأجيبيه، أظهري بعض الإحترام والولاء لحاكمك قبل موتك، رفعت رأسها بشموخ وقالت وهي تنظر لعينيّ الحاكم:
_إسمي عائشة،
نظر إليها الحاكم وقد بدا على وجهه التعصّب فقال:
_ما إسم زوجك؟!.
نظرت إليه بحقد وقالت:
_صادق، هل تتذكره!! ذلك الخادم المخلص الذي قتلتموه دون شفقة أو رحمة لا بُد وأنك تتذكر،
تدفق الدم في وجه الحاكم حتى صار أحمر اللون فقال:
_هذا مصير الخائنين، هل إشتقتِ إليه؟! سنرسلكِ إليه وسيكون ذلك من دواعي سروري، ولكن كما تعلمين أنا لا أريد أن أشكك رعيتي في رفق قلبي لذلك لديكِ فرصة أخيرة للنجاة حتى من أجل تلك الصغيرة الجاثية على ركبتيها أمامك، إما أن تتزوجي وإما الموت،
نظرت عائشة في الفراغ وقالت وهي تتعمد عدم النظر إلى الحاكم:
_لقد أخبرت أعوانك من قبل أنني لم ولن أتزوج، لقد سبق لي الزواج وتوفى زوجي وكما عهدت على نفسي أنني لن أتزوج من بعده، فلنلتقي أنا وهو في الجنة هذه علاقة لا ترحب بطرف ثالث، أهذا الرد يكفي!!.
تبسَّم الحاكم ووجّه حديثه لجويرية قائلا:
_آمل أن تكوني قد فهمتِ الآن يا صغيرتي، والدتك تتخلى عنك وتأبى اغتنام الفرصة كي تظل من أجلك، فور موتها لا تنعتيني بالحاكم الظالم اتفقنا!!.
نظرت جويرية إلى والدتها وقالت:
_لا يوجد رجل أحق بأمى أكثر من أبي، إن قوانينكم مجحفة بنا،
تحرك أحد الجلادون ناحية جويرية وقد نوى أن يلقنها درساً على وقاحتها مع الحاكم،
وما إن اقترب منها حتى صاح الحاكم قائلا:
_اتركها وشأنها، حديث الصغار لا يؤخذ في عين الإعتبار،
كانت أحاديث الناس الجانبية تزعج عائشة ولكنها لم تكترث، نظرت نحو الحاكم فوجدته يمسك بالقوس خاصته والسهم ويصوّب نحوها،
ابتسمت عائشة ونظرت نحو جويرية وقالت:
_أحبكِ حباً جما يا عزيزتي ليحميكِ الله أينما كنتِ، أغمضت عينيها وتذكرت كل شعور جميل عاشته برفقة صادق زوجها ووالد جويرية
*فلاش باك*
كانت عائشة في سن الخامشة عشر عندما تعرفت على صادق الذي كان يبلغ من العمر حينها ما يقارب إلى الثانية والعشرون، التقيا حينما كانت في الأرض الزراعية التي تقبع خلف منزل والدها، أتى كي يرى والد عائشة ولكنه لم يكن هناك،
كان صادق ذلك الشاب اليافع الذي يتمتع جسده بالصحة والعافية، كان طويل القامة بشوش الوجه، لم تكن بشرته داكنه بل كانت قمحية زُيِّنت بلحية خفيفة زادته وسامة،
كانت الفتيات يتغزلن فيه أينما ذهب ولكنه لم يلقِ لهم بالا فقد تعلق قلبه بتلك الفتاة التي رآها في المزرعة، كانت تجمع الفاكهة الناضجة وتضعها في مكتل ومن ثَم تذهب به إلى أعوان الحاكم وتأخذ منهم العملات الفضية وأحيانا عملات نحاسية،
كان صادق يراقبها عن كُثب، لقد أُثِر بكل ما تفعل وقد حفظ حديثها عن ظهر قلب، كانت ذكية تعي ما تفعل وكأنها فتاة في الثلاثين من عمرها، كانت تتحدث مع أعوان الحاكم بفطنة وذكاء حيث لم يستطع أي منهم أن يختلس أو ينصب عليها.
في يوم من الأيام قرر صادق أن يتحدث إليها، فقد قضى سنة بأكملها يراقبها أي صار عمرها ستة عشر عاماً، وهذا يعني أن عمرها قارب سن الزواج ومن الممكن أن يتزوجها شخص غيره وبالتأكيد هو لن يسمح بذلك فمنذ أن رآها أول مرة قد شغفته حباً.
ذهب إلى المزرعة ووقف عند البوابة وظل يراقب حركاتها إلى أن انتبهت إليه فاتجهت نحوه وقالت:
_مرحبا سيدي، هل تود أن تبتاع الفاكهة؟! أي منها تريد؟!.
نظر إلى عينيها البنية التي أثرته دون أدنى مجهود منها، كان يطيل النظر إليها ولم يتفوه بأي كلمة،
كادت أن تتحدث لولا أن قال بينما كان لا يزال ينظر لعينيها:
_الفاكهة التي أريدها بحثت عنها مليا ولم أجدها بعد، ولكن يبدو أنني عثرت عليها وأخيراً،
أخرجت عائشة قائمة من جيب معطفها ومدت يدها بها نحوه وقالت:
_هذه هي الأصناف المتوفرة لدينا،
أمعن النظر فيها وأخبرني إن وجدت ما تبحث عنه،
تبسم صادق وقال بابتسامة صعقت فؤاد عائشة ولكنها لم تبدي ذلك وتظاهرت بأنها لا تكترث،
ولكنها انتبهت للغمازة التي توجد في خده الأيسر:
_إن كانت كل تلك الأصناف الموجودة في القائمة فاكهة، فماذا تكونين أنتِ؟!،
نظرت إليه عائشة ورفعت حاجبها الأيمن وقالت:
_ ما رأيك في أن أصفعك بقوة حتى لا تجرؤ على مغازلتي ثانيةً؟! أغرب عن وجهي،
تركته عائشة وعادت إلى الداخل وهي تشعر أن الفراشات تتطاير من فؤادها.
بعد مرور يومين،
بعد انتهاء عائشة من عملها في المزرعة، عادت إلى منزل والدها، عندما دلفت إلى الداخل فوجئت به يجلس برفقة والدها، كانت تحدق فيه وقد اضطربت كثيراً، وعلى الرغم من ذلك كانت سعيدة للغاية.
مرت عدة أشهر ومن ثَم تزوج صادق من عائشة، كانا ثنائي غاية في الروعة، كان صادق يود لو أن يأتي لها بملء الأرض كل ما تشتهي، لم يكونا من الأغنياء في القرية ولكنهما أحبا بعضهما وقد أغناهم ذلك الحب.
كانت عائشة نعم الزوجة، في الأمور الجدية تكون امرأة ناضجة وتحسن التصرف في الأمور الأكثر تعقيداً، وأحيانا تكون كالطفلة ويصعب على صادق أن يرضي الطفلة التي تكمن بداخلها.
كان بيتهم صغير لا يسع سواهم وقلبيهما، كان صادق عندما ينتهي من عمله يذهب إلى مزرعة والد عائشة ويساعدها في عملها، كان يظل بالقرب منها عندما تتحدث مع المشترين،
كان يغار عليها ولم يتحمل مجرد حديثها مع أي رجل لذلك تولى هو أمر الشراء والبيع بدلا منها.
مرت السنين وحبهم ما زال كما هو بل وأصبح في تزايد، مع مرور الوقت كانا يحبان بعضهما كاللذان التقيا من جديد لم يمل أو يكل أي منهما، بل على النقيض تماما فقد كانوا أهل القرية دائما يتهاتفون حول قصتهما.
مرت سنوات ولم يُرزقا بطفل بعد، أصاب الحزن قلب عائشة حتى أصبحت لا تتحدث كثيرا، تظل تعمل طوال النهار حتى تغط في نوم عميق فور العودة للمنزل، كانت تظل تعمل كثيرا أكثر مما يجب عليها،
كانت تتهرب من الواقع الذي أطفأ شيء كان متوهج بداخلها، لم يمر ما تفعله عائشة على صادق مرور الكرام لذا قرر أن يتحدث معها في ذلك الشأن.
في يوم من الأيام استيقظت عائشة وأعدت الإفطار كالعادة، وتجنبت تبادل أطراف الحديث مع صادق، لم يروقه ذلك فجذبها وجعلها تجلس بجانبه وقال:
_هل فعلت شيء زعج زوجتي لذلك هي تتجنب الحديث معي؟!.
ابتسمت عائشة وحركت رأسها بالنفي، فابتسم هو بدوره وقال:
_إذاً لماذا زوحتي الجميلة حزينة هكذا؟!.
اغرورقت عينا عائشة وقالت وهي ترتشف دموعها:
_لقد مرت سبع سنوات ولم نرزق بطفل حتى الآن، إنني أشتاق لأن أحمل بين احشائي قطعة صغيرة منك،
كلما طرأ ذلك الموضوع في عقلي أشعر أن هناك خنجر ينغرس في قلبي ويتلفه،إنها أمنيتي الوحيدة أخشى أن لا تتحقق أبدا، أعلم أنك تتوق لأن تحمل طفلك بين يديك ولكنني لم أستطع بعد أن أحقق لك أمنيتك،
مسد صادق على شعر عائشة وقبَّلها في كلا خديها وقال مداعبا لها:
_ولمَ أتوق لذلك بينما أنتِ معي؟! أمر الإنجاب بيد الله وليس لنا في الأمر شيء لنفعله، أنا سعيد هكذا أنتِ طفلتي وصديقتي ووالدتي وأختي وحبيبتي،
أتعلمين سراً؟! ربما أخر الله أمر الإنجاب كي ننعم بسنوات الحب هذه فكما تعلمين الأطفال مزعجون للغاية ولن يتركون لنا بعض الوقت كي نقضيه سويا، إنها حكمة الخالق، ونحن لن نعترض على ذلك.
عندما بلغت عائشة سن الرابعة والثلاثون، كانت ما زالت تلك الفتاة التي عشقها صادق، لم يتغير شيء إنهما يحبان بعضهما البعض كما لو أن الحب خُلق خصيصا من أجلهم.
في يوم من الأيام شعرت عائشة بالدوار حتى أنها لم تستطع الذهاب إلى العمل، لم ترد إخبار صادق بذلك حتى لا ينشغل باله بها ولكنه سرعان ما لاحظ ذلك فكيف لا يشعر بها وقد أصبح ما يصيبها يصيبه!!!،
أتى لها بالحكيمة التي تعالج النساء، وعندما اتطلعت عليها أتت لهم بالبشارة التي انتظروها سنوات طويلة، لقد أخبرتهم أن عائشة تحمل بين أحشائها قطعة صغيرة من صادق،
لم تكن الدنيا برمتها تسع السعادة والإغتباط اللذان كانا يسيطران عليهما حينها، تلك لم تكن فرحتهم بمفردهم بل سائر أهالي القرية شاركتهم تلك الفرحة،
كانت الأيام تمر عليهم في سعادة عارمة وقد اعتادا كل ليلة بعد تناول العشاء أن يتحدثا إلى الجنين ويضحكان وكأنهم يتبادلون معه أطراف الحديث،
قبل أن يغط صادق في نوم عميق قالت له عائشة:
_ماذا تريد أن أنجب؟! فتاة أم صبي؟!.
نظر إليها صادق وقال:
_ما أريده حقا أن تضعي المولود وتكونا أنتما الإثنين بخير وصحة وعافية، إن كانت فتاة أود أن تكون تشبهك كثيراً، وإن كان صبي أريده يشبهك أيضا،
ضحكا هما الإثنين وقالت عائشة:
_إن كان صبي أوده أن يكون مثلك تماما حنون يحمل الرفق كله الذي بالعالم في قلبه، وأوده خفيف الظل مثلك أيضا،
ضحكوا وباتوا يخططون للمستقبل برفقة المولود وبعدها انخرطوا في النوم بثبات عميق
#صغيرة_الكُتَّاب